الربا، بعداه المادي والروحي في الرؤية القرآنية – الفصل الأول

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله الربا بعداه المادي والروحي في الرؤية القرآنية

في المحاولة التي خصصتها لدراسة العلاقة بين الاقتصادي (انتاج الثروة) والثقافي (انتاج التراث) ركزت خاصة على البعد المعرفي من الثقافي ودوره في الاقتصادي دون أن أهمل البعد الذوقي منه. فالأول يمثل العلة الفاعلة والثاني العلة الغائية بالاصطلاح الفلسفي الأرسطي الذي تبنته فلسفتنا الوسيطة. وسبق أن اعتبرت البعد المعرفي من الثقافي مثله مثل البعد الجمالي عائدا إلى مقومي الذوق الأصليين أعني ما اصطلحت على تسمية استعاريا بفن المائدة (الغذاء) وفن السرير(الجنس) لأن كيان الإنسان العضوي له هذان البعدان المقومان لوجوده ومنهما أو على أساسهما يتجلى الروحي تعاليا على العضوي. وتلك هي دلالة كلمة “فن” المضاف إلى المائدة والسرير في المصطلح الاستعاري الذي وضعته. فالمائدة والسرير المضاف إليهما كلمة “فن” هما الاستعارة الدالة على الذوق العضوي غذاء وجنسا و”فن” المضافة في الحالتين هو التعالي على الذوق العضوي والدال على الذوق الجمالي النابع منهما. فيكون الجمالي متقدما على المعرفي تقدما وجوديا بمقتضى تقدم الغاية على الوسيلة: المعرفي وسيلة في الذوقين العضوي والمتعالي عليه والجمالي غاية في الذوقين العضوي والمتعالي عليه. وهو لا يظهر في العضوي إلا بعد تجاوز الضرورة والحاجة إلى الكمالي. لكن الضرورة قد تستجمل أي غذاء وأي جنس. فلا يكون الاستجمال في تلك الحالة دالا على الجمال المتعالي بل هو سلبي يفيد ما تعبر عنه الحكمة الشعبية “جوع تأكل بالعسل” وهو ثمرة الحرمان وليس ثمرة العنفوان. ولهذه العلة فإن بعدي القيمة الاقتصادية أي قيمة الاستعمال وقيمة التبادل علة التمييز بينهما هي هذه المقابلة بين نوعي الجمال. وهذه الإشكالية هي التي اريد أن أتكلم فيها اليوم. ويمكن من المنطلق أن أشير إلى أن النقص في سد الضروري من الحاجات يولد الاستجمال السلبي أو التعويضي فينتج عنه تقديم القيمة الاستعمالية عن القيمة التبادلية في المجال الاقتصادي والقيمة التبادلية عن القيمة التواصلية في المجال الخلقي. ولتيسر الفهم فالتقديم في المجال الاقتصادي يتضح خاصة في الحروب حيث يصبح الاستعمالي مقدما على التبادلي من القيم فتصبح رسوم أكبر رسام أقل قيمة من كسرة خبز في الحرب. والتقديم في المجال الخلقي يمكن لكلمة طيبة وصادقة من صديق أن تفضل كل مال الدنيا في لحظات يأس الإنسان من الحياة. ولذلك فالجمالي ليس هو الذوقي المتعالي الوحيد بل يوجد معه الخلقي وأصلهما الجهوي أو القدرة على التمييز بين الجهات (الممكن والواجب والممتنع) أصلا للحرية صفة وجودية للإنسان وقبل الذوقي الجمالي والذوقي الخلقي نجد الذوقي المعرفي والرؤيوي عندما يتجاوزان الوظيفة الأداتية فيطلبا لذاتهما. ويمكن أن أدعي أن ما سميته الفرق بين الفقرين المادي والروحي سره في هذه العلاقة بين الذوقين: الاستجمال السلبي بمعنى أن الجائع غذائيا أو جنسيا يستجمل أي مأكول وأي منكوح في حين أن الاستجمال الموجب هو ما ينتج عن عدم الجوع فيهما ومن ثم عن حرية اختيار الجميل في ذاته وليس بإضافة. وبيت القصيد من هذا التمييز هو التمييز بين الموفقين من الدين: يوجد التدين التعويضي وهو الاستسلام للموجود الدنيوي واعتباره رضا بقضاء الله وقدره توهما أن الجزاء سيكون في الاخرى خلافا لرؤية القرآن والتخلي عن السعي إلى المنشود من أجل التحرر من الفقر المادي لإدراك الفقر الوجودي. والوعي بالفقر الوجود هو الذي يجعل الإنسان سيدا على المال بدلا من أن يكون مسودا به. ولا يكون المرء سيدا على المال الذي يعتبر مقداره بالإضافة إلى الضروريات معيار الفقر المادي إلا بعد الشعور بأن المقدار مهما بلغ لن يحل مشكل الفقر الوجودي والذي يعتبر الشعور به بداية التدين الصادق. فتكون المقومات الخمسة وقيمها الموجبة هي جوهر الديني في الإسلام: حرية الإرادة وحقيقة العلم وخير القدرة وجمال الحياة وجلال الوجود. فمن دون هذه المقومات بقيمها الموجبة لا يكون الإنسان جديرا بالاستخلاف التي هي منزلته الوجودية في القرآن ولأجلها كرمه الله واعتبره أسمى من الملائكة. وتناسقا مع المقوم الأول -حرية الإرادة التي بمقتضاها يكون الإنسان في امتحان دائم لجدارته بالاستخلاف ومسؤوليته عما يفعل بذات- يمكن للإنسان أن يفقد الحرية فيصبح عبدا فتخلى عن الحقيقة تفضيلا للباطل وعن الخير تفضيلا للشر وعن الجمال تفضيلا للقبح وعن الجلال تفضيلا للذل. وهذه الحالة هي الشرك أو الاخلاد إلى الأرض وعلامتها أن الإنسان يصبح مسودا لا سيدا للرمزين المقومين للاقتصاد والثقافة أو للثروة والتراث أعني رمز الفعل أو العلمة وفعل الرمز أو الكلمة اللذين يتحولان إلى سلطان على الإنسان بدلا من أن يكونا أداتين للتبادل والتواصل. وعندما تكون العملة والكلمة سيدتين على الإنسان بسبب طغيان الضرورة المادية عل التبادل والتواصل يكون الإنسان تابعا لدين العجل لأن العملة هي معدنه والكلمة هي خواره. وكل تحريف للديني كما يعرفه القرآن يرد إلى دين العجل أو ينتج عن دين العجل: الإخلاد إلى الارض الناتج عن الفقر المادي. ولما يقع الخلط بين الفقرين المادي والوجودي يصبح معنى الدين هو المعنى الذي ظنه ماركس حقيقته: مجرد أفيون أو الدين التعويضي للقبول بأحكام المافيات بدلا من الدين الموجب الذي يجعل الإنسان حر الإرادة صادق العلم خير القدرة جميل الحياة وجليل الوجود: وتلك هي معاني الإنسانية (ابن خلدون). فيكون قصده بـ”فساد معاني الإنسانية” هو مفهوم الخسر القرآني وهو الرد إلى اسفل سافلين بمعنى أن العبودية تعوض الحرية والباطل الحقيقة والشر القدرة والقبح الجمال والذل الجلال. وكل اقتصاد وثقافة مترددان بين هذين الموقفين. فإما أن علتهما الغائية هي الموجب من هذه القيم أو السالب منها. ولولا هذه الحقيقة العميقة لما فهمنا أمرا جللا غابت دلالته عن مفسري القرآن الكريم: ما العلة في مركزية الاقتصادي في رؤية الإسلام للحياة الدنيا وفي مركزية الرؤية الاقتصادية في الكلام على الرؤية الأخروية؟ وما العلة في تحريم الرؤية الربوية في الماديات وتأسيس الرؤية الروحية عليها؟ كنت في شبابي لا افهم من كلام القرآن على الله وكأنه يتاجر مع الإنسان في حسبان السيئات والحسنات خلقيا وروحيا ويرابي في حين أنه يحرم الربا في الماديات والدنيا. ولما بدأت أبحث عن المعاني العميقة لما كان يحيرني في شبابي وجدت ان الامر كله يكمن في المقابلة بين دين الله ودين العجل. فدين الله هدفه الحرية والحقيقة والخير والجمال والجلال منزلة قيمية تناسب المنزلة الوجودية التي يمثلها الاستخلاف ودين العجل هدفه العبودية والباطل والقبح والذل وهم منطق تحويل العلمة إلى سلطان مادي على الإنسان بدلا من كونها أداة تبادل لا غير والكلمة عليه بدلا من كونها أداة تواصل. وتحويل الكلمة من أداة تواصل إلى سلطان على المتواصلين هو الربا الثقافي وهو أساس الوساطة الروحية بين الإنسان وربه (تربية الكنيسة وما يماثلها عند من يسمون علماء في الملة) وتحويل العملة من أداة تبادل إلى لسلطان على المتبادلين هو الربا الاقتصادي وهو أساس الوصاية بين الإنسان وأمره. والتحويلان من اداة التواصل إلى السلطان على المتواصلين ومن أداة التبادل إلى السلطان على المتبادلين شرطهما الربا المادي المحرف لشروط قيام الإنسان العضوي والروحي المحرف لشروط قيام الإنسان الروحي وهما إذن جوهر دين العجل الذي يتأسس على مفهوم الإخلاد إلى الأرض ومنزلة الكلاب اللاهثة. فتكون المقابلة بين دين الله ودين العجل هي عين المقابلة بين المنزلة الوجودية للإنسان الخليفة التي يعتبره ابن خلدون رئيسا بالطبع لأنه يتصف بمعاني الإنسانية يطلب الحرية والحقيقة والخير والجمال والجلال المنزلة الوجودي للإنسان الكلب اللاهث الذي يعتبره ابن خلدون مرتدا إلى نقائضها. ولذلك فسنصطلح من الآن فصاعدا على المقابلة بين اقتصاد وثقافة مناسبين لمنزلة الإنسان الوجودية التي تجعله جديرا بالاستخلاف ورئيسا بالطبع لأنه يطلب معاني الإنسانية (ابن خلدون) واقتصاد وثقافة مناسبين لمنزلة وجودية تفسد هذه المعاني فتكون النسبة بين الدينين هي المحددة للنسبة بينهما. ولولا اكتشاف هذه الحقيقة التي تمثلها المقابلة بين الديني في القرآن ودين العجل كما يحددها في كلامه على جريمة بني إسرائيل لما غاب موسى عليه السلام لما اعتبرت الإسلام مستقبلا للإنسانية بشرط أن يتحرر المؤمنون به من الفهوم التي كادت تحرفه فتلغي كونيته كما حرفت الأديان الجزئية قبله. ومن دون هذه الرؤية القرآنية لا يمكن أن نفهم الأمرين المحيرين في إشكالية الاقتصاد الربوي ماديا والثقافة الربوية روحيا: فكيف يمكن للمسلم أن يفهم أن لله بذاته العليا يعلن الحرب على أداة الاستعباد أو الربا المادي ويعتبر القول المنافي للفعل أداة الربا الروحي أشد شيء مقتا عنده؟

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي