ه
الآن وقد هدأت عاصفة الخلافات حول الترحم على الرئيس مرسي الذي اغتالته يد الغدر والغباء وحتى لا نكتفي بالكلام على فضائله الخلقية ومثاليته السياسية أريد أن أشرح علة موقفي منه ومن المنصف المرزوقي-قبله وعدم اقتناعي به رئيسا لتونس- ومن كل من يعتقد أن السياسة فن الأقوال والنوايا الحسنة التي لا تطبق أول قواعد الفعل السياسي أعني الاستعانة على قضاء الحاجات بالكتمان. فكل تصريحاتهما منافية لنجاعة الفعل السياسي لتنافيها مع طبيعته دون ان تكون هذه مكرا أو خداعا أو خاصة كذبا ونفاقا.
هذا الكلام قلته مباشرة للدكتور المرزوقي لما سألني عن موقفي منه في لقاء حصل مؤخرا بيننا بمناسبة إحياء ذكرى الدستور الذي لا أكاد أقر فيه شيئا يذكر ليقيني أنه لا يناسب تونس وظرفها لأنه ليس أداة عمل سياسي بل قصيد مبعثر في النوايا الحسنة مستحيلة التطبيق.
ولو صادف فالتقيت برئيس مصر المغتال لقلت له نفس الكلام. فحديثه عن “غذائنا وسلاحنا ودوائنا” أولا لم يكن ضروريا لأنه من البديهيات في كل دولة ذات سيادة وثانيا الكلام عليه لا يعني السعي لتحقيقه بل هو تعويض لا يقدم ولا يؤخر إذ إن ذلك يتطلب عقودا وليس دورة واحدة حتى لو أتمها.
وليس هذا فحسب.
فهو يعلم كما يعلم المرزوقي في تونس لما كان رئيسا أنه ليس له سلطان فعلي على الأحداث لأن الاسم لا يطابق المسمى دائما وخاصة في دول عديمة السيادة بل هي محميات. وهنا أتكلم على شيء لم أكن بعيدا عنه لأني كنت وزيرا مستشارا لرئيس الحكومة الذي من المفروض أن يكون هو صاحب السلطة الفعلية بمقتضى الدستور المؤقت.
لكنه في الحقيقة لم يكن ذا سلطان لا على الإدارة عامة ولا خاصة على أدوات فعل الدولة أعني وظائفها العشرة (خمسة للحماية وخمسة للرعاية وقد أطلت في تفصيلهما سابقا). وقد اعترف بذلك في ندواته التي حضرت بعضها في مركز التميمي لأن سلطانه فضلا عن ذلك كان تابعا لسلطة خاصة بالحركات الإسلامية.
وسأكتفي ببعض أمثلة أختم بها هذه العجالة.
فالمرحوم يلام مثلا عن تعيين السيسي قائدا للجيش. ويزعم الكثير أنه خدع بتقيته وبتظاهره بالتقوى. وأنا شخصيا لا اعتقد أنه كان غبيا حتى يجهل مثل هذه المعلومات لو كان الأمر بيده. لكني اعتقد أنه لم يكن له سلطان على تعيين أحد في الجيش والداخلية والقضاء. ولو فعل لكان من يعينهم عديمي السلطان.
وهدفي من هذا الكلام ليس ذمه بل بيان أن الحكم له أو عليه سياسيا عديم المعنى من دون اعتبار هذه العناصر. لذلك فالحكم ليس عليه بل على معنى السياسة في مثل هذه الحالات وخاصة معنى علاقة الأقوال بالأفعال فيها. كان يمكن لو كان حقا يميز بين القول والفعل أن يفعل ما يقتضيه الفعل وأن يقول ما يقتضيه القول في العمل السياسي.
كثيرا ما تسمع بعض دارسي ابن خلدون يدعون أنه كان قلبا وكان لا يستأهل أن يوثق به لأنه “ماكيافالي”. وفي الحقيقة لو كان ماكيافاليا خلقيا لما كتب المقدمة التي حدد فيها قوانين الفعل السياسي وشروطه وأولها الحاجة إلى الشوكة التي تفرض تطبيق القانون عند الضرورة. لكنه كان يعلم أن السياسة حرب وأن الحرب خدعة وأن الخدعة في الحرب بشرط ألا تكون غدرا فتحترم العهود والمعاهدات وأن تكون دفاعا مشروعا ولو استباقيا فهي عين الأخلاق خاصة إذا صحبتها أولى رؤية الفروسية للحرب واخلاقها التي أوصى بها الصديق.
ولأضرب مثالا ثانيا: كلام المرحوم على سوريا. كلنا يعلم أنه كان كلاما عديم الفاعلية. وأن الممكن وراء هذا الكلام مما كان قادرا عليه كان يمكن أن يحصل دون كلام. والمعلوم أن هذا الممكن قليل وقليل جدا إذ لا توجد حدود مشتركة بين مصر وسوريا وليس لمصر إمكانية تخطي من يحيط بسوريا وخاصة بعد التدخل الروسي أو حتى قبله. إذن كان كلاما عديم الفاعلية بل لعل فاعليته عكسية.
والمثال الثالث كلامه على مساعدة حماس. نعم غزة جارة لمصر بل وكانت إحدى ولاياتها قبل «انتصارات» عبد الناصر مثلها مثل السودان. لكن بينهما سيناء وهي محتلة أو شبه محتلة بمقتضى كامب داود. ولم يكن بوسع مصر التحلل من شروطها. كان يمكن لمصر أن تساعد بقدر محدود وبطريقة التهريب وليس بالقدر العلني الذي لا يمكن أن يتجاوز الكلام ثم إن مصر ليس لها إمكانيات اقتصادية ولا دبلوماسية كافية للمساعدة من دون الاستناد إلى الخليج.
وهو ما يعني أن قيادات مصر الإسلامية كانت من السذاجة بحيث تتصور أن انظمة الخليج يمكن أن تساعد ما لو تحقق لكانت نهايتها أي ثورة شعبية تعطي الحكم لإسلام مغاير للذي صار عندهم أعني إسلام الجامية الذي لا يختلف عن إسلام الملالي إلا بكون هذا يدعو لوصاية آل البيت وذاك لوصاية آل القبيلة.
لذلك فعندما يقال إن الإسلاميين ليسوا مستعدين للحكم فإن ذلك لا علاقة له بعدم الخبرة في مناورات الحكم في ظرف عادي فحسب بل بعدم العلم بمحددات الفعل السياسي في ظروف المحميات التابعة لمستعمر يخترق البلاد والعباد ويسيطر على ما يسمى دولة عميقة وهي دولة المافيات التي تنهب ثروات البلاد وتستعبد العباد. وكل ذلك لا يكفي فيه الأقوال التي يسهل فيها كل شيء وخاصة العنتريات بل لا بد من تناسب الأفعال مع شروطها الفعلية كحرب لطيفة وعنيفة في آن.
وإذا كان فيلسوف الاستراتيجيا -كارل فون كلاوسفيتز-قد عرف الحرب بكونها سياسة بوسائل عنيفة فإني أعرف السياسة بكونها حربا بوسائل لطيفة وهي من ثم حرب مؤجلة وينبغي ألا تنسى إنها قد تتحول إلى وسائل عنيفة وحرب معجلة وذلك في الداخل وفي الخارج. ولهذه العلة كانت الدولة في أي جماعة ذات بعدين: شرعية وشوكة مع تغليب تلك في الداخل وهذه في الخارج.
ولن أعجب إذا ما اتهمني بعض الإسلاميين بأني أدعو للخبث في السياسة ومن ثم فأنا ضد قيم الإسلام فيها. وهذا أيضا من السذاجة. ويكفي أن نذكر دولة الإسلام على الأقل في الخلافة الراشدة.
هل كان الخلفاء يتكلمون على أهدافهم من الفتح قبل تطبيق شروط الأنفال 60؟
هل يعمل بها عربي اليوم؟
وهل كان أبو بكر الصديق يستطيع -مع المحافظة على وصاياه لجيش الإسلام المتعلقة بأخلاق الحرب-منع تفرق قبائل العرب وعودتها إلى الاقتتال حتى بعد ربح حرب الردة لو لم يسارع فيشرع في الفتح الذي هو -كالحال دائما في الحروب الخارجية -الطريقة المثلى لتوحيد الجبهات الداخلية خاصة إذا كانت تجمع إلى ذلك الهدف الأسمى دون أن تخلو من الهدف الدنيوي بمنطق الحرب الذي فيه دائما ثمرات النصر الذي يسميه أعداء الإسلام ثمرة الغزو؟
وهل يوجد جيش عربي اليوم يمكن الزعم بأنه قادر على حرب حتى مع مليشيا الحوثي؟ يمكن أن يضطهد شعبه لكنه عاجز على محاربة قبيلة بدائية حتى لو سلمنا بأن إيران تساعدها ومعها حزب الله. ولا ننس أن جيش السعودية أكثر جيوش العرب تسليحا حديثا. الحروب بالرجال وليست بالسلاح ولا بالمال.
هل جيش مصر سنة 67 هزم لنقص في السلاح؟
وهل نصف النصر سنة 73 لزيادة في السلاح؟ حسن هل كان المرحوم يجهل أن ما بعد كامب داود أبقى على جيش 73 أم عوضه بقيادات خائنة فصفي كل من يشتم فيه رائحة الوطنية فضلا عن الإسلام؟
كيف كان يتكلم على الحرب على سد اثيوبيا؟
هل يجهل استحالة ذلك؟
ما الحل؟ طبعا ليس عندي حل سحري. لكن الحل الذي يعلمنا إياه التاريخ الإنساني عامة وتاريخ ثورة الإسلام خاصة هو البدء بالبناء الهادئ والصامت ومهادنة الاعداء بالأقوال خلال اعداد شروط الأفعال. فلو لم يكن معاوية عاملا بهذه السياسة لما حررت دولته كل المشرق والمغرب وبعض أقاليم أوروبية من فارس وبيزنطة.
ولما أسمع بعض الحمقى يعتبرون ما فعله الحجاج في العراق (ضد شيعته) وحتى في مكة (ضد حفيد الصديق) لإنهاء الحروب الأهلية بتبني مواقف الباطنية والشيعة من الدولة الأموية أفهم أن النخب العربية تقيس الماضي على الحاضر نفاقا وتدعي أن الاستقرار السياسي كان موجودا ولم تكن اربعة حروب أهلية قد كادت تنهي دولة الاسلام وأن حالة الطواري كانت ضرورية لتدعيمها وأنها بعد زوال دولة بني أمية عادت الأمة إلى التفتت.
ولأعد إلى الحاضر فلو واصل أردوغان منطق زعيمه السابق فواصل الكلام على وحدة القوى الإسلامية الثمانية- ولم يتوخ سياسة معاوية مع الغرب والقبول بشروطه بخصوص الانتساب إلى اوروبا مع يقينه أن ذلك مستحيل- لما وصلت تركيا لما نراها عليه الآن رغم أني مازلت أخاف عليها من الكلام على التحديات التي ليس لتركيا الآن بعد القدرة عليها. بوسعه أن يقول ذلك في خطابه الداخلي وغير العلني أن يجعله خطابا علنيا فهذا لا عمله وقد يقوي خصومه في الداخل وفي الخارج دون حاجة.
وأختم بمعنى القوة عند من يعلم طبيعتها وكيفية استخدامها. لو كانت إسرائيل تعتمد على القوة المادية وحدها والعنف الأعمى دائما لاستطاعت أن تحتل ما حولها بسرعة. لكنها تعلم أن ذلك يكون ضد أهدافها البعيدة والتي هي جعل من حولها يصبح طالبا منها أن تحتله لحمايته من عدو تخيفه به لأن العدو هو بدوره أحمق -إيران- التي تتوهم أنها قوية وهي أوهى من بيت العنكبوت.
وقد قلت دائما إن أمريكا وإسرائيل لم يسمحا لإيران وحتى لروسيا باحتلال العراق وسوريا ولبنان واليمن لوجه لله بل لأن ذلك يحقق لهما ما يمكن أن يكلفهما ما يعتبرانه أغلى شيء عندما -قتلى من شعوبهم. وقد يؤول ذلك إلى أن الشعوب ستعتبر إسرائيل أرحم بهم من إيران إذا قارنوا احتلالها لفلسطين باحتلال إيران للعراق أو لسوريا. لذلك فيمكن استعمال أهل الإقليم لتحقيق ما ينوون الوصول إليه بجعل بعضهم يقتل وبعضهم يمول قاتليه.
فإذا طبقت هذا المبدأ تفهم أن العرب هم الذين يموتون وأن العرب هم الذين يدفعون أجر المرتزقة الذين يقتلونهم. فمن يمول مليشيات إيران بالسيف وبالقلم؟
ومن يمول مليشيات العلمانيين من الأكراد؟
ومن يمول الروس في حربه على الشعب السوري؟ ومن يمول ناتن ياهو في حربه على غزة؟
ومن يهود القدس بمخادعة الفلسطينيين زعما أنه يساعدهم بشراء دورهم ليهديها للصهاينة؟
ومن مول صالح والحوثي؟
ومن يمول كل أعداء الإسلام في الغرب بمن في حربهم على المسلمين في مستعمراتهم السابقة في مستعمراتهم السابقة؟
وأصل الآن إلى بيت القصيد:
فقد يستنتج الكثير أني انفي المهارات السياسية على الإسلاميين وأني من ثم أثبتها لمن كان يحكم قبلهم أو لمن يحكم بعدهم سواء في بلاد الربيع أو في بلاد الثورة المضادة التي تحتمي بإيران وروسيا أو التي تحتمي بإسرائيل وأمريكا. كلا وألف كلا فهؤلاء دون أولئك كفاءة سياسية. لكن ذلك من أكاذيب خصومهم الذين حكموا ما يقرب من قرن. ولم يكونوا ناجحين بل إن فشلهم كان نكبة وراء نكبة. صحيح أنهم فشلوا لكنهم لم يحكموا أكثر من سنة في مصر واثنان في تونس لأن الثالثة كانت كما يعلم الجميع سنة الاغتيالات.
كيف ذلك سأعتمد مقولة للفاروق وهي سياسية وخلقية في آن: قال لست خبا لكن الخب لا يخدعني. وقد يكون الإسلامي ليس خبا ولذلك فالخب يخدعني. وذلك هو معنى السذاجة التي تؤدي إلى الخلط بين القول والفعل في السياسة. لكن خصومهم في الثورة المضادة وحتى قبل الثورة وبعدها لهم تذاكي البلداء.
فعندما يبذر أمير بدوي غر أموال بلاده للتأثير في الإدارة الأمريكية أو الفرنسية فهو يتوهم أنه ذكي وأنه يخدع من يتظاهرون بالانخداع في هذه الإدارات ولوبيات الضغط: مثال ذلك ما فعله هذا المجرم اللبناني بأميري الثورة المضادة.
كان يضحك عليهما ويضحك من يدفع لهم عليهما ولا أستبعد عليه كذلك.
ويكفي سؤال واحد لفهم ذلك.
فـمن لا يقبل ما يقدمونه له من أجل أن يشاركهم في نهب ثروات بلادهم ولا يضر ذلك ببلاده بل يسهم في تحقيق استراتيجيتها؟
وعندما يدفع أمير السعودية لصهر ترومب فـمن المخدوع ومن الخادع؟
طبعا ليس صهر ترومب بل الذي دفع لكي يعد لتفتيت بلاده وتهديم سلطان أسرته فيها.
والثابت الذي لا جدال فيه هو أن السعودية لن تبقى دولة واحدة إذا سقطت الأسرة الحاكمة فيهاكما أنه إذا تولى هذا الأمير الأحمق الملكية فيها بعد أبيه العاجز عقليا فإن البلاد ستتفتت وأول من يخرج من وحدتها شيعتها ثم القبائل التي كان لها سلطان ما على بعض مناطقها بمن مولهم هذا الأحمق لإيصاله إلى كرسي الحكم بتصفية الأسرة الحاكمة والانقلاب على أعرافها التي هي شبه دستور.