لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله الذوق والعلم
الأسكيولوجي والإبستيمولوجي في فلسفة النقد العربية
المحتويات
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
– الفصل الأول –
من الغاز ابن تيمية “فالعلوم الأولية البديهية العقلية المحضة ليست إلا في المقدرات الذهنية كالعدد والمقدار لا في الأمور الخارجية الموجودة”.
هذه القضية محيرة بأمرين:
مقابلة بخصائص ابستمولوجية بين علم المقدرات الذهنية وعلم الأمور الخارجية الموجودة
ضرب مثالين من الأول دون حصر
ينتج عن المقابلة الأولى مسألتان ابستمولوجيتان:
– لعلم المقدرات أسمى الخصائص الابستمولوجية لكنه ليس علما بالأمور الخارجية الموجودة.
– وللنوع الثاني من العلم القدرة على علم الأمور الخارجية الموجودة لكنه فاقد للخصائص الأبستمولوجية السامية التي لعلم المقدرات الذهنية.
والسؤال الناتج عن هذين من المقابلة الأولى:
ما الذي ينقص الأول فيجعله فاقدا لقدرة الثاني؟
وما الذي ينقص الثاني فيجعله فاقدا لصفات الاول.
وينتج عن المقابلة الثانية مسألتان وجوديتان:
هل توجد مقدرات ذهنية مثالي ابن تيمية (العدد والمقدار) ؟
وهل توجد أمور خارجية غير الموجودة؟
فإذا جمعنا فروع القضية التي تتضمنها هذه الجملة المحيرة وطلبنا أصلها الموحد لها اكتشفنا ثورة ابن تيمية الفلسفية وتجاوزه لما تقدم عليها.
فعندما يقول ابن تيمية “كالعدد والمقدار” يعني أن هذين حالتين من المقدرات الذهنية التي تتضمن غيرهما. وعلينا إذن أن نحدد ما صدق “المقدار الذهني”.
وعندما يقول ابن تيمية “الامور الخارجية الموجودة” فما الأمور الخارجية غير التي ليست موجودة؟ وهنا أيضا فلنحدد ما صدق الأمور الخارجية عامة.
وعندما يعتبر المقدار والعدد مقدرين ذهنيين ويعتبر علمها أتم علم هل ينفي عنهما صفة “الأمر الخارجي”؟
أم صفة “الأمر الخارجي الموجود”؟
وكيف يكون الشيء خارجيا غير موجود؟
لا مخرج إلا إذا فهمنا من كلمة “موجود” هنا ما تضمره عندما يوصف بها الخارجي: الموجود تعني القائم بذاته.
فالعدد والمقدار أمر خارجي. لكنه غير قائم بذاته بل بإبداع الذهن الإنساني. فتكون الأمور الخارجية نوعين: موجود (بذاته) وغير موجود (بذاته).
وبهذا تنحل مسألتا المقابلة الثانية: الخارجي الموجود جزء من الخارجي والعدد والمقدار جزء من المقدرات الذهنية. وأصل الفروع الأربعة هو هذا التمييز.
العلم نوعان لأن المعلوم نوعان:
– ما لا يدين بوجوده للإنسان.
– وما يدين للإنسان بوجوده.
التمام الابتسمولوجي للثاني والتمام الوجودي للأول.
ومهما بلغت المقدرات الذهنية من التمام الإبستمولوجي تبقى قاصرة على مطابقة الخارجي الموجود فعلا لأن فيه ما لا يحاط به: تجاوز نظرية المطابقة.
وهذا حد ثورة ابن تيمية الفلسفية.
مسألتان لم تخطرا على باله: ما المقدرات الذهنية الاخرى غير العدد والمقدار؟
وما الأمر الخارجي غير الموجود؟
ذلك أنه كان يحاول حل مشكل العلم ولم يبحث في مشكل الذوق. والفرق بين العلم والذوق هو أن العلم يفترض تقدم موضوعه عليه. والذوق يفترض العكس.
وهو من ثم مصدر كل الخيال الذي يحتاج إليه العلم والفن: الذوق له قدرة إبداع ما يشتهيه في الخيال (مصدر الفنون) وينجزه في الواقع (مصدر العلوم).
ومن هنا استنتج ما أضفته لثورة ابن تيمية: المقدرات الذهنية تتجاوز العدد والمقدار إلى كل المبدعات الفنية والدينية الأدبية التي تبدع معلومها.
علوم الأمور الخارجية الموجودة تقاس على مبدعات التقدير الذهني بافتراض أنها هي بدورها مبدعات مثل المقدرات الذهنية لتعلمها كما تعلم مبدعاتها.
وقد رأينا أن للذوق مستويين والعلم مثله. فالذوق بمعناه الغذائي هو المحرك الأول للبحث عنه وهو مستوى العلم الأول يطلب سد حاجة مستواه الأول.
وإلى هذه العلاقة ترد كل علوم الطبيعة والتاريخ. لكن للذوق مستوى ثانيا وهو كذلك محرك مستوى العلم الثاني: وهو عالم الإبداع الجمالي والخلقي.
إنه المستوى الثاني من الذوق ومن العلم اللذين يكون الإنسان فيهما هو المبدع للأم ولذوقه وعلمه: كل الفنون والنظريات الفلسفية والعقائد الدينية.
والإبداع هنا له وجهان: فهو أولا تلق ذوقي يكون فيه المبدع شبه لاقط وجودي (انتان) للقيم الخمسة:
لكن التلقي ينتقل إلى الإرسال من خلال الإبداع الذي يترجمه إلى مبدعات رمزية هي “الأمر الخارجي غير الموجود” بذاته بل هو موجود بوجود الإنسان.
ولأن الوجود الرمزي غير قائم بذاته قبل أن يبدعه الإنسان ويترجم ما تلقاه بالذوق الوجودي فإن المبدع مؤمن بأن الخارجي الموجود له مبدع: الله.
المبدع هو قطب المعادلة الوجودية الثانية الذي لا يستطيع ان يعي ذاته دون افتراض ان وراء العالم إلها مبدعا يتلقى منه ما يترجم عنه بمبدعاته الرمزية.
الإبداع تواصل وجودي ذوقا وعلما في تلق لرسالة ورد عليها في كل الجماعات البشرية منذ بدء الخليقة: آدم تلقى كلمات فأتمهن فعفا عنه ربه واجتباه.
يمكننا الآن أن ننظر في بعدي ثورة ابن تيمية الفلسفية: أي الوجه الأبستمولوجي والوجه الأكسيولوجي. والجامع بين الوجهين هو علاقة الذوق بالعلم.
– الفصل الثاني –
سأتكلم في المسألة الأكسيولوجية لأنها متقدمة على المسألة الابستمولوجية تقدم الذوق على العلم. لكني مضطر لتقديم ما تعلق به كلام ابن تيمية.
ذلك أن ما استخرجته من كلامه بعد التحليل الذي خصصت له الفصل الأول لم يدر بخلده أصلا ولم يكن مما قصده: لم يدرس علاقة الذوق بالعلم التي نعتمدها.
ومع ذلك فالشيء الثابت أن ابن تيمية كان واعيا بأن التقدير الذهني لا يقتصر على العدد والمقدار ويقصد علميهما وأن الأمور الخارجية تتجاوز الموجود.
لذلك اجتهدت لاكتشاف ما صدق المقدر الذهني وما صدق الامر الخارجي أي غير العدد والمقدار في الأول وغير الموجود بذاته في الثاني: وهما شيء واحد.
إنه عالم الإبداع الرمزي الذي ليس له مرجع مثل العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية. ومن جنسه الادب الراقي وكل إبداع فني وجمالي وخلقي وديني.
فالخاصية المشتركة بين المقدرات الذهنية في العلوم كالرياضيات وفي الفنون كاليتوبيات والسرديات غير التاريخية كونها مبدعة لمرجعيتها الخارجية.
لكنها تبدعها ترجمة رمزية لما تتلقاها من عالم أسمى من العالم الخارجي المعتبر موضوعيا: كالوحي عند الانبياء والإلهام عند الشعراء وكل فن راق.
وفي هذه الحالة تكون العلوم التي من هذا الجنس هي أرقى العلوم. وابن تيمية وصفها بأسمى الصفات الابستمولوجية “الأولية البديهية العقلية المحضة”.
ولا بد من شرح هذه الصفات الأربع التي لا يوجد ما هو أسمى منها عند وصف علمية أي علم نظري:
والخامسة أهم.
الصفة الخامسة: ليست علما للأمور الخارجية الموجودة. وهذه الصفة السلبية هي علة كونها بتلك الصفات الإيجابية الأربع: اولية بديهيه عقلية محضة.
والمفارقة الأساسية هي التالية: العلم الذي ليس بعلم للأمور الخارجية الموجودة هو نموذج العلمية الذي يسعى إليه ويتدانى منه ولا يبلغ مستواه أبدا.
فشرطه مستحيل: فالإنسان لا يبدع الأمور الخارجية الموجودة ويقتصر على إبداع علمها: الفرق بين الفيزيائي والرياضي أوبين المؤرخ والروائي مثلا.
والفرق بين الطبيعيات والرياضيات أو بين التاريخيات والروائيات هو الفرق بين ابداع خالص للموضوع وترجمته الرمزية وبين ترجمة رمزية دون موضوعها.
والترجمة الثانية تقاس على الاولى وهي قاصرة دائما ومن ثم فما لا تدركه يعتبر أبستمولوجيا ما يفيده مفهوم الغيب دينيا: تجاوز نظرية المطابقة.
وما يترجمه علم الأمور الخارجية الموجودة هو التجربة والخبرة التي تحصل للإنسان من خلال التعامل معها وهذا هو ما ينقص المقدرات الذهنية.
فتكون صفات علوم الأمور الخارجية الموجود ليست أولية وليست بديهية وليست عقلية وليست محضة. ووصفها بها قول بنظرية المطابقة بين الموضوع وترجمته.
والنتيجة التي توصل إليها ابن تيمية: يمكن للمنطق أن يصح على مقدرات ذهنية تسلم بشروطه لكنه لا يقبل التعميم على الأمور الخارجية الموجودة خاصة.
فالأمور الخارجية الموجودة ليست معلومة مسبقا بل هي ما تحدده تجربة أحداثها التي قد يكون لها عدة أنظمة منطقية تحدد بنية ترجمتها الرمزية.
وقد شرح ابن تيمية عبارة “مقولة من تمنطق فقد تزندق” التي تبدو ساذجة بردها إلى تسليم الفلاسفة بالمطابقة بين قوانين المنطق وقوانين الوجود.
وهو لا يناقش صحة المنطق بل الوهم الذي يرد قوانين الوجود إلى قوانين المنطق الأرسطي: فشرطه القول بما جاء في التحليلات الأواخر والميتافيزيقا.
التحرر من نظرية المطابقة بينهما يفتح آفاق الإبداع للمقدرات الذهنية. فيصبح العلم إبداعا من جنس الأدب لترجمة رمزية حرة لحصيلة التجارب.
فيكون مجال المقدرات الذهنية إبداعا حرا للموضوع وعلمه ومجال الأمور الخارجية الموجودة ترجمة للتجارب بما يناسبها من مجال المقدرات الذهنية.
ويمكن أن ينعكس الأمر: فننطلق من حصيلة التجارب ثم نصوغها بإبداع مقدرات ذهنية مناسبة لها والتقديم والتأخير بينهما لا يغير طبيعتهما المختلفة.
أعود الآن إلى الصفات الخمس:
كيف نفهمها ولم تعتبر أسمى الصفات الابستمولوجية؟
الآن وقد شرحنا المسائل التي استنتجناها من قولة ابن تيمية المحيرة التي انطلقنا منها يمكن إعادة فهم هذه المعاني التي يشغل العقل القلب منها.
فقبله صفتان:
– أولي.
– بدهي.
وبعده صفتان:
– محض
– وليس علما لأمر خارجي موجود.
وهذا هو تعريف العقل الذي يفهمنا قول ابن تيمية “صريح المعقول”.
فالمتكلمون والفلاسفة الذين يردون النقلي للعقلي يتوهمون أن العقلي مضمون معرفي ويتوهم شراح ابن تيمية أن “صريح” تعني غير واضح وغني عن الشرح.
ظنها من الصراحة وليس من الصراح. هنا ابن تيمية واضح: هو يعني الصراح أي ما عبر عنه هنا بـ”المحض”: العقل المحض. لكن ذلك يقتضي شرح ما قبله.
عقل صريح يعني معرفة محض أي بلا مضمون من الامر الخارجي الموجود (صفتان بعد القلب). فيكون حينها بدهيا وأوليا (صفتان قبل القلب): العقل في القلب.
فتكون “أولي” ما به نبدأ التقدير الذهني و”بدهي” ما لا يحتاج إلى الاحتكام للأمر الخارجي الموجود: وهذا هو معنى الإبداع لما هو عقل محض أو صراح.
ليس للعقل شكل واحد بل هو قدرة الإبداع الرمزي التي تكون من جنس الأدب مطلق الحرية أو محدد بمعايير وقيود منطقية كما في الأكسيوميات الرياضية.
– الفصل الثالث –
ما قلناه في ثورة ابن تيمية الابستمولوجية وعلى أسس المنطق الأنطولوجية لا يصدقه أحد ممن تنحصر الفلسفة عندهم في شعاراتها والعلم في بهاراته.
ولست مستعدا للموقف الدفاعي. فالباحثون الجديون سيثبتون هذه الحقائق بعد أن يعودوا لقراءته في ضوء ما حاولت بيان ما يحرره من أوهام الخذلان.
والخذلان مفهوم. فهو متأت إما من العلوم الزائفة أو من الأعمال الزائفة لأن ثورته كانت على طاغوت مفسدي معاني الإنسانية من العلماء والأمراء.
وكان الأمر يكون أيسر للقراء لو لم يزدد الخذلان من كاريكاتور الحداثة بعد خذلان كاريكاتور الاصالة: فأولئك أفرغوا هذه وأولئك تلك من حقيقتهما.
أكتفي إذن بما قلت عن ثورة ابن تيمية الابستمولوجية وتأسيسها الأنطولوجي فمكناه من تجاوز منطق أرسطو وميتافيزيقاه وكلام العصر الوسيط وفلسفته.
والآن فما عمق ثورته الثاني الكامن في مبدئيه اللذين وردا في جملته التي انطلقنا منها في المحاولة ببيان ما صدق المقدر الذهني عامة والخارجي عامة.
إنه العمق الذي اعتبر نفسي مكتشفه بالانطلاق من نظرية الذوق بمستوييه ونظرية العلم بمستوييه وبينهما علاقة الغايات للأول بالأدوات للثاني.
فالذوق بمستوييه يحدد الغايات والعلم بمستوييه يحدد الأدوات. الذوق مصدر التقدير الذهني للغايات بمستوييها والعلم التحقيق الفعلي للأدوات بمستوييها.
والذوق أساسه الحوادس المصاحبة للحواس الباطنية التي تدرك حاجات البدن والروح فتبدع غايات الفعل السائد لهما وتدفع إلى إبداع ترجمتها الرمزية.
الترجمة الرمزية المعبرة عن غايات الذوق بمستوييه والمبدعة لأدوات تحقيقها بمستوييه هي كل المقدرات التي تشمل كل ما يدين بوجوده للذوق والعلم.
وما يدين بوجوده للذوق والعلم والعمل بمستوييها هو الحد الجامع والمانع للثقافة: كل ما يفعله الإنسان في حيزي وجوده الطبيعيين والتاريخيين.
وتبدأ هذه الإضافة الجغرافيا الطبيعية إلى الجغرافيا الحضارية وبنقل التاريخ الطبيعي إلى التاريخ الخلقي وتلك هي الترجمة الرمزية للعلاقتين.
والقصد بالعلاقتين هو علاقة الجماعة بالطبيعة وعلاقة الجماعة بعضها بالبعض. وهذا يصح على أي جماعة وعلى جماعة الجماعات الشاملة للإنسانية كلها.
اسم علم ابن خلدون هذا معناه: “علم العمران البشري والاجتماع الإنساني”. والعمران يغلب عليه مستويا الذوق والعلم الأولين والاجتماع الثانيان.
فالتفاعل بين مستويي الذوق والعلم نفس ما بين العمراني والاجتماعي: فمن بداية المقدمة إلى غايتها ينقص العمراني ويزيد الاجتماعي والعكس بالعكس.
فنرى المقدمة تبدأ بالذوق المادي والبحث عنه (الباب الأول) وتنتهي بالذوق الروحي والبحث عنه (الباب الاخير): هل كان ابن خلدون واعيا بذلك؟
مستبعد.
هل كان ابن تيمية واعيا بهذا البعد الثاني أي الأكسيولوجي الذي استنتجناه من البعد الأول في قولته أي الابستمولوجي؟
البذرة موجودة والوعي مستبعد.
إذن نحن نستخرج من عمل الرجلين ما توجد بذرته في عملهما دون استثمارها تماما كما فعلنا مع الغزالي في الحوار غير المباشر بينه وبين ابن رشد.
وكان فعلنا هذا يعتبر غير مشروع لو اقتصر على تحليل النصوص. لكنه عمل اعتمد على أعمال الرجلين: فتحليل المقدمة مثلا تحليل عمل لا قول عليه.
لم نكتف بما قاله ابن خلدون علمه (مقدمة المقدمة) بل حللنا عمله المقدمة. فهي ليست قولا على عمل بل عمل علمي في العمران والاجتماع وعلاقتهما.
وتحليل الرد على المنطقيين ومنهاج السنة والردود على الرازي ليس قولا على عمل بل هو تحليل لعمل علمي استعمل فيه ابن تيمية بالفعل ما بيناه.
وتحليل التهافت والفضائح والاحياء والمشكاة والاقتصاد في الاعتقاد والمستصفى ليس قولا في قول بل هو قول في علم منهجا ومقصدا ونتائج يفهمنا ثورته.
والجديد في ثورة ابن تيمية حتى مع عدم تفطنه للبعد الثاني هو هذه القسمة العجيبة للعلوم وما ترتب عليها من ابستمولوجية وأنطولوجية جديدتين.
فإبستمولوجيا لم يعد بالوسع القول بنظرية المعرفة المطابقة وانطولوجيا لم يعد بالوسع القول بشفافية الوجود المطلقة بل فيه غيب محجوب لا يعلم.
وما كان ذلك ليكون لو لم يقع التمييز بين علم المقدرات الذهنية بصفاته الخمس: أولي وبدهي وعقلي ومحض ولا يعلم الوجود الخارجي: إنه إبداع خالص.
وهذا الإبداع الخالص ليس مقصورا على المعرفة بل هو يشمل كل إبداع ليس له مرجعية خارجية بل هو في آن إبداع للمرجعية ولترجمتها الرمزية.
وللتمثيل للقضي: نسبة الإبداع الرياضي إلى الفيزياء مثلا كنسبة الإبداع الأدبي إلى التاريخ. والمرجعية هي ما يسميه الأمور الخارجية الموجودة.
فما يتميز به الأدب الراقي على التاريخ هو أن هذا له مرجعية خارجية وذاك يبدع مرجعيته وليس له مرجعية خارجية ومن ثم فكل أدب واقعي تاريخ مزيف.
وما يميز العلم الراقي-بصفاته الخمس-عما يسمى علم الواقع هو أن لهذا مرجعية التجربة الغفلة بخلاف العلم الذي يستمد رقيه مما يستمده من المبدعات.
وهو ما يعني أن الفيزياء الراقية تتدرج نحو الفيزياء النظرية التي تتخلص بالتدريج من التجربة التي تجعل “الواقع” معيارا ليكون المعيار المثال.
ولهذه العلة فإن علوم الطبيعة لم تصبح علوما إلا لما تحررت من تجربة الغفلة وأصبحت فرضية استنتاجية لقوانين تنطق على حالات مثالية هي شرطها.
ففي “واقع” التجربة الغفل لا يمكن أن نصدق أن ريشة وصخرة ينطبق عليهما نفس قانون السقوط الحر مثلا: لكن التجربة في الخلاء (مثال) يصح القانون.
كل القوانين العلمية التي يعتمدها العلماء هي من هذا الجنس: تصح في “واقع” مثالي هو شرط القانونية التي تستبعد المؤثرات الخارجية في القانون.
– الفصل الرابع –
تبين أن الذوق بمستوييه هو الذي يحدد الغايات ويبدعها استجابة مسبقة قبل وجودها لمطالب البدن والروح والعلم بمستوييه هو الذي يبدع أدواتها.
فهل معنى ذلك أن أسمى ما في الإنسان هو هذه القدرة على الإبداع الذوقي من لا شيء المحرك للإبداع العلمي من لا شيء في تعامله مع الطبيعة والتاريخ.
وهذا اللاشيء هو الذي سماه ابن تيمية الأمور الخارجية غير الموجودة التي يسعى إليها الذوق والعلم ليوجدها استكمالا للموجود من الامور الخارجية؟
موجود الامور الخارجية هو الطبيعة والتاريخ وما في الإنسان من مكاني (بدنه) وزماني (روحه) إذ ينتجان بتفاعلهما معهما ما يضيفانه: التراث والثروة.
إذن كيان الإنسان البدني والروحي (الأنفس)يتفاعل مع حيزي المكان والزمان معين الطبيعة والتاريخ (الآفاق) لينتجا بتفاعلهما حيزي التراث والثروة.
ويجمع هذه الأحياز الاربعة لكيان الإنسان أصلها جميعا هو الرؤية الذوقية والعلمية التي تمثل مرجعية الحضارة وهي متعلقة بالعملين الذوقي والعلمي.
عقم الحضارة علامته عجز أبنائها عن إبداع غايات الذوق بمستوييه وأدوات العلم بمستوييه أي التراث والثروة علاقة أفقية بالتاريخ وعمودية بالطبيعة.
فعلاقتهم الأفقية بالتاريخ الاجترار وعلاقتهم بالطبيعة العيش على ثرواتهما لا دور للعمل الذوقي والعلمي فيهما: مفهوم البداوة الاولى الخلدوني.
وعندما تكون حضارة ما مرت بعصر كانت فيه ذات إبداع ذوقي وعلمي بمستوييهما ثم انحطت فأصبحت بهذا العقم فهي حضارة ناكصة كحالنا: فكيف تستأنف؟
وإذا كانت هذه الحضارة الناكصة قد فقدت “معاني الإنسانية” لأسباب ذاتية ومفروض عليها البقاء في هذه الحالة لأسباب خارجية فحل المشكل شبه مستحيل.
فالمعيقات لن تكون مقصورة على فقدان شروط الرعاية (الذوق وغاياته) بل يضاعفها فقدان شروط الحماية (العلم وأدواته): فـ”تفسد معاني الإنسانية”.
وابن خلدون يعتبر هذه الوضعية إذا طالت تؤدي إلى أحد أمرين:
– إما ذوبان الامة في أمة تستعبدها بحضارتها
– أو زوالها عندما لا تستطيع الانضواء فيها
والبعد الثاني من الثورة التيمية المغفول عنه البعد الأكسيولوجي قد يحررنا من الخيار الخلدوني بين ذوبان الاضعف في الاقوى أو الفناء والفناء.
وهو يرجع لدور المرجعية بذاتها وبدورها في فروعها الأربعة:
الجغرافيا
والتاريخ
وفعل الجغرافيا في التاريخ (التراث)
وفعل التاريخ في الجغرافيا (الثروة): تلك وضعيتنا الآن
من حسن حظ الأمة أن مرجعيتها (الإسلام) وجغرافيتها (داره) وتاريخها (تاريخه) وتراثها (حضارته الرمزية) وثروته (حضارته المادية) وزنها لا يقهر.
فالاستئناف رغم ما بينا من عسره المضاعف (رعاية وحماية) ما يزال ممكنا بل فجره بزغ والدليل هو فشل الحرب الكونية عليه لمنعه بفضل وزنه العملاق.
وما يساعد على الاستئناف هو توسيع مفهوم الإبداع الذي قدمناه وفهم شروطه التي يحدد الذوق بمستوييه غاياته والعلم بمستوييه أدواته: وجدنا ضالتنا.
ولا يظنن أحد أني بذلك أهرب من الحرب التي تخاض ضد الاستئناف من الداخل والخارج بل بالعكس فالنظرية الاستراتيجية في الحرب والسلم هي ما نتوخاه.
وقد بينت في تعديل نظرية كلاوسفيتز وثلاثية مراحل النصر (كسر الجيش والاستحواذ على الثورة والقضاء على إرادة المقاومة) تقتضي مضاعفة الأوليين.
ذلك أن إرادة المقاومة قائمة بذاتها في المرجعية (الأحرار لا يستسلمون أبدا) ثم في الجيش عتادا ومعنويات وفي الاستحواذ على الثروة أرضا وناسا.
استعمار الجزائر (130سنة):
القضاء على الجيش له وجهان عتاده ومعنوياته وهي أثر المرجعية فيه واحتلال مصدر الثروة له معنيان: الثروة والناس وهم أثر المرجعية.
فتكون العوامل خمسة:
وعوامل الضعف حاليا هي 2 و4.
فلنجعل 1 و3 و5 منطلق إعادة البناء. فالمرجعية بذاتها وبأثرها في الجهاد والسند الشعبي تمثل الفاعلية الروحية لصلة الأحرار بأرضهم وتاريخهم.
ومن حظنا أن كونية مرجعيتنا وعالمية تاريخنا وجغرافيتنا تجعل من المستحيل إخضاع أمة الإسلام مهما كانت قوة أعدائها إذا وضعنا استراتيجية محكمة.
والاستراتيجية المحكمة قابلة للاستخراج من القرآن الذي هو استراتيجية توحيد البشرية بتغيير قبلة الإنسانية لاستعادة الحريتين الروحية والسياسية.
هذا إيجابا لكن ذلك يقتضي استراتيجية سلبية وظيفتها إزالة تقنية إضعاف المسلمين التي فتتت وحدة جغرافيتهم وشتتت تاريخهم وفككت صلتهم بالمرجعية.
مفهوم الإبداع الموسع الذي تكلمت عليه هو الذي سيحيي هذه العوامل التي ستوقف مفعول تفتيت المكان وتشتيت الزمان وتفكيك الصلة بالمرجعية.
واليوم فنيات التواصل ويسره من المساعدات الأساسية التي تجعل فعل الرمز (الكلمة والفنون) ورمز الفعل (العملة والتقنيات) تحقق هذه الاستراتيجية.
الفتح الجديد هو الابداع الأدبي والدرامي والسينمائي والإعلامي مع تمويل نشر التربية التي تحيي الصلة بالروابط الجغرافية والتاريخية والمرجعية.
– الفصل الخامس –
الفصل الأخير يبين المرحلة الثانية من الاستراتيجية: كيف يمكن الإبداع الموسع للفاعلية الرمزية التي يستعيد بها العمل الذوقي والعلمي مستوييه؟
فلنصل هذين المستويين من العمل الذوقي والعلمي بمقومي وجود الإنسان:
فيستعيد الإنسان المسلم قدرتيه الإبداعيتين الذوقية بمستوييها والعلمية بمستوييها فيتحرر من فساد معاني الإنسانية ويتحرر من طاغوت التربية والحكم.
سنخصص هذا الفصل الأخير للقدرتين الإبداعيتين والتربية والحكم المنتميين لهما شرطا للاستئناف بقوة تتجاوز قوة النشأة الاولى لاستفادتها منها.
ذكر ابن خلدون كيف أن التربية والحكم العنيفين يفسدان معاني الإنسانية وقد حللنا كلامه. لكنه لم يعلل العنف الذي يفسر به فساد معاني الإنسانية.
كما أنه لم يشرح الوصل بين فساد معاني الإنسانية ومآل الأمة التي يقع عليها ذلك إلى أحد مآلين: مثل لأولهما ببين إسرائيل وللثاني بالفرس.
فهو فسر من لم يفنى بفساد معاني الإنسانية بحل الذوبان في الحضارة الغالبة (الفرس) وبحل بقاء التحيل والخرج والوجود الجيتوي في الحضارة الغالبة.
وطبعا لم ير ابن خلدون ما نراه حاليا وهو أن كلا المثالين لم يستسلم منهم إلا قلة لكن دهاتهم عملوا باستراتيجية تقنيات الفيروس المتطفل والمخرب.
ذلك أن ما يزعم من دور لبني إسرائيل لتأسيس كذبة مضاعفة لا تكتفي بزعم الوساطة بين الشرق والغرب بل الزعم بأنهم من أهم مبدعي حضارة الإسلام.
وهذه الكذبة تصح على المثالين اللذين ضربهما ابن خلدون دون أن يهتم بهذا الدور التخريبي من الداخل والذي اعتبره العلة الأولى للفتنة الكبرى.
ولنعد لقضيتنا: توقف الابداع الذوقي والعلمي في مستواه الأول لدينا منذ قرون. فسدت العلاقتان الأفقية والعمودية بين المسلمين وببنهم وبين الطبيعة.
والعلاقتان هما العمل الذوقي المبدع للغايات والعمل العلمي المبدع للأدوات لتيسير العلاقة الأفقية بين البشر بتيسير العلاقة العمودية بالطبيعة.
ضاقت أسباب الرزق المادي فشملت سبب ضيق أسباب الرزق الروحي في إبداع غاياته وأدواته. كل شيء في الرزقين جمد فندر فعم منطق التاريخ الطبيعي.
ومنطق التاريخ الطبيعي هو صراع الكل ضد الكل على أسباب الرزقين المادي والروحي: وهو علة النكوص إلى البداوة الأولى: مرحلة العرب في كل الأمم.
وهي مرحلة الصراع على الرزق المادي والروحي بين البشير لسيطرة الندرة المطلقة في شروط العيش ماديا وروحيا: موات بلا إبداع للغايات ولا للأدوات.
ويعتبر هذا النموذج العمراني مبينا اساسا على الإبل والصحراء وشظف العيش وانعدام دوافع الإبداع الذوقية ودوافع الإبداع العلمية: بداوة مطلقة.
جل العرب لم يتجاوزوا هذا النموذج العمراني: فطرق الإنتاج وأدواته كلها بدائية والحديثة مستوردة ومن ثم فالعمل الذوقي والعلمي المبدعين منعدمان.
ومن دون علاج هذين العائقين لا يمكن للاستئناف أن يتحقق. وطرق الإنتاج وأدواته يقتلها الاستيراد لأنه يحول دون تعلم الإبداع وتطويره بالممارسة.
فمن يستورد آخر صيحة لن يتدرج للوصول إلى ما يضاهيها أبدا: فكل الامم بدأت بمراحل الطرق والأدوات قليلة الكفاءة في مسار أوصلها إلى الأكفأ.
ولما كان تعلم طرق الإنتاج وأدواته مشروطا بحجم معين فإن تفتيت الجغرافيا يجعل الجميع أقزاما عاجزين عن شروط الانتاج المادي فضلا عن إبداعها.
فمن دون سوق كبرى لا يمكن لأي صناعة أن تنمو لأن من يطلبها قليل ولأنها عاجزة عن السوق العالمية لانعدام شروط المنافسة للصناعة قليلة التطور.
فاجتماع ضيق السوق وعدم القدرة على المنافسة في العالم بسبب تخلف التقنيات لم يريد أن يتعلم فلا يستورد تجعلان حد الإبداعين الأدنى مستحيلا.
وهذا هو السر الأول في استراتيجية تفتيت الجغرافيا. وتفتيت الجغرافيا يطلب شرعية بتشتيت التاريخ: كل محمية تبحث عن شرعية تاريخية منفصلة.
وإذا كان الابداعان الذوقي والعلمي مستحيلين في مستواهما الأول فمن باب أولى ألا يكونا ممكنين في مستواهما الثاني: الذوق والعلم الاسميان.
فالأذواق الراقية الجمالية والخلقية والعلوم الراقية النظرية والأساسية أكثر كلفة من الأذواق المعيشية والعلوم التطبيقية الدنيا في العمران.
والمعلوم أن الأسمى مستحيل للعاجز على الأدنى: فلابد من قاطرة روحية ومادية. فالذوق للذوق والعلم للعلم روحيا والغزو للغزو ماديا للفضاء والعالم.
ومن ثم فالإبداع الذوقي للغايات والعلمي للأدوات حتى في مستواه الاول هو أهم مسألة سياسية تتعلق باستراتيجية تحقيق شروط التناسب مع حجوم العصر.
لكن العرب خاصة والمسلمون عامة حكامهم ومعارضوهم ليسوا إلا أمراء حرب أو ملوك طوائف كل عصبية عسكرية أو قبلية تريد أن تصح دولة طبعا بلا سيادة.
فيصبحون هم أصل التهديم الذاتي لشروط القيام المستقل في الرعاية والحماية الدنيا فضلا عن القيام في شروطهما العليا: فتزول شروط الإبداع والقيام.
وهكذا فقد حددت شروط الاستئناف ولو ببيان عوائقها لأن محفزاتها هي نقيض عوائقها. أما الاستراتيجية الشاملة فهي موضوع الجلي في التفسير.
الكتيب