ه
فصل الدولة عن الدين الذي يكثر أدعاء الحداثة الكلام عليه مستحيل إذا كانت الدولة دولة والدين دينا.
لكن فصل الدين عن المحميات-لأن كل ما عندنا هو محميات وليس دولا-ممكن وهو أمر واقع باستتباع الدولة للدين ومن ثم إلغاء صفته الدينية وتحويله إلى أداة أيديولوجية في خدمة من نصبهم الحامي حكاما.
فمن يفصله بهذا المعنى هو من يحتل المحميات ويحمي عملائه عليها. ولنأخذ مثال أكثر المتشدقين بهذا الفصل أعني العلمانية اليعقوبية الفرنسية لنثبت انهم يكذبون وأنهم لم يفصلوهما إلا في الظاهر كما سأبين لأن لهم دولة حقا ولهم شعب يحافظ على تقاليده وسننه ولا يخضع لإرادة حاكم محمي من الغير.
فالعلمانية اليعقوبية ما تزال كاثوليكية لكنها متنكرة في الداخل بالعلمنة وهي كاثوليكية صريحة في مستعمرات التي تسعى لتمسيحها وكثلكتها وحماية المسيحيين في العالم وخاصة في بلاد العرب التي ليس لأهلها حصانة روحية ولا مناعة مادية. ففي الداخل لم تفصل الدولة الفرنسية عن الكنيسة أو الوساطة الروحية في التربية والوصاية الزمانية في السياسة بل عوضتهما بما له نفس الدور مع علمنته.
وحتى نفهم ذلك فلنسأل عن الفرق بين الكنسية الدينية في المسيحية والكنسية الفلسفية في الأفلاطونية. ولنعتمد التعريف النيتشوي للأفلاطونية بأنها مسيحية الخاصة والمسيحية بأنها أفلاطونية العامة وسيتضح قصدي بأن ما حصل في فرنسا ليس الفصل كما يزعمون بل هو تعويض أفلاطونية العامة بأفلاطونية الخاصة بجعل الفلسفة دينا.
ولي على ذلك دليلان من فكرهم المغرق في العلمانية والوضعانية وهما دين الموجود الأسمى لروباس بيار ودين الإنسانية لأوغست كونت. كما يمكن أن أقدم دليلين من ممارستهم السياسية. فالمدرسة التي صارت علمانية لم تبق مجرد مركز تعليم بل صارت سلطة روحية تعلم “أخلاق” العلمانية. والدولة صارت ساهرة على السلوك العلماني في الملبس والمأكل والمعاملات.
وهو ما تتميز به عن العلمانية الألمانية والأمريكية مثلا الذين يفصلون بين المؤسسات السياسية والمؤسسات الدينية لكنهم لا يدعون الفصل بين السياسي والديني. فللدين دور أساسي في امريكا خاصة وكذلك في إسرائيل ولا يوجد علماني واحد فيهما يمكن أن يتفوه بما يتفوه به الحمقى من علمانيي العرب الذين يخلطون بين المؤسسات وموضوعها.
فإذا أضفنا أن كل وظائف الكنيسة الاجتماعية صارت من وظائف الدولة العلمانية في فرنسا تبينت حقيقة العلمانية اليعقوبية التي هي أكبر كذبة يصدقها الحداثيون العرب الذين لم أر في تاريخ البشرية من هو أكثر منهم بلادة وحمقا. أما خارج فرنسا فكل المستعمرات فتحت للتبشير الكاثوليكي ومثلها في المستعمرات الانجليزية والأمريكية للتبشير الانجيلي والإصلاحي بكل فروعه. ولنا في مثال غزو أمريكا للعراق وكيف أن الدعوة المسيحية كانت مصاحبة للجيش الغازي.
ويكفي أن تعلم ما حاوله ماسينيون في مصر. فقد كون جمعية من أقباط مصر تحت عنوان الرحمة المسيحية لإنقاذ المسلمين من الجذام يعني الإسلام-بالدين المسيحي-الذي جعل إبراهيم ينفي اسماعيل وأمه لكأنه كان يهوديا أو مسيحيا لما حدثت هذه الأحداث. وهو تزييف للتاريخ وتحريف للدين ونفس النزعة الكاثوليكية التي يمثلها هذا الجاسوس الذي يقدسه خونة الإسلام.
ويمكن أن أثبت أن أكثر دول العالم غلوا في العلمانية أعني فرنسا تعيش وتعيش الناس على كذبتين عندها واعتراف بالكذبتين خارجها. ففي تونس -وهي بلدي وأعلم تاريخها وتاريخ بورقيبة الذي لم يكن كما يقال معاديا للإسلام-حصل ما يسمى بالمؤتمر الافخارستي برعاية الحامي الفرنسي الذي يمثل دولة العلمانية: ولعل أكبر كاتدرائية في افريقيا اعدت لهذه المناسبة فضلا عن التناظر الذي يحتل ساحة الشهداء بين سفارة فرنسا والكنيسة وبينهما المسكين ابن خلدون شاهدا على الاستعمارين الروحي والسياسي الذي تقوده دولة العلمانية المزعومة.
وأول معركة حقيقية في حرب التحرير التونسية كانت بمناسبة خاصة من اجل حماية إحدى شعائر الإسلام. منع المجنسين من الدفن في مقابر المسلمين. وكان المفتي الذي حرم ذلك- رغم خذلان كبار العلماء- من مدينتي بنزرت وكنت تلميذ ابنه في طفولتي وأقصد الشيخ ادريس رحمه الله (اعتمادا على آية من النساء 65).
أمر الآن إلى القضية الثانية وهي أن الدولة إذا كانت دولة بحق أي إذا توفر فيها شرطان مفقودان في كل ما يسمى دولا عند العرب الحاليين:
- ملكية الشعب للأرض.
- سيادة الشعب عليها.
لكن الأرض يملكها عملاء الاستعمار والسيادة لحاميهم وليست للشعب إذ حكام العرب كلهم غفراء وليسوا أمراء إلا اسميا. والسبسي لما أراد أن يغير نظام الفرائض لم يكن لأنه يحكم دولة ذات سيادة بل لأنه عبد مأمور بشهادته إذ تكلم على المسؤول الكبير. وإذا كان له فضل فهو هذا الإعلان الصريح أنه نائب المسؤول الكبير وليس حاكم شعب حر حتى وإن جاء بانتخابات يصفونها بكونها ديموقراطية. وفي الحقيقة فما زلت عاجزا عن فهم ديموقراطية في شعب دون سيادة.
فإذا كانت الدولة دولة بحق أي شعبها مالك أرضها وصاحب السيادة عليها وحكامها خدم عندهم عندها لا يمكن للدولة التي هي تعبير عن إرادة الشعب أن تنفصل عن سر وجودة وعلة قيامه حياته لأن ذلك لا يتطابق مع الكرامة والحرية: فطبيعيا الإنسان لا يختلف عن أي حيوان إلا بعبادته الواعية للرحمان.
والعبادة الواعية للرحمان تتحدد بمقومي الشهادة. فهي تبدأ بالسلب وتثني بالإيجاب بمعنى أن الإنسان من حيث هو إنسان لا يعبد غير الله: وهذا هو مبدأ الحرية والكرامة التي تجعله مالكا وسيدا في وطنه بمعنى “جئنا لنحرركم من عبادة العباد بعبادة رب العباد” وتلك هي المنزلة الوجودية للإنسان.
فإذا كانت تلك هي المنزلة الوجودية للإنسان وكانت الدولة هي التعبير عن إرادة جماعة الأحرار أي جماعة لا تقبل التنازل عن منزلتها الوجودية لأنها تعني انتفاء معاني الإنسانية بلغة ابن خلدون فدولته إن كانت دولته وله عليها سيادة لا فصلها عن رمز منزلته الوجودية التي هي جوهر الدين أي شهادة أن لا إله إلا الله بمعنى أن الحر هو الذي لا يعبد لا الأمير حتى لو كان فعلا أميرا بحق ولا خاصة الغفير الذي عينه المستعمر.
والآن فلأعكس. هل يمكن تصور دين من دون دولة كما يزعم أدعياء الكلام في الفلسفة السياسية والزعم بأن الإسلام ليس له دولة ولم يحدد نظامها؟ صحيح أنه تاريخيا يمكن اعتبار المسيحية دينا لم تكن له دولة لأنها دين شعب كان مستعمرا من الرومان وكان التشريع بيد المحتل. واليهود صاروا مثلهم بعد أن احتلهم الرومان رغم أن انبياءهم كونوا دولا لكن الاستعمار الروماني خاصة ألغاها وألغى تشريعاتهم في مستعمراته.
لكن التاريخ يثبت كذلك أن المسيحية صارت ذات دولة لما غزا برابرة الجرمان أوروبا وأطاحوا بالإمبراطورية الرومانية وهم أصل أوروبا التي صارعت الإسلام بدول كانت تحكم بالحق الإلهي وصاية وتزكيها الكنيسة وساطة بل وأصبح بعض البابوات قادة دول في آن.
واليهود استعادوا سلطانهم ليس في فلسطين وحدها بل إن دين العجل هو الذي يحكم العالم كله وهو دينهم الحقيقي. وهم حريصون على الهوية اليهودية التي هي دين وليس وليست عرقا. ولا فرق عندهم بين المتدين واللامتدين لأن الأمر لا يتعلق بحياة الأفراد بل بحياة الأمم. وكما أثبت ذلك فيمكن للفرد أن يكون ملحدا لكن لا توجد أمة ملحدة ولا دولة من دون دين.
وما نجح في الصين ليس ماركس بل قرب فكره من فكر البوذية والماركسية من حيث واقع منزلة الإنسان العبد للحكم سواء كان حزبا بالمعنى الماركسي أو عبيدا بالمعنى البوذي. والماركسية في الحقيقة ليست فلسفة بل هي إيديولوجيا تجمع أهداف الدين وطلب تحقيقها في التاريخ وليس كما يزعم محرفو الدين بأن أهداف الدين هي التنازل عن كل شيء في الدنيا وانتظار الجزاء في الأخرة كما أصبح عند الكنيسة لما صارت تحكم.
وختاما فمهمها بحثنا في التاريخ إدبارا إلى أقصى الماضي أو سعيا إلى أقصى المستقبل فلن نجد في التاريخ الإنساني شعبا بلا دين ولا نجد شعبا حرا يفصل دولته عن دينه خاصة إذا كان تأسيسها نفسها. فصل المؤسسات الدينية عن المؤسسات السياسية طبيعي لكن دور الإنسان السياسي اساسه ديني هو تحقيق مهمتي الإنسان: التعمير بقيم الاستخلاف.
ولما كانت نخب العرب وخاصة تلك التي تدعي الحداثة تتصور أن الاقوال أفعال فإنها تتوهم أن العلمنة في الغرب قطعت مع اديانه لأنها قطعت مع الكنيسة. فبهذا المعنى كان ينبغي أن يفهموا أن الإسلام لم يقطع مع الكنيسة فسحب بل ألغاها واعتبرها مصدر التحريف. لكنه ربط بصورة صريحة بين الديني والسياسي ليس بوصفه مصدر شرعية قيمه بل بوصف السياسي فرض عين على كل مسلم في تعيين الحاكم ومراقبته وعزله عند اللزوم.