الدولة، مفهومها وبعداها البنيوي والتاريخي – الفصل السادس

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله الدولة

هذا فصل سادس اختم به كلامي على “الدولة: مفهومها وبعداها البنيوي والتاريخي” لبيان التكوينية التاريخية لدولة الإسلام والمراحل التي قطعتها لتصل إلى تحقيق شبه تام لهذه البينة التي يتعين فيها المفهوم فينتقل من كمون البنية إلى التجلي التاريخي لمقوماتها أي وظائف الدولة عامة.

فيكون موضوع الفصل السادس بيان المسار الذي أوصل إلى ما سميته بالعلوم والأعمال الزائفة. والعلة نظرية وعملية في آن: وهي مرحلة ضرورية في منطلق كل حضارة نظرية وعملية. فهي تبدأ بالعاجل في العمل وبالمباشر في النظر: معين المرحلة الأولى في خبرة الإنسان العملية الآجلة والنظرية المباشرة

ولما تنضج الحضارة العملية والنظرية يتبين أن هذين مسار النظر والعمل على علم يقتضي العكس تماما. سواء كانا متعلقين بالعلاقة العمودية بين البشر والطبيعة أو بالعلاقة الافقية بينهم بعضهم مع البعض بوجهيهما المادي أو الروحي المباشرين وغير المباشرة ذوقا يحدد للغايات ومعرفة تحدد الأدوات.

ويمكن أن أقول إن الحضارة الإسلامية توقف إبداعها بسبب تحنيط المسار الأول الذي حال دون فلاسفة المدرسة النقدية (الغزالي وابن تيمية وابن خلدون) تجاوز هذا المسار الأول. والصدمة بالغرب جعلت ما حصل فيه يفهم بمنطقه لذلك فما يزال الفكر الإسلامي يتناول الحضارة الغربية بمنطق ما تحنط فيه.

فكل ما يسميه أدعياء الحداثة كاريكاتور حداثة والدليل أنه يتكون من عقلانية الاعتزال والرشدية عماده فهم متخلف للعقل والعلم وكل ما يفاخر به أدعياء الأصالة كاريكاتور أصالة وهما إذن متفقان على إطالة عمر الجيل الأول من العلم والعمل وهو جيل أُفُقُه لا يتجاوز الفلسفة اليونانية عندما انحطت.

وهذا الحكم في الكاريكاتورين يستثنى ويحاول بيان هذه العلة التي تفهمنا التناقض في فكرهما. فكلاهما يجد علل الانحطاط في فكر المدرسة المقابلة. فأدعياء الحداثة يعللون انحطاط المسلمين بالفكر الديني بإطلاق وأدعياء الأصالة يعللونه بالفكر الفلسفي بإطلاق.

وبذلك لا أحد منهما نقد موقفه: فدعي الحداثة بفهم سطحي للحداثة يظن الأديان كلها من طبيعة واحدة ويدعي نقدها ولا يدري أن نقده الساذج المستورد مما يحاول نقاد اليهودية والمسيحية الحداثيين في الغرب التوصل إلى بعض ما توصل إليه القرآن في نقدهما بتعليل أكثر عقلانية من تعليلهم.

ودعي الأصالة بفهم سطحي للأصالة يظن الفلسفات كلها من طبيعة واحدة ويدعي نقدها ولا يدري أن نقده الساذج المستورد مما يحاول نقاد الفلسفة الحديثة الحداثيين في الغرب التوصل إلى بعض ما توصل إليه القرآن في نقدهما بتعليل أكثر عقلانية من تعليلهم.

فنقد الدين القرآني مدار كلامه مفهومان: التحريف والجاهلية أعاد ما في الدين من مناقض للقيم الخمس (الجهة أو الحرية الجمال أو نظام العالم والجلال أو ما يتجاوزه والسؤال أو ما ينتج عما يبدو من تقابل بين الجمال والجلال والأصل هو الوعي بالمتعال أو حقيقة الإنسان) ليس منه وأنه هو سر التحريف.

أما الجاهلية فهي نكوص عن مفهوم الإنسان من المستخلف إلى الحيوان كما وصفته الملائكة بكونه مفسدا في الدنيا وسفاكا للدماء. والعلة هي تخليه مقومات حقيقته: من قانون الحرية إلى قانون الضرورة ومن نظام العالم إلى فوضاه ومن جلال الغيب إلى الشفيف الزائف ومن التقويم الأحسن إلى الخسر.

وحال المسلمين التي انتهى إليها الانحطاط هي ما توقف عنده مسار ترجمة القرآن إلى وظيفتيه السياسيتين: الحكم والتربية غاية للديني في كل دين سواء كانت هذه السياسة قويمة تحقق هذه القيم أو سقيمه تلغيها. ثم أضيف إليه الانحطاط الذي أخده أدعياء الحداثة من النخب العربية الإسلامية.

فيكون ما أنوي وصفه في تكوينية الدولة في بلادنا الإسلامية هو الجمع بين هذه الانحطاطين: الشكل هو الدولة أداة للاستعمار المباشر وغير المباشر والمضمون هو أخلاق المجتمعات الإسلامية خلال سبوتها وخلال محاولات بعثها منذ قرنين: الدولة عندنا الآن تجمع بين الانحطاطين الإسلامي واستعماري.

كل دول العالم الإسلامي بلا استثناء: مضمونها الانحطاط الإسلامي مع الانحطاط الاستعماري وأدواتها في الخفاء هي أخلاق المضمون الاول وفي العلن هي اخلاق المضمون الثاني: الدولة الحديثة استعمارية بالجوهري بأخلاق بدائية تعترف بالقيم المقومة لحقيقة الإنسان في الأقوال وتنفيها في الأفعال.

فالقيم الخمس صارت إيديولوجيا حكم وليست حقيقة كيان الإنسان. وذلك هو تحريف الديني والفلسفي في آن. وهو يؤدي إلى الجاهلية أي إلى التخلي عن حقيقة الإنسان فعوض قانون الحرية بقانون الضرورة والعودة به إلى حقيقة الحيوان. وبذلك فهي تجمع بينها الأقوال للأولى والأفعال للثانية.

وهذا المسار يمكن أن يدرس من غايته أو من بدايته. يمكن ان أعود من هذه الغاية صعودا منها إلى البداية أو نزولا من البداية إلى الغاية. والقصد هو فهم تكوينية الدولة التي تقبل أن تكون أداة تحقيق هذه القيم أو أداة منع تحقيقها: فالسياسة هي تحقق الديني في التاريخ إيجابا أو سلبا.

ولو لم تكن هذه حقيقتها ما أوليت لها دقيقة من وقتي. ولو لم يكن فهمها لا يكفي فيه النظر لما أعطيت للنظر فيها من الداخل ما أوليت لها سنة كاملة للنظر فيما حال ابن خلدون بيانه نظريا بعد عمل وعلميا بعد نظر. فهي تعين الديني والفلسفي في التاريخ إما بقيمهما فعلا أو قولا توظيفيا إيديولوجيا.

وبداية هذا المسار في حضارتنا الإسلامية هي نزول القرآن. فهو مصحوبا بدور الرسول السياسي تربية وحكما مصداق تعريفي للعلاقة بين وحدة الديني والفلسفي بينهما وبين السياسي: هي الأساس النظري والقيمي وهو التجربة الحية لهذا الأساس. الدين التام والخاتم يظهر حقيقة هذه العلاقة إنه هذه الحقيقة.

ولأعد إلى المقومات التي حددت بها الدولة:

  1. المرجعية

  2. القوى السياسية

  3. ما يقبل التسمية دستورا

  4. الهيئة الحاكمة والمعاركة

  5. الوظائف وإدارتها.

وهذه العناصر المقومة التي لا تخلو منها دولة هي بدورها كيان في تكوينية مستمرة لا يخلو منها مجتمع الإنساني بوجهيها بغلب موجبهما أو سالبيهما.

ويقتضي ذلك أولا أن أبين أن القول بأن السياسي هو الديني والفلسفي مترجمين تاريخيا في تعييناتهما التي يكون فيها دور الحضارات الجزئية في نسبة حياة الأفراد إلى الحياة عامة. فكل جيل له مسار قائم الذات وهو في آن مجرد حامل ينقل الحياة كما في سباق التناوب. والحياة وحدها هي الرابحة في السباق.

كل حضارة لجماعة متعينة في دولة هي جيل في عمر الحضارة الإنسانية في نسبة الجيل العضوي في الحياة. فكل حضارة تمر بمراحل عمرية مثل كل جيل فيها وكل دولة لكنها مرورها من التاريخ المديد كما وصف ابن خلدون تاريخيها القصير للدول بأجيالها والمديد بالحضارات الجزئية أجيالا للحضارة الكلية.

نظرية الاجيال السياسية في فلسفة ابن خلدون الجامعة بين الديني والفلسفي لمقومات الإنسان لها إذن مستويان: واحد من التاريخ القصير والثاني من التاريخ المديد. والاول يؤرخ للدول والسياسات والثاني للحضارات. وإذن فمفهوم الصعود والهبوط في أعمار الدول والحضارات متحدان شكلا ومختلفان مضمونا.

وكلا المستويين نموذجهما عضوي: مثل مراحل حياة الفرد الإنسان من الطفولة إلى الكهولة صعودا ومنها إلى الشيخوخة نزولا. للفرد خمس سنوات بعد الأربعين يبدأ النزول. فيكون العمر القياسي هو تسعين سنة. وهو طبقه على الدولة. وشيخوخة الحضارات هي بلوغ الترف الذي يعتبره القاتل للحضارات الجزئية.

وهذا العمر للدول اربعة أجيال في الثلاثين سنة علته مع العشرة التي هي مجموع الخمسين بعد الأربعين الصعود والأربعين النزول هي التي تجعل عمل الدول يصل إلى أقصاه مائة وثلاثون سنة. والحضارة الخاصة تتكون من العصبيات التي تحكمها وكل عصبية تمد في عمرها وتبقيها لأنها تضخ فيها دماء شباب جديد يطيل في عمرها.

وتكون الحضارة الإنسانية الكونية حصيلة لهذه الحضارات التي تمكنت بإبداعها العلمي والفني وتطبيقاتهما إلى البقاء حية في التاريخ الإنساني لأنها حتى لو انقرض كيانها العضوي يبقى كيانها الرمزي في الحضارات التي تلتها في التاريخ الإنساني الكوني الفلسفي والديني وثمراتهما المادية والروحية.

لم يكف الفصل السادس سأضيف فصلا سابعا آملا أن يكفي لختم هذه المحاولة. وسندرس في الصعود والهبوط في تحقيق المضمون الديني والفلسفي لتجاوز ما قد يصيبهما من تحريف وجاهلية يحولان دونهما وهذه الغاية. وإذن فالتحقيق مناوس بين توجهين صاعد وهابط بلا نهاية إلى يوم الدين.

ولما كان الإسلام هو الديني في الأديان وكان الفلسفي والديني شيئا واحدا فإن ما يرفع الأمم ويحطها هو التقارب والتباعد بين الوجدان الديني والعرفان الفلسفي النابعين من نفس المعين: حقيقة الإنسان المشرئب إلى ما يتجاوز مقومات وجوده في كيانه الذاتي وفي شروط حياته الخارجية.

وما في كيانه الذاتي سميناه الأحياز الذاتية (البدن والروح وتفاعلهما من الأول إلى الثاني أو الذوق في مستواه الاول ومن الثاني إلى الاول أو الذوق في مستواه الثاني) والذوقان يحددان الغايات ويدفعان إلى إبداع الأدوات. وإبداع الأدوات هو العامل وإبداع الغايات هو العمل الناظر.

فالنظر العامل هو التراث المعرفي والذوقي وهو زاد الفرد الثقافي ويحدد الأدوات. والعامل الناظر هو الثروة المادية والروحية وهو زاد الفرد الطبيعي ويحدد الغايات. ويوحدها مرجعيته. أما بالنسبة إلى الأحياز الخارجية فهي الجغرافيا والتاريخ وتفاعلهما في الاتجاهين: الثروة والتراث الكونيين.

صحيح أن لكل جماعة جغرافيتها وتاريخها وثروتها وتراثها ومرجعيتها الموحدة. لكن هذه المكونات واحد للإنسانية كلها إما بالتساوق أو بالتوالي بين الحضارات والجماعات. فالعالم وتاريخ تسخيره (الحضارة) واحد في سعيه لتحديد للغايات الذوقية بمستوييها وإبداع الأدوات المعرفية واحد لأنه متوارث.

وهذا التوارث من جنس التوارث العضوي ولكن بقوانين أخرى هي التي نحاول فهمها حتى نفسر التكوينية التي تجعل الأمم والشعوب تصعد وتنزل في تاريخ العالم بسبب وحدة الغايات والأدوات المكتوبة في كيان الإنسان البدني والروحي وفي كيان العالم المادي والروحي: تناظر الأحياز الذاتية والخارجية.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

يقوم على الموقع عاصم أشرف خضر مع مجموعة من طلاب الأستاذ ومتابعيه.
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي