لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله الدولة
أعود إلى الكلام على الدولة في فصلين أخيرين بعد الثلاثة التي سبقت.
الأول: سأحدد فيه بصورة نسقية المقومات البنيوية لكل دولة بوصفها الصورة التي تنتقل من القوة إلى الفعل في تاريخ أي جماعة بصنعها جهازا مؤسسيا وقانونيا للحكم وللتربية بعدي السياسة في كل العصور وفي كل الحضارات.
وفي الثاني سأبين كيفية حصوله لدينا وفي الغرب لنفهم التناظر العجيب بين ثورتي الإسلام الروحية (تحرير الفرد مقوما أساسيا للجماعة) والسياسية (تحرير الجماعة بيئة ضرورية للتحرير الاول). فعندي أن هذين الوجهين من ثورة الإسلام ما زالت الحداثة نفسها دونها مفهوميا حتى وإن تجاوز منجزها منجزنا.
والقوى السياسية أصل مرجعي فعلي بمعنى أنها مهما تعددت تبقى إضافية إلى الأصل المرجعي الاعم حتى لو عارضته: فالقوى السياسية اليوم تتحدد إما بتأويلات القرآن أو بمعارضتها باسم تأويلات الحداثة. فتكون القوى السياسية وكأنها حياة المرجعية متعينة في قوى حية هي القوى السياسية بمعنييها.
فالقوى السياسية ليست مقصورة على من يسعى إلى الحكم (المعارضة) أو من يحكم (الحكم القائم) بل وكذلك القوى في البعد الثاني من السياسة أي التربية لأن السياسة ذات بعدين: فعلي هو الحكم ورمزي هو التربية. وكل حكم لا يدوم إذا لم تسنده تربية بمنظوره المستمد من المرجعية لها أو عليها.
وهذا اساس رفضي لمنطق الجدل: فثنائية الحكم والتربية تلغي ثنائية الحكم والمعارضة. لأن الفرق بينهما ليس في ثنائية التقابل الصراعي بل في منظومة مربعة لرؤى ذات أصل واحد هو المرجعية التي تتفرع إلى تصورين للحكم وتصورين للتربية وتكاملين بين التصورين في الحالتين لأن كليهما متعدد بلا حد.
ففي الحكم تصورات عدة وليس تصورا واحدا والجماعة الحاكمة لا تستطيع أن تصل إلى الحكم إلا بالتناغم بين خلافاتها فيكون منطقها متجاوزا للجدل وفي المعارضة نفس الشي فلا تجتمع على معارضة قابلة لأن تصل إلى الحكم من دون نفس الشرط. ولا يحصل انتقال المعارضة إلى الحكم بالتناقض بل بسد الثغرات.
ولذلك ففي كل دولة نجد التداول بين حزبين يتحرران من تطرف حزبين حديين وفي القلب من المربع حزب الوسط الذي هو صفر السياسة الذي يغير المعادلة تغيير الصفر للعدد بالمنزلة. فعندنا اليمن المتطرف واليسار المتطرف ويسار اليمين ويمين اليسار والوسط: والتداول بين الأخيرين وانحياز الوسط لأي منهما.
ما يعني أن منطق الجدل ليس المحدد للسياسي: فهو يعمل بين الحدين اليمين واليسار وهو لا يتجاوز الكلام. الفعل السياسي الحقيقي هو بين يسار اليمين ويمين اليسار مع ميل الوسط لهذا أو ذاك بحسب المناخ العام للرأي العام الشعبي. وهذا في كل المجتمعات وليس في الحديثة وحدها.
ونأتي إلى قلب المعادلة السياسية فبعد هذين العاملين المرجعية الرمزية وتعينها في القوى السياسية نصل إلى المقوم الثالث أو ترجمتهما الدستورية سواء كانت مكتوبة أو عرفية وهي تشبه ما يجمع عليه بوصفه الشروط الضرورية للوجود المشترك للجماعة: وهو لا يفعل إلا إذا تحول إلى “أخلاق موضوعية”.
فما يؤدي وظيفة الدستور أمر لا يخلو منه مجتمع بلغ درجة من الوعي بما يقتضيه أمره من نظام يجعل العيش المشترك سلميا وهذا الوعي متناسب مع تطور الجماعة في تحقيق ما هو بالقوة مرسوم في كيان الفرد واجتماع الأفراد حول شروط الحماية الداخلية والخارجية والرعاية التكوينية والتموينية.
وإذن فما يحكم القوى السياسية الذي وصفها هو عينه الذي يحكم الدستور فهو يستثني الحدين الأقليين اليمين واليسار المتطرفين ويحقق بديلهما الاغلبيين يمين اليسار ويسار اليمين مع الوسط الذي بقي غير محدد الخيار القيمي والذي اعطيناه دور الصفر الفاعل بالمنزلة أي بالتيامن والتياسر.
وهذه صيغة بنيوية رياضية تعتمد على قاعدة الحساب العشري: فالصفر على يمين الأعداد يقويها وعلى يسارها لا يزيدها شيئا. إذا انضم الوسط إلى أحدهما أوصله إلى الحكم وأبعد خصيمه والعكس بالعكس. فيكون الوسط أو المترددون هم المحددون لعلمية تغير الأغلبية في أي جماعة حديثة كانت أو قديمة.
ونصل الآن إلى المقوم الرابع أو الهيئة الحاكمة بالفعل وبالقوة أو الحزب الحاكم والحزب المعارض المؤهل للحكم بمنطق التداول الداخلي أو الجماعة المسيطرة في العالم والجماعة المؤهلة للسيطرة بمنطق التداول الخارجي-المعادلة لا تخص نظام الدولة الخاصة بجماعة بل تشمل نظام العالم في التاريخ.
استعملت مصطلح اليمين واليسار يسار اليمين ويمين اليسار والوسط لأنها صارت مصطلحات سارية المفعول في الكلام عن دينامية الحكم والمعارضة لكن الظاهرة تتجاوز هذه التسميات الحديثة وينبغي أن نستعمل ما يفيد هذا التجاوز السابق واللاحق. فلها اساس أعمق رمز إليه بنظام الجلوس في البرلمانات.
والأساس الأعمق يخص الزمان لا المكان: والزمان المعني هو هذا السعي الناقل من الحاصل بالفعل من شروط تحقيق أهداف الجماعة إلى ممكن الحصول بالقوة من أهدافها. واليمين هو نزعة المحافظة على الموجود وهي ذات مستويين مطلق ونسبي. واليسار هو نزعة المحافظة على المنشود بنفس المستويين.
والوسط هو نزعة الانتهازية بين نزعتي المحافظة النسبيتين في الموجود وفي المنشود. لذلك فهو المرجح بالانتهاز وتقدير من ستكون له الأولية في الاقتراب من الاغلبية في الرأي العام فينحاز إليه ليعمل عمل الصفر على اليمين (المنزلة) في نظام المنازل في القاعدة العشرية من علم العدد.
وهذه البنية هي إذن خاصية انثروبولوجية كونية: مواقف البشر القيمية تنقسم إلى خمسة تشبه أحكام الفعل في الشريعة الاسلامية:
موقفان محافظان على الموجود مطلق ونسبي (درجتا النهي)
موقفان محافظان على المنشود مطلق ونسبي (درجتا الأمر).
وواحد يشبه المباح أو ما هو بمعزل عن النهي والأمر.