الدولة، مفهومها وبعداها البنيوي والتاريخي – الفصل الخامس

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله الدولة

انتقلت بنية الدولة في تاريخنا السياسي من الكمون إلى الحصول الفعلي وإن بشكل مشوه بسبب العلوم الزائفة والأعمال المترتبة عليها والأكثر زيفا منها كما بينا ذلك عند كلامنا على مراجعة علوم الملة أصلها وفروعها: فهي علمان عمليان: الفقه وأصوله والتصوف وأصوله وعلمان نظريان: الكلام والفلسفة.

وأصل هذه العلوم الاربعة الأساسية -لا اتكلم على العلوم المساعدة وهي في علوم الملة اللغة والتاريخ اساسا والمنطق والرياضيات عرضا-هو تفسير القرآن والسنة. والزيف الأساسي في علوم القرآن علته وهم استخراج هذه العلوم من متنهما لكأنهما مصدر علم مباشرة وليسا ظاهرتين ككل الظاهرات.

فالقرآن والسنة عندي ظاهرتان مثل الظاهرات الطبيعية لا تعلمان مباشرة بل بعلوم متقدمة عليهما: فلو ذهبت مباشرة إلى الطبيعة لاكتشف قوانينها لفشلت لأن التجربة والاستقراء لا يحققان معرفة عليمة بل خبرة منظمة فيكون أقصى ما يمكن أن يبلغه المرء هو “تقنيات” من جنس النحو لا من جنس علم اللسان.

والفرق بين: النحو مجموعة من القواعد المستقرأة من اللغة لتعليمها لغير اهلها أو لتجويد معرفتهم بها لكنه ليس علما للسان من حيث هو لسان أيا كانت مادته عربية أو غير عربية. فعلم الكلي في الألسن هو الذي يمكن ان نسميه علما اما النحو أي لغة فهو تقنية لتعلمها وتعليمها.

صحيح أن ذلك يمكن أن يعتبر بداية. لكنها بداية مغشوشة وهي عملية وليست نظرية. والبداية هي اكتشاف طابعها التقني وليس العلمي. وطبعا العلم بعد أن يتأسس ينتج تقنيات وهي أرقى من الاستقرائية. فمن يتعلم أكثر من لغة يصبح أفهم للغته ممن يحفظ الألفية وإن لم يكن مثله اطلاعا على جزئيات قواعدها.

وقياسا على ذلك فعلم القرآن والسنة يكون أفضل عندما يعتمد على نفس المنهجية. وما أسميه علوما زائفة أمران:

  1. الغرق في عرضيات القرآن والسنة.

  2. جعلهما مصدر كل علوم الملة وصار حفظة النصين والشرح اللغوي وحواشيه علوما حتى فقدت الامة شروط التعمير والاستخلاف فاستتبعت.

وبهذه الطريقة تفتت القرآن والسنة وصار ما يسمونه علوما سوقا للآراء والمواقف المذهبية ولم يرتق أي منها إلى ما يمكن أن يسمى علما لأن كدسا من الآراء والمواقف يبقى كدسا من الآراء والمواقف المتصارعة وليس نظريات متخاصبة مثل النظريات العلمية في أي مجال وموضوع.

ومعنى ذلك أن هذه المتردمات تتحول إلى فلان قال فلان قال وقالت العلماء عامة وكلها محفوظات لا يوحد بينها إلا ذاكرة المتعلم وليس نظامها الذاتي الذي يتميز به النسيج العلمي الشارط للنمو الذاتي للمعرفة بمنطق موضوع مناسب للموضوع منطق يمكن من اكتشاف قوانينه التي هي مطلوب المعرفة العلمية.

ولهذه العلة لم أشرع في قراءة القرآن فلسفيا إلا بعد أن افترضت أن له طبيعة مشتركة مع كل النصوص الدينية حتى وإن كان أكثرها نسقية وشمولا وكونية رغم ما يبدو عليه من فوضى التنظيم والترتيب وكثرة التكرار-طبعا في عين أحد شخصين: من لا يؤمن به ومن لم ينفذ لبنيته العميقة.

وصف القرآن بهذه الصفات الثلاث-فوضى عدم التنظيم والترتيب وكثرة التكرار-علته أن قراءاته حتى من قبل المؤمنين به ظلت دون مرحلة العلم الذي لا يبدأ إلا بفرضية حول البنية العميقة التي تتجاوز هذه المظاهر العرضية والتي هي علة عدم الفرضية الصائبة حلو البنية العميقة شرط الشروع في العلم.

وبخلاف الطبيعة التي تترجم عن بنيتها العميقة بما يتجلى من أحداثها التي نقرأها فإن القرآن يترجم عن بنيته العميقة بأسلوبين:

  1. أسلوب أول مجانس لأسلوب الطبيعة بأحداثه ومادة خطابه.

  2. وبتعريفه نفسه لأنه حقيقة ناطقة وليس أبكما مثل الطبيعة. هذه تتجلى بأحداثها دون نطق والقرآن بهما معا.

ومعنى ذلك أن القرآن ظاهرة مضاعفة: فهي تنتسب إلى الطبائع بكيان مادتها وتنسب إلى الشرائع بما تقوله عن كيانها المادي. وهذا هو الفرق الأساسي بين نوعي الموضوعات العلمية. فالأول هو موضوع العلوم الإنسانية وما بعدها والثاني هو العلوم الطبيعية وما بعدها.

والعلوم الإنسانية وما بعدها أشد تعقيدا من العلوم الطبيعية وما بعدها: ذلك أن العلوم الإنسانية الطبيعي أحد وجوه مادتها والعلوم الطبيعية العلوم الإنسانية أحد وجوه صورتا. فالإنسان ككائن جزء من الطبيعة على الاقل ببدنه ويدرس بهذه الصفة في علوم الطبيعة. لكنه ذات دارسة لهذه العلوم.

وكون ما فيه من طبيعي يدرس طبيعيا وكونه هو الذي يردس الطبيعة فهو مدروس ودارس: والقرآن مثل الإنسان مدروس بوصفه أحد عناصر الطبيعة والتاريخ وهو دارس للطبيعة والتاريخ. ويبقى تحديد طبيعة المدروسية والدارسية في القرآن بغايتها وأداتها: إنه يُدرس ويَدرس ببنيته الرياضية والوسمية.

أما طبيعته:

  1. فرسالة ذات مضمون وشكل وهي موجهة

  2. من مرسل له خصائص مذكورة فيها

  3. إلى مرسل إليه له خصائص مذكورة فيها

  4. حول أمر كلف به المرسل إليه من المرسل

  5. مع استراتيجية لجعله قادرا على تحقيقها بتنمية ما في كيانه من شروط تعلم أو تذكر ما عليه فعله ليكون قادرا على تحقيق المطلوب.

ولا بد إذن من استخراج هذه العناصر من القرآن لكي يصبح موضوعا قابلا للعلم. فهي التي ينبغي أن تحدد المنظور التأويلي لكل ما فيه بصورة تخرج الدارس من فوضى المضمون الظاهر وتدخله في مرحلة الغوص إلى البنية العميقة التي تبين -كما في علم الطبيعة-طبيعة الفوضى وعدم الترتيب والتكرار.

نعم القرآن يبدو نصا فوضويا وعديم الترتيب وشديد التكرار. لكن ذلك ليس فيه بل في نوع الإدراك الغفل الذي يعجز صاحبه عن الولوج إلى البنية العميقة فيه. ولن يغني عن هذا الشرط اللجوء لترتيب النزول الزماني أو المكاني أو خاصة التعليمي. فكل ذلك من أعراض عدم إدراك بنيته العميقة.

ويمكن أن أشبه ذلك بما يحصل لمن يسمع لغة لا يعرفها. فهو سيرى فوضى أصوات لم يعهدها ولا يستطيع تمييز عناصرها ماديا فصلا عن معانيها ودلالاتها ووظائفها في تلك اللغة التي يجهل نظامها الصرفي والنحوي في وظائف اللسان الثلاث المضاعفة التي تكلمنا عليها.

وهذا المنطلق الذي قرأت به القرآن الكريم هو الذي أنوي تطبيقه في هذا الفصل الاخير عن تكوينية دولة الإسلام والتي هي عين الرسالة كما تعينت في تاريخ تكوينية القرآن وقد أصبح دولة مطابقة أو غير مطابقة لما فيه من شروط تحويله إلى سياسة ببعديها حكما وتربية للإنسان في الدنيا مطية للآخرة.

وابدأ بقصدي إن الدولة هي عين الرسالة أو عين تحققها في مستويين: في الأذهان وفي الأعيان. ففي الأذهان هي فهوم الأمة للقرآن وفي الأعيان هي المؤسسات التي ترجمت إليها هذه الفهوم فيما سميته علوم الملة وفيما سميته أعمال الأمة. فالدولة هي شخص معنوي يوجد في الأذهان ويوجد في الاعيان.

وجوده في الأذهان هو العلوم النظرية والعملية التي ترجمت القرآن إلى أنظمة ورؤية للوجود صارت مرجعية لكل أعمال المسلم وجوده في الأعيان هو كل الأعمال المؤسسة المتعلقة بالحكم والتربية شرطين لجعل الإنسان قادرا على حل مشكلين: السلطان على الدنيا والسلطان على معاني الوجود الإنساني وغاياته.

وذلك هو كل الرسالة التي هي جوهر القرآن بوصفه استراتيجية تكوين الإنسان تعليما وتذكيرا بهذين المعنيين حتى يكون قادرا على علاج ما يعوق تحقيقهما بقيم الاستخلاف. وهذا هو ما أطلقت عليه اسم استراتيجية توحيد الإنسانية بقيم الاستخلاف وتقديم عينة منها هدفا للسياسة المحمدية.

تصورت أن الفصل الخامس سيكون الأخير. لكني لم أفرغ من الكلام في التمثيل لنظرية الدولة كما تكونت في الحضارة الإسلامية لأنه اقتصر على التقديم لشروط فهم العلاقة بين القرآن وتاريخ الأمة بوصفه ترجمة للمرجعية القرآنية إلى كيان سياسي تاريخي في الأذهان وفي الأعيان.

لا بد إذن من فصل آخر ابين فيه كيف حصلت هذه الترجمة ومدى مطابقتها لهذا التعريف الاخير للاستراتيجية القرآنية في تحقيق وحدة الإنسانية ومدى مطابقة العينة من السياسة المحمدية لهذه الوحدة التي هي مضمون الرسالة كلها التي ترجمتها إلى ما سميته المعادلة الوجودية.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

يقوم على الموقع عاصم أشرف خضر مع مجموعة من طلاب الأستاذ ومتابعيه.
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي