لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله الدولة
انتقلت بنية الدولة في تاريخنا السياسي من الكمون إلى الحصول الفعلي وإن بشكل مشوه بسبب العلوم الزائفة والأعمال المترتبة عليها والأكثر زيفا منها كما بينا ذلك عند كلامنا على مراجعة علوم الملة أصلها وفروعها: فهي علمان عمليان: الفقه وأصوله والتصوف وأصوله وعلمان نظريان: الكلام والفلسفة.
وأصل هذه العلوم الاربعة الأساسية -لا اتكلم على العلوم المساعدة وهي في علوم الملة اللغة والتاريخ اساسا والمنطق والرياضيات عرضا-هو تفسير القرآن والسنة. والزيف الأساسي في علوم القرآن علته وهم استخراج هذه العلوم من متنهما لكأنهما مصدر علم مباشرة وليسا ظاهرتين ككل الظاهرات.
فالقرآن والسنة عندي ظاهرتان مثل الظاهرات الطبيعية لا تعلمان مباشرة بل بعلوم متقدمة عليهما: فلو ذهبت مباشرة إلى الطبيعة لاكتشف قوانينها لفشلت لأن التجربة والاستقراء لا يحققان معرفة عليمة بل خبرة منظمة فيكون أقصى ما يمكن أن يبلغه المرء هو “تقنيات” من جنس النحو لا من جنس علم اللسان.
والفرق بين: النحو مجموعة من القواعد المستقرأة من اللغة لتعليمها لغير اهلها أو لتجويد معرفتهم بها لكنه ليس علما للسان من حيث هو لسان أيا كانت مادته عربية أو غير عربية. فعلم الكلي في الألسن هو الذي يمكن ان نسميه علما اما النحو أي لغة فهو تقنية لتعلمها وتعليمها.
صحيح أن ذلك يمكن أن يعتبر بداية. لكنها بداية مغشوشة وهي عملية وليست نظرية. والبداية هي اكتشاف طابعها التقني وليس العلمي. وطبعا العلم بعد أن يتأسس ينتج تقنيات وهي أرقى من الاستقرائية. فمن يتعلم أكثر من لغة يصبح أفهم للغته ممن يحفظ الألفية وإن لم يكن مثله اطلاعا على جزئيات قواعدها.
وقياسا على ذلك فعلم القرآن والسنة يكون أفضل عندما يعتمد على نفس المنهجية. وما أسميه علوما زائفة أمران:
الغرق في عرضيات القرآن والسنة.
جعلهما مصدر كل علوم الملة وصار حفظة النصين والشرح اللغوي وحواشيه علوما حتى فقدت الامة شروط التعمير والاستخلاف فاستتبعت.
وبهذه الطريقة تفتت القرآن والسنة وصار ما يسمونه علوما سوقا للآراء والمواقف المذهبية ولم يرتق أي منها إلى ما يمكن أن يسمى علما لأن كدسا من الآراء والمواقف يبقى كدسا من الآراء والمواقف المتصارعة وليس نظريات متخاصبة مثل النظريات العلمية في أي مجال وموضوع.
ومعنى ذلك أن هذه المتردمات تتحول إلى فلان قال فلان قال وقالت العلماء عامة وكلها محفوظات لا يوحد بينها إلا ذاكرة المتعلم وليس نظامها الذاتي الذي يتميز به النسيج العلمي الشارط للنمو الذاتي للمعرفة بمنطق موضوع مناسب للموضوع منطق يمكن من اكتشاف قوانينه التي هي مطلوب المعرفة العلمية.
ولهذه العلة لم أشرع في قراءة القرآن فلسفيا إلا بعد أن افترضت أن له طبيعة مشتركة مع كل النصوص الدينية حتى وإن كان أكثرها نسقية وشمولا وكونية رغم ما يبدو عليه من فوضى التنظيم والترتيب وكثرة التكرار-طبعا في عين أحد شخصين: من لا يؤمن به ومن لم ينفذ لبنيته العميقة.
وصف القرآن بهذه الصفات الثلاث-فوضى عدم التنظيم والترتيب وكثرة التكرار-علته أن قراءاته حتى من قبل المؤمنين به ظلت دون مرحلة العلم الذي لا يبدأ إلا بفرضية حول البنية العميقة التي تتجاوز هذه المظاهر العرضية والتي هي علة عدم الفرضية الصائبة حلو البنية العميقة شرط الشروع في العلم.
وبخلاف الطبيعة التي تترجم عن بنيتها العميقة بما يتجلى من أحداثها التي نقرأها فإن القرآن يترجم عن بنيته العميقة بأسلوبين:
أسلوب أول مجانس لأسلوب الطبيعة بأحداثه ومادة خطابه.
وبتعريفه نفسه لأنه حقيقة ناطقة وليس أبكما مثل الطبيعة. هذه تتجلى بأحداثها دون نطق والقرآن بهما معا.
ومعنى ذلك أن القرآن ظاهرة مضاعفة: فهي تنتسب إلى الطبائع بكيان مادتها وتنسب إلى الشرائع بما تقوله عن كيانها المادي. وهذا هو الفرق الأساسي بين نوعي الموضوعات العلمية. فالأول هو موضوع العلوم الإنسانية وما بعدها والثاني هو العلوم الطبيعية وما بعدها.
والعلوم الإنسانية وما بعدها أشد تعقيدا من العلوم الطبيعية وما بعدها: ذلك أن العلوم الإنسانية الطبيعي أحد وجوه مادتها والعلوم الطبيعية العلوم الإنسانية أحد وجوه صورتا. فالإنسان ككائن جزء من الطبيعة على الاقل ببدنه ويدرس بهذه الصفة في علوم الطبيعة. لكنه ذات دارسة لهذه العلوم.
وكون ما فيه من طبيعي يدرس طبيعيا وكونه هو الذي يردس الطبيعة فهو مدروس ودارس: والقرآن مثل الإنسان مدروس بوصفه أحد عناصر الطبيعة والتاريخ وهو دارس للطبيعة والتاريخ. ويبقى تحديد طبيعة المدروسية والدارسية في القرآن بغايتها وأداتها: إنه يُدرس ويَدرس ببنيته الرياضية والوسمية.
أما طبيعته:
فرسالة ذات مضمون وشكل وهي موجهة
من مرسل له خصائص مذكورة فيها
إلى مرسل إليه له خصائص مذكورة فيها
حول أمر كلف به المرسل إليه من المرسل
مع استراتيجية لجعله قادرا على تحقيقها بتنمية ما في كيانه من شروط تعلم أو تذكر ما عليه فعله ليكون قادرا على تحقيق المطلوب.