لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله الدولة
وقبل أن أواصل تحليل بينة وظائف الدولة الثابتة وأعضائها ذات الصيرورة التاريخية المحققة لهذه الوظائف بوصفها كيان الجهاز الآلي المصور لوجود الجماعة في كل مجالات حياتها وهو المفهوم الأتم للسياسة وبعد أن وصلتها بالأحياز فلأصلها بأداتي فعلها بعد ملء خاناته بالقيمين عليها لتكون آلة حية.
سبق أن تكلمت على نظرية الفاعلية الرمزية الممثلة للاقتصاد والممثلة للثقافة أو لإنتاج الثروة وانتاج التراث في كل جماعة إنسانية أعني ثمرة فاعليتي الحيزين اللذين ينقلهما فعل الانسان المنتج للثروة والتراث وهما المكان والزمان إذ يصبحان بهذه الفاعلية الحضارية إذ يصبحا جغرافيا وتاريخ.
والجماعة لا تجتمع إلا للتعاون في هذه العمليات لتحقيق شروط العيش وحمايتها: الحاجة إلى التعاون يقتضي الاعتراف بملكية الغير والاعتراف يقتضي التبادل والتبادل يقتضي التعاوض وعدم التمانع وهو يجعل الاجتماع مقتضيا مفهوم الوزع الأجنبي الحكم لعدم كفاية الوزع الذاتي خلال التساكن.
المبدآن: الحاجة إلى التعاون والحاجة إلى تنظيمه لمنع الاعتداء المتبادل هو الذي يؤسس لكل هذه المقتضيات المتوالية في نظرية الدولة البنيوية والتي تكوينتها هي تاريخ “صنع” أدوات تحقيق الغايات الناتجة عن الاقتضاء المتوالي كما وصفه ابن خلدون لوضع نظرية العمران البشري والاجتماع الإنساني.
وكان علي أن أضع نظرية تحد من عدد العناصر التي يصعب صوغها بصورة تميز بين ما نريد تفسيره وما نريد تفسيره به:
فالاجتماع والتساكن من أجل
التعاون
والتبادل
والتعاوض
من دون تعانف هو مفهوم الدولة وبنيتها الثابتة في أي جماعة بدأ من الأسرة وختما بالدولة الجزئية وبدولة الإنسانية
والمعلوم أن دولة الإنسانية هي مشروع الرسالة الخاتمة: أي لها دولة تخلصت من الحدود الجغرافية لأن جغرافيتها هي العالم كله وتخلصت من التاريخ الخاص لأن تاريخها -كما في القرآن- هو تاريخ الجنس البشري وتدرجه في الوعي بوحدته الروحية والسياسية: القرآن هو استراتيجية هذا المشروع.
ولهذه العلة سمى ابن خلدون ما أبدعه في مقدمته بـ”علم العمران البشري والاجتماع الإنساني” وليس علم تاريخ خاص بأمة معنية بما في ذلك تاريخ الأمة الاسلامية بل هو يتكلم على بنية الدولة عامة ومستوياتها:
وحتى أخرج من كل هذه المعطيات اكتفيت برد الأمر كله إلى الرمزين: فعل الرمز أو الكلمة ممثلة للإنتاج الرمزي العلمي والجمالي وما بعدهما ورمز الفعل أو العملة ممثلة للإنتاج المادي تطبيقا للإنتاج الرمزي العلمي والجمالي في كل مراحل الحضارة الإنسانية. وكلاهما يمكن أن يكون عنيفا أو لطيفا.
فالمنتج الاقتصادي ورمزه العملة يمكن أن يستعمل بعنف لتحقيق أهدافه ويمكن أن يستعمل بلطف لنفس الغاية. والأول للإخافة وتطويع الإرادة والثاني للإطماع وتطويع الإرادة وإذن فالاقتصاد ينتج الثروة سلطانها العنيف واللطيف. والمنتج الرمزي ورمزه الكلمة ينتج التراث وسلطانه العنيف واللطيف.
وكلا العنفين واللطفين يمثل أداة لكل سلطة والأولى يمكن اعتبارها سلطة الحكم والثاني سلطة التربية. وهما بعدا السياسة والدولة من أدنى أشكالها إلى أسماها. وهما مقوما بنية السلطة في الجماعة مهما صغرت أو كبرت من الأسرة إلى الإنسانية مرورا بالقبيلة والدولة حتى تشمل البشرية كلها.
وهذه هي بنية الدولة الثابتة التي يمكن الوصول إلهيا عقليا من خلال تحليل مقوماتها السلطة المادية والرمزية وهي كذلك ما يتضمنه القرآن في تعريف الشريعة التي هي الدولة تعينا للعقيدة. الشريعة بخلاف ما يتوهم الفقهاء ليست القانون ولا الاخلاق بل هي الدولة نفسها الشاملة لهذه المقومات.
وكل مضمون القرآن هو نظرية الدولة بوصها التعين التاريخي للمرجعية الشاملة للحريتين الروحية (علاقة الإنسان المبادرة بربه) والسياسية (علاقة الإنسان بأمره أو بشروط قيامه العضوي والنفسي) وهو الاستخلاف: الإنسان خليفة بمعنى أنه يطبق المرجعية التي تحدد شروط الاستعمار في الارض بقيم المرجعية.
ومن ثم فالقرآن استراتيجية تحقيق ما أطلقت عليه اسم المعادلة الوجودية: القطبان الله والإنسان وعلاقتهما المباشرة (الرسالة) وغير المباشرة بتوسط علمي الطبيعة والتاريخ والعمل به لتحقيق شروط القيام المادي والروحي للفرد والجماعة فتكون الخلافة العامة تعميرا للعالم بقيم الاستخلاف.
فيكون القرآن متضمنا لدولتين: دولة الله ودولة خليفته. وهذه تاريخية وتلك ما بعد تاريخية. هذا مسعى لمحاكاة تلك نموذجا. فإذا خالفته اعتبرت استعمارا للأرض بقانون مادي طبيعي وإذا طابقته اعتبرت استعمارا للأرض بقانون روحي خلقي. وهي العلاقة بين توظيفي الرمزين: العملة والكلمة.
وهذه الحقيقة قلبت رأسا على عقب بما يشبه الانتقال من نظام الحكم وأسلوبه بمقتضى الدستور القرآني – قبل أن يصاغ صوغا بنيويا وعمله بشكله عرفي مستند إلى أخلاق الخلفاء الراشدين وبأسلوب الاجتهاد الذي من جنس تجربة الخطأ والصواب- إلى نظام طوارئ بعد الفتنة والحرب الاهلية المترتبة عليها.
والقرآن لا يحدد أعيان هذه القوانين والسنن بل يقتصر على الإشارة العامة إلى طبيعتهما:
فقوانين الطبيعة أو الخلق رياضية
وسنن التاريخ أو الأمر سياسية. والرياضية فيه نوعان: بنية مادة الخلق رياضية وقيمة صورته خلقية. والسياسية نوعان: بنية مادة الأمر سياسة وقيمة صورته خلقية.
فكانت النتيجة أن:
البنية المادية والصورة الجمالية للخلق في علم الطبائع الرياضي والعمل به على علم
والبنية المادية والصورة الخلقية للأمر في علم الشرائع السياسي والعمل به على علم. أهملا لأن البحث العلمي قلب العلاقة بين آيات الآفاق والأنفس ليبحث في آيات النص القرآني.