الدولة، مفهومها وبعداها البنيوي والتاريخي – الفصل الثالث

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله الدولة

طبيعي جدا ألا تكون لغة المفاهيم النظرية مطابقة لما يعتبر عادة واقعا. فهذه حقيقة كل النظريات سواء تعلقت بالطبيعيات وأشكالها الرياضية أو بالتاريخيات وأشكالها السياسية. فالنظريات رغم أنها تضيف التجربة للمقدرات الذهنية تبقى مع بنى مثالية لا تنطبق إلا بعد تجريد موضوعها مما ليس مقوما.

وما ليس مقوما يطلق عليه في الفلسفة القديمة والوسطية اسم الأعراض غير الذاتية وهي من الطوارئ الخارجة عن كيان الشيء والذي له تأثير يصعب حصره ليكون موضوع نظر وهو ما يحوج النظرية إلى تجاوز العلم بالمقومات إلى الانتقال إلى الظروف الخارجية بتكرار امتحان النظرية عينيا.

ولعل أكبر الامثلة تنتسب إلى تطبيق النظريات العلمية في الأسلحة التي يمتحن استعمالها باعتبار تغيرات المناخ والرياح لتحديد ضروب التوجيه والتصدي للمدفعية مثلا. وكل هذه العناصر المؤثرة من خارج تصبح هي بدروها موضوع حصر وتنظير حتى يتم إدخالها في حسبان الانتقال من النظر إلى العمل.

ولولا هذا القلب المضاعف للنظر والعمل الذي لم يكن على علم لترتبه على غياب المعرفة التي تكتشف قوانين الطبيعة وهي رياضية وسنن التاريخ وهي سياسية والاعتماد على “شيوخ” جاهلين لكل هذه الشروط التي هي مقومات الاجتهاد والجهاد كما حددهما القرآن في مفهوم استعمار الإنسان في الارض بقيم الخلافة.

وقيم الخلافة لا تكون إلا من جنسين:

  1. ويترتب على هذا التحديد ومفهوم العمل على علم بتطبيق نوعي المعرفة العلمية والجمالية أو الذوقية في الطبيعيات وبتطبيق المعرفة العملية والخلقية أو التربوية في السياسيات.

ولولا وعد الله بحماية قرآنه ورسالته لما بقي للأمة وجود. فلا يمكن بعلوم زائفة وبعمل عطل الدستور وجعله تابعا لقوانين من جنس المحظور الذي فرضته ضرورة الطوارئ بعد الفتنة الكبرى حتى صارت بديلا من القرآن ونظريته في الاجتهاد والجهاد أن تصمد الأمة لولا المعجزة القرآنية والحفظ الإلهي.

أربعة أصناف معلومة وهي: أعداؤنا وأعداء الله أي أعداء حدوده ومن يعادوننا لعداوتهم لله ومن يعادون الله لعداوتهم لنا. والأخيرون هم من لا يعلمهم الا الله ويتمثلون في من يخترقنا من الخارج أو في من يخوننا من الداخل وهم المنافقون. لكن الأمة عزلاء وجهلاء.

وهي ليست عزلاء وجهلاء بسبب عدم نشر التعليم أو بعدم فهم الاخطار بل لأنها أهملت شروط ما يجعل التعليم نشر التعليم والعلم بالأخطار يتحول إلى قوة قادرة على تحقيق شرطي السيادة: الحماية والرعاية. فما تسميه الأمة دولا هو في الحقيقة محميات وليس دولا ذات سيادة.

ولفهم ذلك وضعت نظرية الاحياز وتناسبها الحجمي مع شروط السيادة في عصر من التاريخ الإنساني: فقوة الامم لا تقاس إلا بسياسة الاحياز الخارجية والاحياز الذاتية. ولعل أفضل مثال أن ما كان ممكنا لما كانت الحروب مبارزة بين الأبدان خاصة أصبح مستحيلا بل لأنه صار مبارزة بين الأذهان خاصة.

صحيح أن للأذهان حضور في الحروب القديمة. لكنه كان متعلقا بتنظيم الجيوش والاستراتيجية المتماثلة في الاعتماد على الصدام المباشر بين الأبدان وشجاعة الفرسان. وصحيح أيضا أن الابدان حاضرة في الحروب الحديثة. لكن الغالب في الأولى هو الأبدان والغالب في الثانية هو الأذهان.

والأذهان تستعمل ما ذكرنا من العلوم النظرية والعملية وتطبيقاتهما وهي مهام تقتضي بحثا علميا مكلفا جدا لا يمكن للدويلات القزمية أن تحقق منه إلا أدنى مراحله. فتصبح تابعة للأقدرين عليه. حجم الاحياز هو الشرط الضروري دون أن يكون كافيا: من هنا عجزت عنه دول اوروبا التي كانت امبراطوريات.

وفهمت أنها لن تستطيع منافسة أمريكا والسوفيات من دون الشروع في تجاوز الحجوم التي لم تعد مناسبة لعصر العماليق، لكن لسوء الحظ كلما ازداد غيرنا عملقة ازدننا قزمية فأصبح كل غفير امير وتفتت دار الإسلام وبدأ المسلمون انفسهم يتخلصون من وحدة الأحياز مكانا وزمانا وثروة وتراثا وحتى مرجعية.

فعندما تنصب لتعنتر العرب بعضهم على بعض في المغرب العربي (بين الجزائر والمغرب) وفي المشرق (بين محميات الخليج) تشعر بأنهم يتوهمون أن ما يسمونه دولا لهم هو دول. لكنهم يعلمون أنهم مجرد محميات نصب عليها المستعمر من يرضى عنهم ليساعدوه في نهب ثرواتها وإعطائهم فتات موائده.

والمعلوم أن شباب العرب من الماء إلى الماء لو كان في دولة ذات حجم مناسب للعصر وكانت نخبها الحاكمة والمعارضة مؤمنة بأن لها دورا في التاريخ ينبغي استرداده كما يفعل ذراعا أعدائهم (إيران وإسرائيل) وأعداؤهم الذين يستعمرونهم لحماية الانظمة العميلة لأصبح اهل الإقليم قوة أمة سيادة.

ولأن الأعداء فهموا أن الثورة يمكن أن تؤول بالتدريج إلى فهم هذه الحاجة كان ما نعيشه من حرب أهلية في المغرب وفي المشرق وأصبح العرب أحقر شعب في الإقليم ليس صفة ذاتية بل وضعا ظرفيا علته العجز عن فهم ضرورات العصر والعمل بما يقتضيه فهمها لتحقيق شرطي السيادة: الحماية والرعاية.

فالحروب اليوم لم تعد حرب جنود بل حرب علماء. وهي تربح في الجامعات ومعاهد البحث العلمي. لم يعد الوعظ والإرشاد والشجاعة والإيمان كافية رغم ضرورتها. فالمحارب إنسان لا بد فيه من العامل الروحي الخلقي (الإيمان بالقضية) والعامل العلمي (شروط القوة وشروط استعمالها الأنجح) واستراتيجية.

ومن ثم فمن دون حجم الأحياز المناسب (الجغرافي والتاريخي والبشري أصل تحصيل تفاعلهما أي الثروة عامل القوة الاول والتراث عاملها الثاني مع المرجعية الموحدة لذلك كله (الإسلام عندنا) وتطبيق ذلك كله على البحث العلمي النظري والعملي وتطبيقاته للتحقق شروط السيادة أي الحماية والرعاية.

فبلاد العرب والمسلمين محميات لا دولا ذات سيادة والعلة هي أن جغرافية الأمة فتت وتاريخها شتت فتفرقت شروط ثروتها وشروط تراثها وتكاد وحدة مرجعيتها التي يحارب الأعداء من الداخل والخارج علته عدم فهم هذه المعطيات أو عدم الأقدام على العمل بمقتضاها بسبب العملاء من حكامها ومعارضتها ونخبهما.

تلك هي الغايات العملية التي لا تغيب عن بالي حتى عندما يكون همي الأول في البحث النظري الذي يمكن الشباب من التحرر من العلوم الزائفة والاعمال الزائفة لأن ما يستعاد من التراث استوفى غرضه عندما حافظ على الامة إلى الشروع في الخروج من الانحطاط وهو دفاعي وسلبي لا يؤسس للعمل على علم.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

يقوم على الموقع عاصم أشرف خضر مع مجموعة من طلاب الأستاذ ومتابعيه.
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي