لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالدولة
ذكرت في الفصل الأخير من الكلام على الحرب الاهلية العربية خاصة والإسلامية عامة أن الدولة المتعينة في نظام حكم وأسلوب حكم ليست ظاهرة تحكمية بل هي ذات بنية ثابتة وذات تكوينية هي بدورها منتظمة وليس تحكمية كذلك. وقد سبق فعرفت الدولة في محاولة مكملة للسابقة وبيان بينتها وتكوينيتها.
يكفي في تعريف الدولة أن أحيل إلى المحاولات السابقة لذلك فما أورده هنا مجرد تذكير سريع:
الدولة هي شعب يملك الاحياز الخمسة يحمي ذاته بحمايتها لأنها مصدر رعايته لذاته بجهاز آلي مؤلف من أعضاء هي المؤسسات وأحكام هي القوانين للحماية الداخلية والخارجية التي من دونها تمتنع الرعاية الذاتية.
وبينت أن هذا التعريف الوجيز يختلف عن التعريف التقليدي شعبا وأرضا وحكما. فهذا التعريف الشكلي يمكن أن يعتبر المحميات دولا. فكل المحميات العربية يسمونها دولا وليس لها المقوم الجوهري للدولة أعني وظيفتيها أو شرطي السيادة: الحماية والرعاية. لذلك أضاف ابن خلدون مفهوم السيادة للدولة.
وإذن فالدولة هي:
شعب حر
مالك للأحياز الخمسة أي لأرض وتاريخ وتراث وثروة ومرجعية تؤسس للملكية ولما يترتب عليها من ضرورة الحماية لأنها شرط الرعاية
جهاز صوري ينظم الحماية الداخلية والخارجية
وينظم الرعاية تكوينا وتموينا للإنسان
ويضبط ذلك “دستور” نابع من مرجعية ذلك الشعب.
فالدولة هي صورة الجماعة والجماعة هي مادة الدولة. والمادة هنا مؤلفة من كائنات عاقلة هي التي تبدع الصورة وتطورها بشروط بنيوية هي وظائف الصورة وبشروط تاريخية هي النضوج المتدرج تقنيا (صنع الجهاز) وخلقيا (أهداف الجهاز) وهذه العملية هي التاريخ السياسي والخلقي للتصوير الذاتي للجماعة.
وهذا التعريف مجرد صوغ لمحاولة ابن خلدون تحديد مفهوم الدولة السيدة التي تصبح أشبه ما يكون بالوعي الذاتي عند الفرد: الدولة كجهاز مؤسسي وقانوني مكتوبا أو عرفيا هي السلطان الذاتي لجماعة حرة تشرع لنفسها أو تتبنى تشريعا سماويا أو وضعيا بحرية لتحقق حماية ذاتها ورعايتها شرطين للسيادة.
إذا سقط أحد هذه المقومات نقصت حقيقة الدولة لأن ذلك نقصانا في جوهرها أعني سيادة الجماعة على ذاتها وقدرتها على حمايتها ورعايتها. وهذا هو مفهوم “الأوتونومي” الذي يصح حتى على الفرد. فكل فرد ليس له القدرة على حماية ذاته ورعايتها ليس حرا إلا وهميا فيكون فردا بايولوجيا وليس شخصا خلقيا.
وسأبدأ بالكلام على تحقق هذه الشروط المتدرج لدولة الإسلام:
مشروع جاءت به الرسالة
مركز جغرافي شرع في تحقيقه الرسول وثبته الصديق
مركز تاريخي حققه الفاروق
توحيد مرجعية مشروع الدولة حققها ذو النورين
تحويل ذلك إلى كيان آلي خلقي متدرج في شكل مؤسسات وقوانين كيانا للدولة.
وهذا التحقيق المتدرج لكيان الدولة ليس هو شيئا آخر غير الوعي المتدرج بالبنية الخفية لكيان الدولة خلال تحققه الفعلي في الأحياز الخمسة: فتصبح الدولة جغرافيا وتاريخيا والتفاعل المتبادل بينهم ينتج ثروة وتراثا والموحد لهذه الاحياز الاربعة الحيز الأصلي الذي هو مرجعية المشروع: الإسلام.
المرجعية الموحدة هي الإسلام وأقصد الفهوم المتوالية للمرجعية لأن الإسلام نص مجرد يتعين في فهومه المتوالية بحيث إن دولة الإسلام بينة موجودة بالقوة في المرجعية وهي تتجلى بالفعل في تاريخ المرجعية أو بصورة أدق في تاريخ فهومها المتوالية من قبل المسلمين إيجابا وسلبا أي فهما وسوء فهم.
ومن حسن حظنا أن لنا أدبيات الفكر السياسي وخاصة الصوغ الخلدوني للشكل النهائي لدولة الإسلام التي تحددت في عصره كما لخص وظائفها قسمة بين الخليفة (السلطة الرمزية) والسلطان (السلطة الفعلية) وهو ما يبين لنا مسار ثمانية قرون من تاريخ علمية الصوغ التقني والخلقي للدولة في الإسلام.
والغاية التي وصفها ابن خلدون موجودة دائما لكنها تمر من الكمون إلى الظهور: وهي إما جمع السلطتين أو الفصل بينهما بتقديم وتأخير متداولين حتى ينتهي الامر إلى فصل مؤسسي مقنن وثابت في تعاون بين السلطتين الرمزية والفعلية. الرسول جمع بين السلطتين. الخلفاء فصلوا بينهما.
وفصلهما لم يكن واضحا لأن السلطة الروحية صارت للقرآن والسنة والسلطة الفعلية صارت للجماعة. لكن ما حدث بعد الفتنة جمعت السلطتان بيد الخليفة لأن دور القرآن والسنة أصبح دور العلماء شبه فرض كفاية فأصبحوا تابعين للسلطة الفعلية التي بيدها الحكم وليس للسلطة الفعلية التي للجماعة.
إذن المرحلة الثالثة بدأت مع الدولة الاموية وفيها انقسمت السلطة الروحية لعلماء القرآن والسنة إلى من يقبل تبعيتهم للسلطة الفعلية إلى من يرفضها ورمز ذلك تحقق في معركة فكرية ودينية خالصة في عهد المأمون لما اراد أن لا يكتفي بتبعية بعض العلماء بل وكذلك بتبعية العلم والعقيدة للدولة.
فأدى ذلك في الغاية إلى نهاية عامل الشرعية وأصبحت الدولة مكتفية بالشوكة لما أصبحت الحامية هي التي تعين الخليفة فجمعت بين السلطتين الفعلية والرمزية فصارت الشرعية تابعة للشوكة في نظام الحكم. ولما اكتشف أصحاب الشوكة ضرورة الشرعية لإسكات الجماهير أعادوا للخلافة السلطة الرمزية.
المراحل إذن خمس:
وحدة السلطتين الرمزية والفعلية في عهد الرسول.
التمييز بينهما الفعلية للخليفة الراشد فرض كفاية والرمزية للامة فرض عين لأن تمثيل المرجعية ما يزال فرض عين (لا وجود بعد لعلماء).
بعد الفتنة توحدت السلطتان مع تقدم الفعلية على الرمزية التي صارت كفاية يمثلها العلماء.
بعد المأمون:
فشل الجمع بين السلطتين الرمزية والفعلية بسبب صمود أحمد في المحنة ومن ثم صار الحكم بيد الشوكة دون شرعية إذ بات الحكم بيد الحامية.
فهم الحاميات انها بحاجة إلى شرعية فأعادت السلطة الرمزية للخليفة الذي يضفي الشرعية على السلاطين دون أن يكون له سلطان فعلي.
وقد فصلت ذلك في غير موضع فلا فائدة من الإطالة. المهم أن للدولة دائما رأسين أحدهما يمثل السلطة الرمزية وشرعية نيابة الشرعية المرجعية بعد وفاة الرسول الثاني يمثل الشوكة المرجعية بعد وفاته لأنه كان جامعا بين السلطتين الشرعية والشوكية أو شرعية الدولة وقوتها. والتلازم من الثوابت.
وهو من ثوابت الدولة دينية كانت أو علمانية. فلا بد من تمثيل الشرعية وقد أصبح يسمى سلطة تشريعية وهي رمز إرادة الجماعة المشرعة ولا بد من تمثيل الشوكة وقد أصبح يسمى سلطة تنفيذية هو رمز الجماعة المنفذة لإرادتها. ثم اضافت الدولة وظيفة رمز ها الموحد وهو رئيس الدولة.
ولهذا الرمز صنفان لكل منهما شكلان: صنف رمزي خالص وله شكلان ذو صفة دينية (انجلترا) وذو صفة مدنية (ألمانيا). وصنف جامع بين الرمزي والفعلي وله شكلان مدنيان مثاله الولايات المتحدة والجمهورية الخامسة الفرنسية أي قسمة الوظيفتين التشريعية والتنفيذية بين رئيس الدولة ورئيس الحكومة.
وبذلك يتبين أن الفروق في التطور اسمية وليس حقيقية. كل الدول لها نفس الوظائف التشريعية والتنفيذية والقضائية والمرجعية ودور القوى السياسية الممثلة للجماعة. والسلطات بذلك خمس وليست ثلاثا: الثلاث التقليدية مع ممثل المرجعية أو العلماء والحكماء وممثل الجماعة الأحزاب والقوى الاجتماعية
والحقيقة هي أن الثلاثة المعهودة فيها غش مضاعف: فالأولى ليست التشريعية بل التنفيذية لأنها هي التي تشرع لتنفيذ سياستها والقضائية ليست سلطة سياسية إلا بالوكالة فهي ليست مشرعة ولا منفذة بل هي وظيفة تقنية لتطبيق تشريع ليست واضعته ولا منفذته. وسلطة العلم والحكمة والخبرة سياسية بنحو ما.
ذلك أن السلطتين الأوليين والقضاء كلها تكون عمياء من دون دور هذه السلطة العلمية والحكمية وخبرتهما وما هو ضروري للضروري أكثر ضرورة منه. لكن الحكم والمعارضة هما معادلة بين القوى السياسية التي تأهلت للحكم والتي تسعى للتأهل له ومن ثم فلا معارضة بدون حكومة ظل تستعد لتصبح حكومة شمس.
وإذن فكل دولة لها جهاز حكم مؤلف من تشريع وتنفيذ وجهاز مرجعي للحكم أحدهما يمثل عقلها والثاني يمثل إرادتها وبينما حكم يستمد قوته من ممثلي الإرادة أي قوى الجماعة السياسية التي تحتاج لحكم بينها (القضاء) ومن ممثلي عقل الجماعة الفكرية التي هو منها بنحو ما شرطا للتعايش السلمي.
وبهذا المعنى فالقضاء ليس له سلطان سياسي لكن سلطانه في جماعة الاحرار أسمى من السلطة السياسية لأنه الضامن للعيش المشترك نقلا للمنازعات الحقوقية من عنف تحصيلها الذاتي إلى لطف تحصيلها بتوسط حكم نزيه غير منحاز. ضمانة هذا الشرط ليست بيد التشريعية والتنفيذية بل بيد العلماء والشعب.