لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالدولة
شرط الكلام في تكوينية الدولة علاج مسألة فلسفية تبدو ميتافيزيقية: كيف للواحد أن يصير؟ هذا هو المشكل الذي لم تتمكن الفلسفة من حسمه بالانطلاق من رؤية جعلتها دائما مضطرة للدور او للتسلسل. فهي بالطابع المحسوم في الموجود الذي يعلم (الذات) وأسقطته على الموجود الذي يعلم (الموضوع).
وهذا هو شرط القول بنظرية المعرفة بالمطابقة ردا للوجود إلى المعرفة. وهذا الرد هو القول بأن الوجود والعقل شيء واحد وعلينا أن نفسر كل شيء بهذه العلاقة البسيطة بين الذات والموضوع حتى قبل أن تصبح اشكالية العلاقة بينهما أو حتى التمييز بينهما إشكالية جوهرية في الفلسفة بعد وعيها بها.
وهو ما يعني أن الفلسفة كلها مما صار يعتبر بداية لها إلى الآن ليست إلا قراءة مبسطة رغم ما يبدو عليها من تعقيد لما استطاع الإنسان تحقيقه بهذه المصادرة على المطلوب: طلب معرفة الوجود بما تسلمته في معرفة المعرفة وهي إذن تأنيس للوجود كله أو قيسا لعالم الغيب على ما أدركته من الشهادة.
وهذا التبسيط لم يتجل في الفلسفة نفسها إلا لما حاول هيجل استخراج ما كان يعمل فيه ويؤسسه لما تصور نفسه قد وجد ما كان مضمرا في حل إشكالية الصيرورة في الوجود بجعلها حصيلة اجتماع الوجود والعدم. ولم يدر أنه حافظ على نفس البساطة التي انطلق منها الصوغ النهائي للبداية أو للتبسيط الارسطي.
صراع الفلسفة اليونانية في القرنين المتقدمين على أفلاطون وأرسطو انطلق من التبسيط الذي يستند إليه كل قول بوحدة الوجود من خلال تصور الإلهي كامنا في الطبيعي واعتبار هذا متعينا في الوجود كله وفي نسخته المصغرة أي الإنسان: نظرية العالمين الكبير والصغير.
والمعرفة هي المطابقة بينهما أو رد الكبير إلى الصغير ليس من حيث الحجم بل من حيث الطبيعة والمقومات والفاعلية: قيس الوجود على المعرفة سرها قيس العالم الكبير على العالم الصغير والعكس بالعكس وهو معنى المطابقة. إذا كان “أ” يرد إلى “ب” و”ب” ترد إلى “أ” فمعنى ذلك أن بينة الوجود مثلثه.
رد المتعدد إلى الزوجية واعتبار ما بينهما من علاقة كامنا في الزوجين ليتم بينهما اللقاء. والزوجية موجودة في كل موجود وهي علة اللقاء وعلة الصيرورة التي تطرأ فيهما كليهما وفي علاقتهما. ومن هنا مبدأ التثليث ومنطق الجدل منذ أرسطو وليس منذ هيجل كما يتوهم الكثير وهذا باعتراف هيجل نفسه.
هيجل نفسه اعترف بأن القائل بالجدل أرسطو رغم أن منطقه لا يبدو جدليا. ودليله أن علمه الطبيعي وميتافيزيقاه تستند إلى منطق التثليث الجدلي وليس منطق الثنائية كما يبدو من منطقه. وأضيف بأن منطقه نفسه جدلي لأن النتيجة في كل قياس هي حد ثالث من لقاء حدين أولين في المقدمتين الصغرى والكبرى.
وبذلك يمكن القول إن الفلسفة القديمة والوسيطة أرسطية صوغا مبسطا للأفلاطونية والفلسفة الحديثة وما بعد الحديثة هيجلية صوغا مبسطا للكنطية وأن ما بينهما الناقل الواصل بين الصوغين المبسطين لما حاولت كل هذه الفلسفات الأربع تبسطيه واعتباره خارج مجال الفلسفة.
والقطيعة بدأت في الفلسفة النقدية وتحددت بصوغ نهائي في فلسفة ديكارت: فهو أول فيلسوف أثبت أنه لا يمكن بناء أي فلسفة من دون العلاقة بين القطبين المجهولين: الإنسان سائلا والله مسؤولا عن العلاقة بين عالم الغيب وعالم الشهادة التي هي غليان كيانه: إنها عين روحه أو طابع الخالق في المخلوق.
ومنذئذ تم الوعي بأن ما ندركه من الوجود ليس جوهره وأنه أداة للسلطان على العالم: ما ندركه منه هدفه جعل الإنسان سيدا للعالم (الطبيعة) ومالكا له Maître et possesseur de la nature. وهي إذن علاقة بين العالم والإنسان هدفها المعرفة الأداتية للسلطان على العالم وحيازته.
لا أنوي الإطالة في مسألة الفلسفة المضاعفة المتعلقة بإسقاط ما تسلمته في نظرية المعرفة على نظرية الوجود بصورة جعلت الأبستمولوجيا أساسا للأنطولوجيا.
ما يعنيني هو أني أرفض التبسيط الفلسفي الساذج للدين وأعتبر الفلسفة دائما دون الدين فهما لهذا الإسقاط وما يترتب عليه في النظر والعمل.
فالدين لا يعارض الفلسفة وليس ضديدا لها بل هو يعارض هذا التبسيط الساذج الذي يرد الوجود إلى العقل والذي بدأت به الفلسفة اليونانية عندما صار الفلاسفة يعتبرون ما يتجاوز العقل مجرد غليان الخيال وعبارته هي من جنس شطحات المجانين كما يعبر عن ذلك أفلاطون بوضح.
وكل فلاسفتنا الذين واصلوا هذا النهج بلا استثناء كانوا يعتبرون الوحي من هذا الجنس حتى وإن أضافوا بأنه ضروري للعمل لعلتين: الأولى هي مخاطبة العامة والثانية هي التعبير الخيالي عما لا ينضبط في العمل وهو إذن ملكة خيالية عند الرسل ضرورية للعمل ومخاطبة العامة.
وكل من يتبنى هذه النظرة يتصور أن الفلسفة أكثر تعقيدا من الدين وأن الدين للعامة وأن الخاصة أو الراسخين في العلم قادرون على تجاوز ما في العالم من غيب ناتج عن الخيال العامي وأن الحقيقة هي تبسيطهم للوجود أو التخلي عما ليس جوهريا منه: “المجهول” المردود عندهم إلى المعلوم.
وهو ما اعتبره شرط التخلي عن التبسيط الفلسفي واسقاط ما نتوهمه علما بالعقل علما بالوجود وهو ما جعل كنط يحد من ذلك بنفس المنطق القديم إذ هو يعتبر ما نعلمه ظاهرا من الوجود وليس علما مدركا لحدوده دون أن يكون ما يعلمه مجرد ظاهر من الوجود. فعالم الشهادة ليس ظاهرا بل وجود مناسب للإنسان.
ذلك أن موقف كنط يقابله موقف هيجل: ما اعتبره كنط ظاهرة وراءه حقيقة غير معلومة Das Ding in sch صار عند هيجل وهم والحقيقة هي ما يدركه الإنسان بشرط فهم المنطق الجدلي الذي ينتهي في الأخير إلى بيان أن الموضوع والذات شيء واحد عندما يدرك الإنسان جوهره الإلهي.
وحينها حسب هيجل يدرك الإنسان أن ما وراء ذلك وهم وأنه لا يوجد إلّا العالم الطبيعي والتاريخي والإنسان المتجاوز للطبيعي في التاريخي وهذا هو جوهر الوجود الصائر من اللاحقيقة إلى الحقيقة التي هي عين صيرورة تحققها: ترجمة فلسفة الدين بفلسفة التاريخ وبينهما المنطق الذي هو ميتافيزيقا هيجل.
فتكون الفلسفة الحديثة وما بعدها مجرد محاولة للاستغناء عن قطبي المعادلة الوجودية الله والإنسان والاكتفاء بالوسيطين الطبيعة والتاريخ واعتبار حقيقة الإلهي والإنساني هي مسار تحققه ليصبح ذاتا مدركة لفاعليتها النظرية والعملية وذلك هو تاريخه الروحي والزماني ولا شيء غير ذلك.
والفلسفة القديمة والوسيطة رغم كثرة كلامها على القطبين فهي في الحقيقة ترد الإلهي إلى الإنساني بمجرد القول بالمطابقة واعتبار الإنسان يمكن أن يحيط بالوجود علما فيدرك الموجودات على ما هي عليه وإن بتدريج. وإذن فالفلسفة تلغي ألغاز الوجود ولا تبقي إلا على تبسيط أساسه الرد والإسقاط.
والآن صرنا قادرين على فهم فلسفة التاريخ القرآنية التي هي عين تكوينية الحضارة الإنسانية والتي لا يمكن أن تفهم من دون إعادة ما ألغته الفلسفة من هذه الألغاز في ضوء المعادلة الوجودية بعناصرها الخمسة: الله والإنسان قطبين وبينهما التواصل المباشر بالرسالة وغيره بتوسط الطبيعة والتاريخ.
وما سنتكلم عليه في الفصل الموالي هو تكوينية الترجمة السياسية لفلسفة التاريخ القرآنية بدون ردها إلى ما نعلمه منها بل باعتبارها فلسفة التاريخ الشاهد على خلفية الغيب الذي به يفضل الدين على الفلسفة رغم أنها في الحقيقة تتأسس عليه حتى وإن بسذاجة نكرانه واعتباره من اساطير الاولين.
والنكران الفلسفي لما يتجاوز العلم من جنس السكن في غرفة مغلقة توهما بأن ذلك يمكن أن يجعل الفضاء الذي حصره الكون حقيقة وما يحيط بذلك الفضاء المحصور لنفع معين هو من آثار خيال الإنسان ووهمه. ونفس ما تحققه الفلسفة بهذا التبسيط إذا ترجم سياسيا كان نظرية الدولة ذات الحدود العازلة.
الرسالة الخاتمة هي التي تتجاوز هذه الرؤية معتبرة هذا الموقف الذريعي الخالص تبسيط فلسفي للموقف الأسمى الذي يعتبر الوجود أوسع من الإدراك وعكسه علته التباس مفهوم العقل: فهو ليس مبدأ الوجود ولا حتى القدرة على فهمه بل هو شمعة خافتة أو كوة مفتوحة على وجود لا يحيط به إلا ربه.
وما يثبت صحة هذه الرؤية لا يحتاج إلى علم الغيب الممتنع بل هو بين من أمرين كانا خفيين وأمرين معلومين والأخر الأخير هو أصل الأربعة: فالأمران الخفيان الذين أصبحا مكشوفين هما الظاهرات المناخية وانتقال الأمراض في المعمورة والأمران المعلومان هما أساس التاريخ الدولي: التراث والثروة.
أما الأصل فهو وحدة الأحياز المناسبة لحياة البشر: أي الجغرافيا والتاريخ العالميين ومصادر الرزق (الثروة) لسد حاجات الحي ومصادر التراث للوصل بين الإنسان والإنسان وبينهما وبين مصادر الرزق. ولا معنى لتكوينية الدولة من دون هذه العوامل إذا لم تكن المرجعية الموحدة لها كونية هي بدورها.