لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالدولة
لابد إذن من البدء بالألغاز التي تغض الفلسفة عنها الطرف لتطلق دور العقل واستعمال منتجاته الأدواتية للسيطرة على العلاقتين العمودية (بين الإنسان والطبيعة) والأفقية (بين الإنسان والتاريخ) والتفاعل بين البينين أو دور علاقة الإنسان بالطبيعة وعلاقة الإنسان بالإنسان في تحقيق السيطرة والسيادة.
وكل هذه المقومات لوجود الإنسان في عالم الشهادة الغاز ولا حاجة للكلام على ما بعدها أو ما يعلل كونها كذلك. عالم الشهادة كله ألغاز: تتجلى في كيان الإنسان المادي والروحي لأنها كلها تبدأ غريزية دون خطط مسبقة أو فكر ثم تنتهي إلى أن تصبح ذات استراتيجيات تحققها بالمعرفة والعمل بها.
وسبق فبينت أن هذه المعرفة ليس علمية فحسب بل هي فنية كذلك وهذه مقدمة على تلك بخلاف ما فرضته كبرياء العلماء من توهم ما يتجاوز دورهم عائدا إليهم: فلولا الذوق والتعبير الرمزي عن غاياته لما احتاج الإنسان إلى أدواته. والتعبير الرمزي شعور غامض يتلقاه من حوادسه تتصور في حواسه.
وتصور الحوادس في الحواس تدرك مثل الغايات بمستويي الذوق المباشر (الغذاء والجنس) وغير المباشر معانيها لأن لها دلالات هي التي تكون موضوع الإبداعات النظرية بنوعيها العلمي (الرياضيات وتطبيقاتها المادية) والعملي (السياسيات وتطبيقاتها الخلقية) ومعان هي موضوع الإبداعات الفنية (الجمال والجلال).
والمعاني أسمى من الدلالات مثل سمو التداولية العامة وصلتها بما وراء الطبيعة والتاريخ أو بألغاز الوجود على التداولية الخاصة التي هي حبيسة الاختصاصات الخادمة للطبيعة للسلطان على الطبيعة والتاريخ أداتيا لسد حاجات القيام الفاني عندما ينقلب إلى الغاية الأسمى.
صحيح أن الكلام على الغاز الوجود بالاسميين المعاني (وجوهرها الفنون الجميلة والجليلة ويقرب منها التقنيات العملية والخلقية) والتداولية العامة التي تتعلق بما وراء ذلك كله دون أن تكون علما بل هي محاولة للتعبير عما لا يقال أو يكاد ليس من مباحث التواصل الاجتماعي.
فهذا نكوص إلى الثقافة الشفوية مع بعض بقايا من الثقافة الكتابية. لذلك فهو إلى وجازة الشفوي أقرب منه إلى استطراد الكتابي. والعلة أن المتعجل غني عن المقدمات ومبدؤه “جيبها من الاخر” أي أعطنا الفائدة وخلصنا من التعليل والتحليل والتطويل الدال على العجز التبليغي. والشفوي يفيد حضوريا.
فهو من جنس البث المباشر في الفضائيات موضوع القول حاضر مباشرة والقول فيه مستغن عن بيان المضمر فيه لو كان الموضوع غائبا. لكن موضوع الفكر غائب دائما ولا يحضر منه الا القول فيه. لذلك فالثقافة الكتابية لها وظيفة القول في الموضوع وفيما يعوض غيابه ومن ثم فهو غير مباشر دائما.
والفكر المباشر شفوي ولا يمكن أن يكون علميا. وحتى في القول المباشر بين المختصين وهو التداول الجزئي فإن موضوع الكلام فيه حاضر في أذهان المختصين بحدود ما علموا منه. لذلك فأكثر الناس معارضة للإبداع أي تجاوز ما حفظه المختصون هم المختصون أنفسهم: لأنهم لا يفهمون الإبداع بل الاتباع.
وما يبدو علما بالرواية هو في الحقيقة اتباع ولا شيء فيه من الإبداع. أما مبدعو المقدرات الذهنية في النظر وفي العمل فهم أبعد الناس عن التقيد بالرواية بل ما يهمهم هو الدراية. والدراية هي بالأساس تجاوز للرواية برؤية ما لا يراه الحفظة ممن لهم ذاكرة نفسية قصير النظر لأنها عديمة البصيرة.
والبصيرة تتجاوز البصر تجاوز الحوادس للحواس. والحوادس بصيرة تدرك ما يجعل الشاهد يشهد. والحواس لا ترى من الشاهد إلا ما يعمي البصيرة: وذلك هو ما يسمونه واقعا وما عداه يعتبرونه وهما وخيالا. الرياضيات العالية للنظر والسياسات العالية للعمل أمور وهمية وخيالية عند فاقدي البصيرة.
والأنبياء خاصة وكبار الفلسفة -وهم يعدون على الاصابع- لهم بصيرة متعالية لأنهم جمعوا بين الفنين الجمالي والجلالي وبين مثل العلمين الرياضي للنظر والسياسي للعمل. ولا أحد منهم يؤمن بواقع ينحصر في الطبيعة والتاريخ بل كلهم يتعالون عليهما إلى تواصل بينهم وبين ما ورائهما.
ونحن في هذا العمل نعتبر قدوتنا الأنبياء وكبار الفلاسفة ولا أحد غيرهما يعتد به عندنا. وكلاهما يؤمن بوجود عالمين عالم الشهادة وعالم الغيب. وكلاهما لا يدعي علما بالغيب رغم أن له قدرة على رفض الانحباس في عالم الشاهدة بحوادس تتجاوز الحواس مع اعترافهما بأن الوجداني مما لا يقال.
فما صرح به أفلاطون في الرسالة السابعة وما صرح به ابن خلدون في شفاء السائل يتعلق بهذه الخاصية: ما لا يقال من الوجدان أساس ما يقال من الفرقان. والفرقان فرقان للوجدان عند الإنسان وهما متفاضلان الثاني فاضل عن الاول. والإنسان يفترض أن الفرقان المطلق ذو شفيف مطلق.
وهذا هو سر كل ألغاز الدين والتاريخ: فمهما حاولنا فهم التاريخ فإن اللامحدد فيه يبقى دائما فاضلا عن المحدد ودليل ذلك أن كل تخطيط للمستقبل في ضوء ما نعلم إلى حد الآن يبقى اللامتوقع فيه أوسع بكثير من المتوقع لأن المنطق الذي نستنتجه به مفضول دائما عن منطقه الذي لا يعلمه إلا الله.
وهذا هو بالضبط معنى أن المعرفة اجتهاد ومعنى أن الحكم على الاجتهاد أصاب أو أخطأ حكم على القصد منه الصدق فيه وليس على النتيجة. طبعا النتيجة مهمة. فالإصابة في الاجتهاد جزاؤها ضعف عدمها. لأن نصف الجزاء في هذه الحالة جزاء الأقدام عليه والنصف الثاني جزاء النجاح فيه.
بهذا الرؤية سأتكلم على مراحل تحقق دولة الإسلام في الأعيان وفي الأذهان وهما متقاربان إذا رددناهما إلى ما ندركه منهما لكنهما مختلفان تماما إذا اعتبرناهما اجتهادا نظريا وجهادا عمليا كلاهما نسبي إلى التكليف بالمستطاع لأن الإحاطة تكليف بغيره وكل ما هو مشروط بها لا يقيم عمل الإنسان به.
وإذن سنبدأ عرضنا بالمثال الأعلى لهذا التاريخ وأثره في الأذهان والتناظر بينه وبين تطبيقاته في الاعيان فيكون التاريخ تاريخا للأحاديث وللأحداث وهما بعدا الزمان والتاريخ بخلاف الزمان الطبيعي الذي هو أحداث ولا حديث لها لأنها غير ناطقة وعائدة على ذاتها وعيا بذاتها وقولا حولها.
التاريخ إذن كشيء له زمانية مضاعفة زمانية أحداثه وزمانية أحاديثه لأنه ليس زمانا طبيعيا بل هو زمان إنساني أو تاريخي أو حضاري. وهذه الثنائية هي التي بها نفسر ما يتجاوز القراء الجدلية للتاريخ الإنساني: فهو بالضرورة مخمس الابعاد وليس ثنائيها حتى يكون ذا منطق جدلي.
فلو وضعنا “ح1″رمزا للأحداث و”ح2” رمزا للأحاديث واعتبرنا الرمزين خانتين عامتين لهما قيم متغيرة في الزمان الطبيعي لاكتشفنا أن ذلك هو تغير ما مضى من التاريخ الإنسان إلى لحظة الإنسان الباحث في هذا التطور فيكون الباحث منطلقا من اللحظة الحاضرة بوصفها قيمة حاصلة من تطور قيم ح1 وح2.
لكن الباحث لا يبحث في الماضي انطلاقا من لحظته وهمومها بل وكذلك مما يستعد له أو يتوقعه من”ح 1-1″ ومن “ح2-2″المتعلقين بالمستقبل. وما يصدر عن الباحث التاريخي في كل لحظة من لحظات تطور الماضي ضميرها هو هموم لحظته الحاضرة ولحظات المستقبل المتوقع منطلقا لتأويل أحاديث الماضي حول أحداثه.
وهذه هي بنية فلسفة التاريخ القرآنية التي للتاريخ نفسه وللبحث فيه. وهو تطابق ممكن لأن الباحث فيه أو القاص له هو صاحب العلم المحيط عند من يؤمن بأن القرآن رسالة سماوية مرسلهما هو الله نفسه أو صاحب دعوى العلم المحيط الذي يحيط بما يحدث في الزمان الطبيعي والتاريخي.
وسواء آمنا أو افترضنا فالنتيجة واحدة لأن الأمر لا يتلق بالموقف القضوي عند من ينسب إليه القرآن سواء كان الله أو النبي أو حتى جامعي القرآن كما يدعي كاريكاتور الحداثة بل بمضمون القضايا الواردة فيه حول فلسفة التاريخ القرآنية: موضوعنا القرآن في الأذهان فلسفة وفي الأعيان تاريخ امة.
فماذا لدينا: الأمة الإسلامية ودولتها ثمرة مشروع ورد في القرآن. ولدينا تاريخ لتكوينية هذه بدايتها في الأذهان وفي الأعيان ولنا عنها وثائق تقص علينا ما في الأذهان وما في الأعيان من خلال ما في الأذهان وما في أعيان الآثار المادية في دار الإسلام وفي علاقاتها بالدور المحيطة قبلها وبعدها.
تبين الآن الأمر الذي نريد فهم تاريخ أحاديثه وأحداثه دون أن ندعي أننا خارج لحظتنا التاريخية وهمومها الحاضرة والماضية والمقبلة. ولا ندعي المطابقة بين هذا الموضوع “التاريخ” وإدراكنا له “التأريخ” للتاريخ. إذن ذات تاريخية وموضوع تاريخي لكأني أنا الذات وتاريخ الامة الموضوع.
فهل يمكن أن ادعي أن العلاقة هي بين أمرين في علاقة جدلية دون أن يكون ذلك من سخافات التبسيط المخل إلى أقصى الحدود؟ وإذا كان ذلك تبسيطا مخلا في أمر جزئي من الوجود (تاريخ أمة) فكيف بالوجود كله إذا قرأناه بمنطق الجدل الهيجلي او الماركسي فضلا عن قراءته بالمنطق القديم؟