الدولة: كيانها الآلي والعضوي

**** الدولة كيانها الآلي والعضوي

كل ما لا يقبل التمثيل بشكل هندسي من الصيغ القانونية التي تحدد بنى الظاهرات الطبيعية والإنسانية سواء كان الشكل ساكنا أو متحركا ليس بعد مفهوما بحق ولا يمكن اعتباره اساسا لنظرية تعرض بالتناظر بين ما تفترضه فيها وما تمثله تعبيرا به عنها اساسا لما تستنجه منه وتحاكم علميته بما تمكن من تعليله من تـجلياتها. ومنذ أن وضعت هذا الشرط صرت لا أتكلم في ما لا أستطيع تحقيقه فيه. وقد سبق فعرضت نظرية الدولة بهذه الصورة وأود اليوم أن أشرح مفهوم الدولة من حيث هي بنية مجرد غيرمتعينة في جماعة بعينها وقبل أن يشغل خانات البنية المجرد بشر يجعلونها بنية متعينة فيها لتكون في آن جهازا آليا وكأئنا حيا. ويمكن أن اشرح مفهوم الجهاز الآلي بكونه منظومة المؤسسات التي لا تخلو منها دولة سواء كانت بدائية أو متطورة استبدادية أو ديموقراطية دينية أو علمانية. ومعنى ذلك أن الجهاز الآلي للدولة محايد وهو من جنس البنية العضوي للكائن الحي إذا اكتفينا بالكلام عليه بالتشريحAnatomie دون وظائف الأعضاء Physiologie. وعندما نضيف وظائف الأعضاء تصبح الدولة شبيهة بالكائن الحي لأن أعضاءها الآلية تتحول إلى أعضاء تعمل بمن يشغلها وليس بذاتها وهو ما يحقق الفرق بين المؤسسة بحد ذاتها وكيفية التصرف فيها مطابقة لقوانينها وشروطها أو تحريفا لها وغالب الأمراض السياسية والاجتماعية تأتي منه. ويعتبر هذا الفرق المحرف للوظائف معيار لقيس عاملي التكوين الإنساني للشاغلي للخانات التي تمثلها المؤسسات الآلية في الجهاز الذي سأعرضه بوصفه تشريح البنية وبيان أعضائها في حين أن الشاغلين هم الذين يحققون ما يصبح وظائف الاعضاء بالفعل بعد أن كانت بالقوة فيها وفي تعريفها القانوني. وهذا التكوين مضاعف: فهو يتحدد بالكفاءة المهنية وبالجدارة الخلقية عند النظر إلى الشاغلين وبالمراقبة السياسية من الهيئة الحاكمة والمعارضة والمراقبة المدنية من الجماعة نفسها التي يكون دورها هذا المحفز الحقيقي لدور الهيئة السياسية الحاكمة والمعارضة في منع التحريف بالقانون ووزعه. الآن فليشغل القاريء معي خياله ليتابع بناء الشكل الهندسي المعبرعن البنية المجردة للدولة بوصفها جهازا آليا مؤلفا من خمس خانات خالية من شاغليها المكلفين بالقيام عليها أربع منها هي قاعدة هرم قمته هي الخامسة وهي التي تصدر عن اثنين ويصدر عنها اثنيان بوصفها مفتاح شبه معجم الاستعمال وشرائعه أو نواميسه. نبدأ بقمة الهرم ذي القاعدة المربعة: إنه الدستور أو ما يقوم مقامه كالعرف أو جملة العادات والتقاليد التي بها ينتظم عمل الجمعة ومن يمثل إرادتها في إدارة شأنها أو ما يسميه ابن خلدون برعاية المصالح العامة بالاجتهاد الإنساني.ولنسم ذلك”دستور”لأن المعنى فيها جميعا واحد: نظام عمل الدولة. هذا الدستور يعبر عن قوى سياسية هي حتما متعددة لأنه لا يوجد شخصان من البشر لهما في ذهنيهما نفس التصور للأمور مهما كانا قريبين أحدهما من الآخر فما بين الذوات هو دائما شبه نظام من الحلول الوسطي يتعالى على ما لدي كل ذات إذا نظر إليها بمفردها. وهذا طبعا متناسب مع اتساع الجماعة. لكن التعدد مهما كثر لا ينفي أن مجرد وجود الجماعة كجماعة يجعلها بوعي أو بغير وعي تتقاسم تراث مشترك فيه كل المعالم التي جعلت الجماعة تكون تلك الجماعة -مثل اللغة والتاريخ والقيم والمعتقدات الكبرى والمصالح العليا التي تحقق شروط الحماية والرعاية. ولنسم ذلك المرجعية الحضارية وخاصة الرؤى سواء كانت ذات عبارة الدينية أو عبارة الفلسفية. والرؤى تكون دائما جامعة بين العبارتين في شبه تمانع يجعل الفلسفة تنتهي إلى دين فلسفي والدين ينتهي إلى فلسفة دينية فيكون تحديد القوى السياسية المتعددة متناسبا مع “فهوم” هذا التراث واستقاطه على المستقبل بالسلب والإيجاب أو فلنقل إنها متناسبة مع تأويلاتها وما يترتب عليها من رؤية للإرادة الجماعية التي تعتبر القوى السياسية تعبيراعنها بأبعاد التاريخ الخمسة في مستوى الأحداث والأحاديث المتعلقة بها. وما يبدو تمانعا ينتهي في الأخر إلى تمازج لأن الفلسفة الدينية التي تنهي إليها الفكر الفلسفي والدين الفلسفي الذي ينتهي الفكر الديني كلاهما جامع بين البعدين ما يجعل الديني مستحيل التصور من دون الفلسفي والفلسفي من دون الديني. وما تتمايزبه القوى السياسية التي تترشح للتعبير عن إرادة الجماعة هوالتأويلات المتعلقة بأحداث الماضي وأحاديثه وبأحاديث المستقبل وأحداثة وخاصة بمفعول الأولين في الحاضر وما يستنتج منها ليكون مفعول الأخيرين فالحديث في الحالة الآولى لاحق وفي الحالة الثانية سابق. وما بينهما يكون الموقف مـما يجري في الحاضر حدثا وحديثا متساوقين بلا ترتيب يخلاف الماضي حيث يتقدم الحدث على الحديث والمستقبل حيث ينعكس الأمر فيتقدم الحديث على الحدث. وطبعا فهذا الكلام لا يشمل الجماعات التي ليس لها سيادة والتي يحدد دستورها غيرها دون اعتبار لهذين العاملين السابقين على الدستور فضلا عن العاملين اللاحقين. والدستور هو قمة الهرم قبله ما يعتبر مصدرا له وهما المرجعية التراثية التي تنشأ عنها التأويلات أو اللاحمة الفكرية للقوى السياسية. وهذه التأويلات اللاحمة للقوى السياسية لا تكفي للانتقال إلى الدستور المعبر عن الحلول القانونية التي بها تنتظم حياة الجماعة أو الدستورإذا لم نأخذ بعين الاعتبار ما يأتي باعد الدستور ليعمل به لكنه قبل أن يصبح خاضعا للدستور يحدد ما سيكون عليه مع العاملين المتقدمين عليه. وهذه خاصية إنسانية: فما يحدد عمل الإنسان ليس ما تقدم عليه فيكون خاضعا لما يتميز به الزمان الطبيعي أي إن العلة سابقة للمعلول دائما بل هو هو يخضع لنوعين من التعليل: العلة السابقة (العنصران السابقان) والعلة اللاحقة (العنصران اللاحقان). ولحوق التحقق في ما حصل من الممكن لا ينفي السبق في توقع ما سيحصل منه. وتلك هي علة كون الفعل الإنساني بخلاف الفعل الطبيعي لا يكتفي بفاعلية الماضي الحاصل بل تتدخل فيه فاعلية المستقبل المتوقع. وذلك هو الفرق بين ما في تاريخ الإنسان من طبيعي ضروري ومن خلقي حر. فينتج العنصران الثانيان من قاعدة الهرم: 1-جهاز الحكم والمعرضة 2-وظائف حماية ورعاية. وكون جهاز الحكم في الحكم والمعارضة علته أن القوى السياسية متعددة ولا يمكن أن يكون الحكم راشدا إذا لم يكن عاملا مع معارضة راشدة هي بدورها تحقق التراجع بين التأويلات والتواصي بالحق وبالصبر ما يجعل التداول على الحكم أمرا بنيويا في الدولة كما الخلايا في البدن والاجيال في الحياة. أما وظائف الدولة فهي عشر بالاضافة إلى جهاز الحكم والمعارضة اللذين يشرفان على عمل الدولة لتحقيق وظائفها ومراعاة القوى السياسية والمرجعية وذاتها بما تم الاتفاق عليه في الدستور الذي هو قمة الهرم. وسأتكلم على الوظائف وهي عشرة. لكن فلنرسم الآن الهرم كاملا قاعدة وقمة. عندنا إذن قاعدة مربعة رؤس زواياها الاربعة هي: 1- المرجعية 2-القوى السياسية 3-الجهاز “الحاكم-المعارض” 4-وظائف الدولة العشرة 5- القمة التي هي الدستور أو ما يقوم مقامه وغالبا ما يكون العرف كما في المملكة المتحدة. وهو دستور غير مكتوب متعين في ممارسات تقليدية متفق عليها في الجماعة. والآن فلنفرض أن هذه البنية المجردة المؤلفة من خانات خالية هي الجهاز الذي يسمى نظام المؤسسات التي يتقوم بها كيان الدولة قبل أن تتعين في جماعة معينة فتكون دولة الشعب الفلاني أو الشعب الفلتاني بشرط أن تكون دولة بحق أي ذات سيادة فلا يكون دستورها من وضع المستعمر كجل الدول العربية. وهذا الجهاز المجرد الذي هو جهاز آلي يشبه الأعضاء التي يتألف منها الكيان الحي ويميز بينها التشريح قبل أن ينظر في وظائف الاعضاء ينبغي أن يصبح حيا بمن يشغله من القيمين عليه بالشروط التي ذكرنا سابقا وحينها تصبح الدولة كائنا حيا فعليا فيه ما في الكائن الحي من فاعلية وانفعالية. وكل ما ذكرنا لبناء الهرم ولملء خاناته بمن يشغله من القيمين عليه هو لتحقيق شرطي السيادة أعني الحماية والرعاية وهما بعدا الوظائف التي لاجلها اكتشف الإنسان الحاجة إلى هذا الجهاز الذي نسميه دولة والذي هو في آن عودة الجماعة على ذاتها لتكون شبه وعي وعقل جماعي يرعى ذاته ويحميها. وهذه الوظائف تنقسم إلى خمسة للحماية وخمسة للرعاية.فأما وظائف الحماية فهي: اثنتان للحماية الداخلية أي القضاء والأمن. واثنتان للحماية الخارجية أي الدبلوماسية والدفاع. والخامسة وظيفتها مثل وظيفة الجهاز العصبي للكائن الحي وهي الاستعلام والاعلام بخصوص تلك الوظائف لتكون عملا على علم. أما النوع الثاني فهو للرعاية وهو مقدم على النوع الاول لأن الحماية أداة والرعاية غاية. والرعاية هي بدورها خمسة: اثنتان للتكوين وهما التربية النظامية والتربية المجتمعية. واثنتان للتموين وهما الانتاج الاقتصادي لسد الحاجات المادية والانتاج الثقافي لسد الحاجات الروحية. ومثلما أن وظائف الحماية لها جهاز عصبي للاستعلام والأعلام فوظائف الرعاية لها جهاز عصبي أشمل وأهم لأن الاول فرع منه وهو البحث والإعلام العلميان اللذان يبدعان مادة التكوين والتمويل ومادة الحماية الداخلية والحماية الخارجية لأن الحماية بحاجة للإبداع العلمي على الأقل في التسلح.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي