لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالدولة
ركنها الرابع:مفهوم الهيئة الحاكمة
الكلام في المقوم الثالث للدولة ذاتا ممثلة للامة-الدستور- ممتنع من دون الكلام في المقومين المواليين له كما تكلمنا في المقومين السابقين عليه. إنه الجسر الواصل بين المرجعية والقوة السياسية اصلا رمزيا وفعليا لمضمونه وشكله والهيئة الحاكمة ووظائف الدولة فرعين بتوسطه صوغا للأصل ونظاما للفرع.
أمر للمقوم الرابع ثم الخامس لأعود إلى المقوم الثالث الذي هو الترجمة القانونية الناقلة من الاصلين (المرجعية والقوى السياسية) إلى الفرعين(الهيئة الحاكمة المطابقة للقوى السياسية وظائف الدولة المطابقة للمرجعية) حتى يكون تعين إرادة الجماعة هو سلوكها الفعلي كذات واحدة مضمونا وشكلا.
وابدأ بملاحظة تنافي السائد حول الهيئة الحاكمة: فهي ليست مؤلفة من ثلاث سلط هي التشريعية والتنفيذية والقضائية بل هي سلطة واحدة ذات فرعين:
أحدهما ينفذ هو الأصل.
والثاني يشرع لما بمقتضاه يتم التنفيذ.
فالهيئة الحاكمة هي القوة السياسية التي بيدها العقد والحل بمقتضى الشرعية أو التغلب
أما القضاء فهو ليس سلطة سياسية بل هو ينتسب إلى وظائف الدولة التي تشرف عليها السلطة السياسية كما حددناها. فهي تعتمد ما تشرعه السلطة السياسية أساسا لأحكامها التي لا مفعول لها إلّا بما للسلطة السياسية من إرادة وقدرة لتنفيذ أحكامها. وهي إذن سطلة شبه معرفية تنزل القانون على النزاعات.
والهيئة الحاكمة لها نظير معارض من المفروض أن يكون ذا هيئة حكمة في الظل أعني أن المعارضة الجدية سلمية كانت او حربية متربصة بالحكم ومستعدة له كهيئة حكم بالقوة. فالدولة من حيث البنية الآلية واحدة مهما تغيرت أساليب فعلها وتغير هذه الاساليب مرتبط بمن يملأ خاناتها من القيمين عليها.
والتغير لا يقتصر على تبدل القيمين عليها بل يشمل رؤية القوة السياسية التي يمثلونها وهي قراءة ما للمرجعية المشتركة إذا لم تكن القوة القيمة الجديدة من خارج تراث الامة أو ممن يعادونه من الداخل كما حدث في استحواذ الدولة الفاطمية على ممالك الدولة العباسية في المغرب ثم في المشرق.
والقوة السياسية التي تشترك في المرجعية والتي تخرج منها الهيئة الحاكمة والمعارضة تخضع لما بيناه بعبارة التعين المكاني في مجلس الهيئة الحاكمة لا تتجاوز خمسة فهوم للمرجعية: يمين ويسار ويسار اليمين ويمين اليسار ووسط انتهازي. والعلة هي نسب الاقتصادي والاجتماعي في انتاج الثروة وتوزيعها.
وبهذا المعنى فالأصناف الخمسة لا علاقة لها بأماكن النواب في المجلس بل هي متعلقة بمواقف القوى السياسية من علاقة السياسي بدور الفاعلية الاقتصادية والفاعلية الاجتماعية شرطين للشرعية المغنية عن اللجوء للشوكة في الحكم: نسبة بين فاعلية الإنتاج وفاعلية التوزيع في قيام الجماعات.
وهذه النسبة ليست مقصورة على القدرة المادية أو الاقتصاد رغم تقدمها في مستوى العلاقة المباشرة بشروط الحياة بل هي تشمل ابعاد الفعل أو خصائصه المتعلقة بالإرادة والعلم والقدرة والحياة ورؤى الوجود. ذلك أن الإنتاج المادي ذو فرعين وهو مشروط بفرعي الانتاج الرمزي وأربعتها شارطة للإرادة.
فالقدرة المادية مضاعفة: لأنها نسبية إلى العرض وإلى الطلب. فالإنتاج يوفر العرض لكن الطلب يدفع إلى الانتاج للزيادة في العرض. ومن ثم فالاجتماعي في الاقتصادي ليس برانيا بل هو منه: كلما كان التوزيع أوسع كان الانتاج أوفر. وإذن فالاقتصادي ليس ماديا خالصا بل الاجتماعي من مقوماته الذاتية.
وفكرا الانتاج الرمزي الشارطان للإنتاج المادي هما الإنتاج العلمي وتطبيقاته والإنتاج الفني الجمالي وتطبيقاته. ذلك أن الأول هو أداة كل أنتاج اقتصادي والثاني وهو غاية كل إنتاج اقتصادي. فلا يمكن إنتاج ثروة بعمل على جهل ولا يمكن إنتاج ثروة متجاوزة للعضوي ليست من شروط جمال الحياة.
وهذه العناصر الأربعة (اثنان رمزيان هما العلم والفن واثنان ماديان هما الاقتصادي والاجتماعي) هي مدار السياسي أو التنافس بين القوى السياسية التي تخرج منها الهيئات الحاكمة والمعارضة بوصفها قيمة على الحكم بالفعل أو بالقوة تعبيرا عن إرادة الجماعة التي توحدها رؤية وجودية.
فتكون الهيئة السياسية جامعة بين النخب الخمس: نخبة إرادة ذات رؤية غايتها تحقيق شروط القدرة على علاج العلاقتين العمودية بالطبيعة والأفقية بالتاريخ أعني العلم أداة والجمال غاية من أجل هذه القدرة الاقتصادية والاجتماعية التي تطلبها الجماعة لتكون ذاتا سيدة تحمي نفسها وترعاها في العالم.
ولسوء الحظ فهذا هو المفقود في بلاد العرب: فلا وجود لإرادة ممثلة لإرادة الامة بمقتضى رؤيتها ومن ثم فهي لا تعتمد على علم أداة وذوق غاية لتكون لها القدرة على شرطي السيادة حماية ورعاية. فكل الأنظمة العربية محميات أو مرعيات للغير: الأغنياء محميات والفقراء مرعيات وأغلبها كلاهما.
وإذن فطبيعي أن تكون وظائف الدولة العشر مغشوشة لأنها ليست في خدمة الأمة بل هي في خدمة من يخدم الحامي والراعي الذي نصب الهيئة الحاكمة والمعارضة من خارج قوة الامة السياسية المعبرة عن إرادتها بالاستناد إلى علمها أداة وذوقها غاية لتكون قادرة على حماية ذاتها ورعايتها شرطي السيادة.
فمثل الإرادة بلا رؤية مستقلة وهو إذن تابع لحاميه وراعيه وممثل العلم أداة تابع لهذا لتابع ومثله ممثل الذوق فتكون القدرة منعدمة لأنها تقتصر على محاكاة الحامي فتكون تبعيتها بنيوية وليست ظرفية بمعنى أنها لا تستطيع الخروج عن التبعية بتحقيق الندية لان همها نفي ذاتها لتصبح مثل سيدها.
وذلك هو ما وصفه ابن خلدون بمفهوم ولع المغلوب بتقليد الغالب وهو ما يعني نفي العبد لذاته وإثبات لذات سيده. هذه حال النخب التي تدعي التحديث. ونفي تحديات الحاضر بالهروب إلى ذكريات الماضي ليس فعلا بل هو رد فعل لا يختلف عن سلوك المغلوب لأن التصدي بما فقد فاعليته استسلام وليس مقاومة.
وبلغة أوضح: فمقاومة من جنس مقاومة طالبان وداعش وبوكو حرام تحقق للأعداء أكثر مما يتمنون ومما لا يستطيعون تحقيقه. فإذا كانت المقاومة مشروطة بالنكوص إلى الجاهلية وإلى البداوة وتشويه فروسية الإسلام في الحرب والسلم فهي أكثر مما يتمنى العدو: أن يعيد الامة إلى جاهليتها قبل الإسلام.
ما زلت حائرا في فهم منطق الجهاديين: هل الجهاد ممكن من دون الاجتهاد؟
وهل يمكن في عصر كل شيء فيه مبني على العلوم أدوات والفنون غايات أن نجاهد بصورة تستغني عن أدوات القوة وغاياتها التي تحقق القدرة المناسبة للإرادة؟
هل نريد إسلاما يسود بشروط العصر أم ينكص إلى ما يجعله دون شروطه؟
وهذه الطريق هي الأسرع على الإطلاق: فليس صحيحا أن قوة اسرائيل عسكرية. وليس صحيحا أنها تسيطر على نخب الغرب بالدهاء فحسب بل هي تستمد قوتها من سلطانها على الانتاجين العلمي وتطبيقاته والفني وتطبيقاته (كل مبدعات الخيال تحت سلطان أهل المال اليهود). وغياب ذلك عند العرب هو سر ضعفهم.
فالسلطان على الإنتاجين الرمزين العلم وتطبيقاته أداة والفن وتطبيقاته غاية مع السلطان على الانتاجين الماديين الاقتصاد وتطبيقاته والاجتماعي وتطبيقاته هما أداة الفعل السياسي بأبعاده الاربعة لتحقيق الإرادة ذات الرؤية الاستراتيجية والقدرة الفعلية بقوتي السياسة اللطيفة والعنيفة.
وكل الشعوب التي تنافس الغرب حاليا فهمت ذلك وفهمت شروط تحقيقه ولذلك فهي قد حققت الندية وتمكنت من تجاوز مجرد تقليد الغالب. كل ما أخذه العرب من الحداثة هو قشورها وثمراتها من دون استثماراتها. كل ما لدينا من الحداثة هو استهلاك ما نستورده منها لا غير.