الدولة، ركنها الخامس: وظائف الدولة حماية ورعاية – الفصل السابع

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله الدولة

اكتفيت بفصل وحيد للكلام على المقوم الرابع -الهيئة الحاكمة بالفعل (الحكم) والحاكمة بالقوة (المعارضة)-لعدم جدوى إطالة القول في ما هو بيّن للجميع: فلا توجد حكومة عربية واحدة ومثلها المعارضة يمكن اعتبارها غير تابعة ما دامت تعتبر المحميات دولا وكلاهما سلم بالتفتيت الجغرافي والتاريخي.

لم يعد أحد منهم يؤمن بوحدة دار الإسلام ولا بتاريخها ومن ثم فهم جميعا فرحون بوضع إمارات الطوائف الذي آل إليه أمر ما يسمونه بالدول الوطنية. ولما كانت الحركات الجهادية هي بدورها تحولت قياداتها إلى أمراء حرب في كل ساحة انتشروا فيها فهم قد تخلوا بالأفعال عما يزعمونه بالأقوال.

وإذن فالهيئات الحاكمة بالفعل أو بالقوة في الانظمة العربية القبلية والعسكرية وفي حركات الجهاد التي هي بدورها قبلية وعسكرية وكلها طامحة لحكم المحميات العربية بنفس  الشروط الحالية التي نتجت عن تفتيت مكان دار الإسلام وزمانها وثروتها وتراثها والابقاء الاسمي على مرجعيتها.

وبهذا المعنى فلا وجود لهيئة حكم بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة أي إنه لا وجود لمنظمة من النخب الخمس (السياسية العلمية والاقتصادية والذوقية والرؤيوية) يوحد بها مشروع ضارب بعروقه في المرجعية ومقوم للقوى السياسية تكون حصيلة إرادتها هي ما يحقق أهداف الرؤية المؤسسة للهوية الحضارية.

العرب اليوم يوجدون في وضع أشبه بوضعهم في الجاهلية مع فارق كبير وهو أنهم دون الجاهلية استقلالا روحيا لأن الجزيرة وخاصة منطلق الإسلام فيها كانت بنحو ما خارج السلطان المسيطر على العالم حينها رغم وجود بذرة السلطان اليهودي والفارسي والبيزنطي في غالب قبائلهم.

أما الآن فإنهم فاقدون لهذا الاستقلال الروحي لأن كل النخب السياسية والعلمية والاقتصادية والذوقية والرؤيوية استكانت للتبعية ولعل آخر المجموعات العربية في ذلك المجموعة الخليجية التي لحقت ببقية المجموعات العربية الاخرى فصارت تسابق الجميع إلى حد المجاهرة والمفاخرة بها.

فصار اقل الناس دراية بالحضارة الغربية بقدر اقرب إلى الأمية منه إلى فهم العصر يقودون حملة التغريب الساذج الذي يتصور نطح السحب وتركيز المواخير والترف الممزوج بالبداوة حضارة وتقدما والتنكر لمقومات الذات وعيا بضرورات العصر في خواء وخلاء ليس للعرب فيه أدنى إبداع لفرط الاتباع.

وما يعنيني من ذلك كله هو أن نخبة السياسة عديمة الإرادة والطموح ونخبة العلم خاوية الوطاب والطلب ونخبة الاقتصاد مصاصو دم البلاد والعباد ونخبة الذوق بدائية الغايات ونخبة الرؤى مجرد كومبارس في توظيف الأصالة الدينية والحداثة الغربية لخدمة عملاء المحميات حكما ومعارض يرضيان الحامي.

وتلك هي علل فساد وظائف الدولة العشر التي بها تكون الدولة الذات المعنوية متعينة في الجماعة الذات الطبيعية ممثلة لتفشي سرطان الاستبداد والفساد في مرحلة الميتاستاز فيكاد اليأس يصبح سيد المرحلة لولا فزة الشباب بجنسيه منذ بداية الربيع الذي غير دلالات اللحظة التاريخية فقرّب الاستئناف.

ولولا إيماني بأن الرسالة الخاتمة لا يمكن أن تغلب في ما بقي من تاريخ الإنسانية بعد نزول القرآن ولولا تأييد فزة الشباب بجنسيه لكنت من اليائسين في أمة صارت نخبها بهذه الصفات. لكني ولله الحمد محصن ضد اليأس لإيماني بأن الأمة موعودة بالشهادة على العالمين لتجاوز وحدة البشرية المادية.

وذلك ما يتجلى في وظائف الدولة العشر. ففي وظائف الحماية الخمس لا يبقى القضاء قضاء ولا الأمن أمنا ولا الدبلوماسية دبلوماسية ولا الدفاع دفاعا بل كلها تمثل الاستبداد والفساد الذي هو دستور الهيئات الحاكمة والمعارضة في المحميات التي تستخدم كل شيء ليبقي الحامي عليها باستبدادها وفسادها.

ولست بحاجة لضرب أمثلة من البلاد العربية: فأي واحدة منها كافية لتبين ذلك من الماء إلى الماء. ميتاستاز الاستبداد والفساد وصل إلى الحد الذي سماه ابن خلدون فساد معاني الإنسانية في بعدي السياسة أي التربية والحكم. السياسة في شكل الدولة مطابقة للأخلاق الموضوعية في مضمونها.

أفسدوا الفرد والأسرة والمدرسة والمعبد والمعمل ولم يبق شيء يعمل بما تقتضيه طبيعته ووظيفته بل الكل يتظاهر بالعمل وهو في الحقيقة لا يعبر إلّا عن البطالة والكسل. أكاد أجزم أن ثمرة عمل أي عربي في هذه المؤسسات لا يساوي واحدا في المليون من نظيراتها في أي بلد سوي ينتج ما يسد حاجاته.

ولو لم يمن الله على العرب بثروات طبيعية لا مثيل لها لكانوا كما كانوا في الجاهلية لا يعيشون إلا على الجراح والتناهب والتقاتل المتبادلين. فأغنياؤهم يستوردون من يعمل بدلا منهم وهم يأكلون وينامون. وفقراؤهم أقصى أملهم هو الهجرة إلى حيث يسدون حاجات العبيد أدناها دون سواها.

ولنأخذ فروع الحماية. فالحماية الداخلية هي القضاء والامن ودورهما حماية الجماعة بعضها من بعضها وخاصة من حكامها الذين بالفعل والذين بالقوة أي من مافيات النخب السياسية والعلمية والاقتصادية والذوقية والرؤيوية. لكن القضاء والأمن لا يحمون إلا هذه المافيات وذواتهم ومصالح حاميهم جميعا.

وقس على الحماية الداخلية الحماية الخارجية. فلا الدبلوماسية ولا الدفاع يحمي الجماعة ليس عجزا فحسب بل وكذلك بقصد حماية المافيات التي أحصينا وحماية مصالح حاميهم جميعا أي من نصبه المستعمر على المحميات بوصفها من توابعه بثرواتها وسكانها جزاء من مجاله الحيوي المباشر.

فإذا أتينا إلى الجهاز العصبي المتحكم في هذه الوظائف الحمائية الأربعة  أعني جهاز الاستعلام والإعلام فحدث ولا حرج. فليست وظيفته-كما كان ينبغي أن  تكون بمقتضى طبيعتها-للاطلاع على حال الجماعة متعينة في هذه الوظائف بل هي  لخدمة من نصبهم الحامي ولخدمة مصالحه ضدها باعتبارها هي العدو.

ولعل أبرز مثال ما يجري في سوريا. لكن كل بلاد العرب متماثلة في هذا المضمار. المخابرات هي جهاز التجسس على الشعب وليس جهاز الاستعلام حول ما يتهدده من مخاطر لحمايته منها. الانظمة تعتبر الشعب هو العدو الأول وهي في خدمة من يحميها الذي هو عدو الأمة ومحارب مشروعها.

أما وظائف الرعاية فلست بحاجة لإطالة الكلام عليها. فوظيفتا التكوين (التربية النظامية في نظام التعليم والتربية غير النظامية في المجتمع) لا تحتاجان لشرح: كلنا يعلم أنها محو أمية بأخلاق متردية ومستوى معرفي متدني لا يكوّن مبدعين في العلم والعمل بل عاطلين باستثناء بعض الموهوبين طبيعيا.

وحتى إذا وجد من يكون موهوبا أو مبدعا فسرعان ما يقتل فيه كل طموح إذا لم يهاجر ليستطيع الانتقال من فقدان معاني الإنسانية إلى ظروف مساعدة على تحقيق ما بقي فيه منها. ذلك أن الاستبداد والفساد عماده إلغاء نقيضيهما في السياسة والعلم والاقتصاد والذوق والرؤية: الانتخاب المعكوس.

ولهذه العلّة فالرعاية التموينية شبه منعدمة. فلا يوجد إنتاج اقتصادي (لسد الحاجات المادية) ولا إنتاج ثقافي (لسد الحاجات الروحية) لأن التكوين الرديء لا يمكن من الإبداع شرط الانتاجين المادي والرمزي المغذيين للتكوين أولا ولثمراته ثانيا. وكل ذلك معطل أو يكاد: بطالة عامة في بلاد العرب.

ومثلما أن الجهاز العصبي لوظائف الحماية “اكسترافارتي” يعمل لصالح المافيات التي تعمل لصالح حاميها ضد شعوبها فإن الجهاز العصبي لوظائف الرعاية شبه معدوم: فالجهاز هنا هو البحث العلمي عامة في علاج قضايا العلاقة العمودية مع الطبيعة والعلاقة الافقية بين البشر: كلتاهما معطلة.

تلك هي حال وظائف الدولة التي تكون مطابقة لحاجات الجماعة ومتعينة في نظرها وعملها وانظمة حمايتها ورعايتها وهي كلها إن لم تكن معطلة بإطلاق فكل مؤشراتها في الاحمر. وكل ذلك بسبب الاستبداد والفساد وخدمة أعداء الأمة ومحتلي البلاد: محميات لا مشروع لها ولا سيادة.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي