الدولة، ركنها الثاني: مفهوم القوة السياسية – الفصل الأول

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله الدولة

خصصنا خمسة فصول بعنوان “ما دلالة ما فرطنا في الكتاب من شيء” لتحديد مفهوم المرجعية وتحريرها من الانقلابين السياسيين في التربية وفي الحكم سعيا لتبين حقيقة القرآن الذي هو  المرجعية الأصلية والسنة التي هي تعليمها وتطبيق الممكن منها في حياة الرسول كما حددها القرآن بنفسه إيجابا وسلبا.

فأصبح بوسعنا أن ننتقل إلى المقوم الثاني من الأمة مضمونها وشكلها أو الجماعة الحرة التي تتعين إرادتها وعلمها وقدرتها وحياتها ووجودها في دولة تنظم فعلي سيادتها أعني الحماية والرعاية الذاتيتين الدالتين على عدم التبيعة والقيام بالذات على قدم المساواة مع من حولها من الأمم والشعوب.

وهذا المقوم الثاني هو القوى السياسية في الداخل والقوة السياسية للجماعة في الخارج أو بالقياس على غيرها من الأمم المحيطة بها سواء بالمساوقة أو بالتوالي. فأمة الإسلام عاصرت أمما تنافسها على السيادة العالمية مساوقة وتلت أمما كانت هي السيدة وتلتها أمم صارت هي السيدة على العالم.

وهي توجد الآن بين هذين الحدين المحيطين بها: فمن الأمم التي تحاربها من يريد استئناف تاريخ متقدم عليها شرطه الغاؤها من التاريخ (إيران وإسرائيل) ومنها من يريد إلغاءها لأنه تلاها سيادة على العالم ولا يريد أن تعود فتنافسه من جديد (الغرب الأدنى والغرب الاقصى: أوروبا وأمريكا).

وهذه الوضعية يعيها الشعب العادي لكون ثقافته العميقة ما تزال متجذرة في المناخ الروحي الإسلامي رغم أن بيئته الثقافة السائدة تغيرت فتغربت وصارت معبرة عن النخب الحداثية المسيطرة على التربية والحكم في بلاد المسلمين والتي لم تعد مدركة لهذا الوضع المنافي لسيادة أي بلد مسلم في العالم.

ولا وجود لحصيلة واحدة Résulante تعتبر قوة سياسية ممثلة لإرادة الأمة وعلمها وقدرتها وحياتها ووجودها أعني مقومات كيانها الواحد قبالة القوى السياسية المتربصة بها لأن قواها السياسية المسيطرة في الداخل محالفة للمتحالفين عليها نوابا لهم في دار الإسلام وقد صارت محميات مفتتة.

وهذه الحال تعني امرين:

  1. الأول أن المرجعية لم تعد واحدة بل تفتتت بتفتت شروط الحصيلة التي تجعل الجماعة تعتبر قوة سياسية في سياسة العالم (وحدة الأمم تتعين خلال التقابل بينها في سياسة العالم أو في نظام العالم) رغم أنها متعددة في الداخل تعددا سقفه توافق ضمني او اجماع حول شروط السيادة.

  2. والأمر الثاني: تفتت الأحياز أو تفكك ما يربطها من “عصبية” بالمعنى الخلدوني  الرابع:

  • عصبية الدم المباشر

  • وعصبية الولاء المصلحي

  • وعصبية الدم غير المباشر أو القوم

  • وعصبية الولاء الروحي

  • وعصبية الإنسانية

والنكوص إلى ما دونها ونسيان الأفق القرآني المتمثل في الخامسة.

تفتتت الأحياز الإسلامية (الجغرافيا والتاريخ والتراث والثروة والمرجعية) ففقدت عصبية الامة  كما حددتها المرجعية التي درسنا-أي الولاء الروحي للأمة وللإنسانية-فاعليتها لأنها تردت إلى عصبية الدم المباشرة (القبلية) وعصبية الولاء المصلحي وعصبية الولاء القومي على حساب وحدة قوتها السياسية.

وكما أسلفت فالوحدة السياسية خارجية وهي غير مشروطة بالوحدة السياسية في الداخل بمعنى أن تعدد القوى السياسية في الداخل يمكن أن يكون عامل قوة بشرط بقاء سقفه وحدة المرجعية اساس العصبية الرابعة والمشدود إلى الخامسة في المرجعية القرآنية صلة بينها سبابة مشيرة والكون مشارا إليه.

فأما فقدان وحدة المرجعية فهو بين للجميع. ولا أقصد المقابلة بين الاصيل والحديث. فهذه المقابلة توجد في كل الأمم وهي سر الحياة. لكن الحاصل هو أن الأصيل ليس أصيلا حيا بمعنى أنه ليس الأصل يتجدد بدينامية ذاتية بل هو رد فعل والحديث ليس حديثا حيا بمعنى أنه إبداع متجذر في الأصل بل عارية.

التأصيل عارية من ماضينا تكرارا للميت منه وليس إبداعا دالا على تطور كائن حي والتحديث عارية من ماضي الغرب تكرارا للميت منه وليس إبداعا دالا على التقاء حيوية الأصل وتجاوزه لذاته مع حيوية من تجاوزه بما فيه من كوني كل الإنسان مشدود إليه إذا كان بحق كونيا وليس فرضا لإرادة الغزاة.

وكل عارية تشبه البروتاز التي يرفضها الكيان الحي الذي لا يقبل الأعضاء الأجنبية التي لا تلائم حياته لأنها ليست من حيويته الذاتية: لذلك فما يجري في المرجعية أمران خطيران: أولا إحياء باستعارة ما لم يعد مناسبا لظروف حياة  الامة من ماضينا فيصبح معطلا لا يتجاوز رد الفعل بالانكماش.

ويمثل هذا الإحياء الوجه الغالب على الحركات الجهادية حدا أقصى والحركات الإسلامية حدا أدنى من حيث الملاءمة مع شروط القيام الحديث في نظام العالم الجديد. والثاني هو تركيب البروتاز الاجنبية بالمقلوب بمعنى أن المأخوذ منها ليس ما فيها من شروط التحديث بل من ثمراته دون شروطه.

فعندما ترى ما يطلبه الحداثيون تفهم أنهم يقصرون الحداثة على قشورها لأنهم يأخذون منها ما آل إلى الترف ثمرة لها وليس ما جعلها تؤول إلى ذلك بعرق وجد لم يفهمه ويحققه إلا أهل الشرق الأقصى الذين يفهمون شرطيها علما وعملا وليس الاستيراد والاستهلاك مثل العرب اقل أمم العالم علما وعملا.

وما يفتت المرجعية هو أن التأصيل والتحديث كلاهما يحصل بالعارية ومن ثم فهما كاريكاتور من حقيقتهما فيصبحان من ثم علة للحرب الأهلية بسبب التناقض المطلق بين تأويلاتها النكوصية إلى الميت من أصل التأصيل ومن أصل التحديث: حرب أهلية بين أموات في مقبرة مقامات الحريري.

وأما تفتين الأحياز -الجغرافيا والتاريخ وأثر الأولى في الثاني أو التراث والثاني في الأولى أو الثروة وأصلها جميعا أو المرجعية فهو بين للعيان: دار الإسلام صارت جذاذا من المحميات التي وضع عليها الاستعمار والغزاة عملاء من النخب الخمس التي تتألف منها القوى السياسية المؤثرة.

ولست بغافل على أن الناس يظنون أن القوى السياسة مقتصرة على الحكام ومعارضيهم. وهذا خطأ كبير. فالجماعات لا تحكم بالحاكم والمعارض في معناهما السياسي الضيق بل هي تحكم بالنخب الخمس: نخبة الإرادة أو الساسة بالمعنى الضيق ونخبة العلم أو المفكرون بالمعنى الضيق ونخبة القدرة أو الاقتصاديون.

نخبة القدرة أو الاقتصاديون بالمعنى الضيق ونخبة الحياة أو الذوق أو الفنانون بالمعنى الضيق ونخبة الوجود أو اصحاب الرؤى بالمعنى الضيق. وتكرار كلمة بالمعنى الضيق قصده أن كل نخبة تسهم في معايير الانتخاب بهذه المعاني الخمس. وإذن فالجماعة كلها مسهمة في القوى السياسية مباشرة أو بتوسطهم.

ومعنى ذلك أن النخبة السياسة بمعنى من يمارس الحكم أو المعارضة لا يمكن أن تستبد وتفسد من دون تواطؤ النخب الأربع الاخرى ولو بالسكوت: نخبة العلم ونخبة القدرة ونخبة الحياة أو الذوق ونخبة الوجود أو الرؤى (عادة رجال الدين والفلاسفة): فساد معاني الإنسانية مرض جماعي حتما.

ولهذه العلة فالأمة اليوم تعيش ما يشبه الفشو العام لمرض عضال. لكن الشباب بجنسيه استعاد الهمة وسيخرج الامة من الغمة. ويكفي دليلا أن شباب الشام بجنسيه تمكن من الصمود أمام تحالف عالمي ضد ثورته ولا يزال هو صاحب المبادرة حتى وإن اقتضت المراوغة الاستراتيجية شبه سبات مؤقت.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي