لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالدولة
ظنت نخب الامة الخمس (نخبة الإرادة أو الساسة ونخبة العلم أو العلماء ونخبة القدرة أو الاقتصاديون ونخبة الحياة أو الفنانون ونخبة الوجود أو أصحاب الرؤى الدينية والفلسفية) أن نظرها وعقدها وعملها وشرعها تقبل الاستخراج من نص القرآن خلطا بين السبابة المشيرة والامر المشار إليه.
بينت ان آيات القرآن سبابة تشير للتذكير والتحذير وأن النبي مبشر ومنذر وليس مقدما لعلوم نظرية ولممارسات عملية تتجاوز دور النماذج لنظر الإنسان وعمله وليست بدائل منهما فيكون كل من يأتي بعد النبي مجدر مقلد له. أليس الإنسان مكلفا بالاجتهاد والجهاد لإثبات أهليته كخليفة وليحاسب؟
كل فهم يرد مسؤولية المسلم إلى حذق التقليد يجعل النبي وسيطا بين المؤمن وربه ليس بوصفه مبلغا لرسالة التذكير والتحذير بل بوصفه متحملا لمسؤولية كل ما يجري في التاريخ لأن من يقلده ليس صاحب الفعل بل هو صاحب المحاكاة ويمكنه أن يدعي أن فعل ذلك بأمر النبي وحاشاه أن يكون قد فعل.
القرآن يقول إن تبين حقيقته يكون من خلال رؤية آيات الله في الآفاق والانفس ومنها طبعا الكتاب والسنة اجزاء من الآفاق والأنفس لكنها ليست كافية ولا هي بديل منهما. وآيات الله في الآفاق والانفس هي قوانين الطبيعة وسنن التاريخ مرة أخرى. وإذن فالمرور بما فهمه ابن خلدون ضروري لعلم السياسة.
والسؤال: هل السبابة التي تشير على جهل أم على علم؟
طبعا تشير على علم. لكن هذا العلم بالنسبة إلى المؤمن الصادق هو من جنس ما نهت عن البحث فيه آل عمران 7. ومن لا يؤمن بعلوية القرآن قد يتصور ذلك عبقرية محمدية فينسب إليه حكمة المستشار الكوني للبشرية حتى تتحد وتنعم بالسلم.
فيكون الرسول ليس مبلغا لرسالة بل معلما لحكمة من إبداعه. وهذه مسألة لا تعنيني لأنها ليست من مجال البحث العلمي بل من مجال الإيمان بالوحي وعدم الإيمان به. قد نبهت إلى أني لا أدخل في مجال المتشابه والغيب ويكفي أن أتعامل مع القرآن كما يحدد نفسه فتصديقه وتكذيبه مسألة إيمانية لا علمية.
وكل الذين يضعون كل شيء في القرآن ولا يفهمون ما حاولت بيانه في كلامي على “ما فرطنا في الكتاب من شيء” ليس لي معهم كلام. يكفيني أن القرآن يقول إن حقيقته لا تتبين من نصوصه بل من آيات الله في الآفاق والأنفس. وإذن فالقرآن يكفي بالإشارة والتوجيه إلى محل البحث في متطلبات التكليف لا غير.
وحتى يساعدنا القرآن في ذلك حدد طبيعة قوانين الآفاق دون تعيينها فوصف الخلق بكونه بمقدار(رياضيات الضرورة) ودعا إلى تدبر نظامه بالتجربة وبه يحتج لبيان حكمة الخلق. كما حدد طبيعة سنن الانفس (التاريخ) بكونها سياسة (رياضيات الحرية) واعتبره موضوع تدبر وبه يحتج لبيان حكمة الامر.
القرآن كنص يرشدنا ويوجهنا إلى ما يذكرنا به مما هو مرسوم في ما فطرنا عليه حتى نخرج من الخسر لكنه لا يتجاوز الإرشاد والتوجيه إلى ما علينا طلبه وأين وكيف دون أن يحدد أعيان ما يحصل بفضل هذا الطلب وإلا لكان مجرد حفظ نص القرآن هو التكليف ولا شيء بعده: هل حفظ الوصية يغني عما أوصت به؟
وهبنا فرضنا أن المطلوب هو تقليد النبي فما الذي سنقلده منه؟ النبوة اصطفاء ولا يمكن تحصيلها بالتقليد وامتحان اهلية الاستخلاف شخصي بإطلاق وإلا لكان الحساب يوم الدين في القرآن قابلا لأن يحمل المحاسب مسؤولية أفعاله لمن اقتدى به: والقرآن مليء برفض هذه الحجة في الحساب.
التكليف شخصي والحساب شخصي والتعليم تكوين للناشئة حتى تجتهد وتجاهد في تحقيق شروط الاستخلاف خلال التعمير وكل ذلك لا يتم من دون نظر وعقد شخصيين وعمل وشرع شخصيين من حيث التعيين رغم عمومية التحديد المجرد: لا احد يقوم بفروض غيره العينية وأكثر الفروض عينية مسؤولية الافعال والأقوال.
وهذا المسؤولية تقتضي ان تكون مسؤولة على ما نريد وما نعلم وما نقدر عليه وما نحيا به وما يتحقق به وجودنا بوصفها أحرار روحيا وسياسية لأن التكليف شخصي ولكل طريقه إلى تحقيقه حتى وإن كانت قوانين التحقيق وسننه مشروطة بنفس الشروط الطبيعية والتاريخية.
وهذا الشروط الطبيعية والتاريخية رغم افتراضنا وحدتها الموضوعية للجميع فإن رؤيتها ذاتية لكل واحد منا والإنسان مسؤول عما يجتهد لإدراكه ويجاهد لتحقيقه حتى يثبت أنه حر روحيا (لا يحتاج لوسيط بين وبين رؤيته لآيات ربه في الآفاق والانفس) وحر سياسيا (لا يحتاج لوصي بين وبين أمره فرض عين).
الإسلام التزام عقدي شخصي. والاعمال والاقوال افعال عباد لا يسأل عنها إلا أصحابها في الدنيا وفي الآخرة (لمن يؤمن بوجودها). والسياسة في الدنيا لا تكون سياسة أحرار ما لم يكن مثالها الاعلى الصورة التي يقدمها القرآن من مسؤولية شخصية بإطلاق ذهنيا وعينيا بدليل شهادة الجوارح.
القوة السياسية التي تنبع من تأويلات المرجعية دينية (من مصدر يعتبر متعاليا على البشر) كانت أو وضعية (من وضع البشر) متعددة كما أسلفنا وهي تنتسب إلى نفس الجماعة بمقدار ولائها لهذه المرجعية ولاء لا يتجلى بحق إلا في الخارج عندما تكون الجماعة ذاتا بدولتها في علاقتها بغيرها من الدول.
وذلك يعني ان التعدد لا يتنافى مع الولاء ولا يضعفه بل هو يقويه إذ كان له سقف مرجعي ينطلق منه الجميع ولا يختلفون حول مرجعيته رغم تعدد تأويلاتهما لها. لكن ذلك لسوء الحظ لم يعد موجودا في الامة لأن الأنظمة التي تحكمها فضلا عن الاعداء يبدون وكأنهم قد غسلوا أيديهم من وحدة الامة.
وفي هذه الحالة لم يبق للمسلمين عامة وللعرب خاصة أي معنى للقوى السياسية لأن القوة السياسية جوهرها أنها ممثلة لإرادة جماعة حرة كيانها لا يكون ذا معنى ما لم تكن سيدة. وهي لا تكون سيدة من دون أن يكون الافراد فيها أحرارا روحيا وسياسيا. لذلك فكل بلاد المسلمين والعرب محميات وليس دولا.
وما يجعلها كذلك ليس قضية مواقف ذاتية من النخب بل هي وضعية موضوعية جعلتهم يصبحون كذلك لغياب الوعي بشروط السيادة التي تقبل الرد إلى وظيفتي الحماية والرعاية: فكل جماعة تدين بحمايتها لجماعة أخرى تكون تابعة لها وهي تكون أكثر تبعية إذا دانت برعاية لجماعة اخرى: المتسول لا سيادة له.
والعجز عن الحماية والرعاية على ضربين: ما له أسباب موضوعية وما له أسباب ذاتية. فالأسباب الموضوعية هو حال الأحياز التي صارت بتفتتها غير كافية لتحقيق شروط السيادة حماية ورعاية لأن الحجوم محددة للقدرات الضرورية لهذين الوظيفتين.
والأسباب الذاتية هي أن بعض الجماعات رغم توفر الحجم الكافي ليس لنخبها الوعي بشروط السيادة. ففي هذه الحالة تكون النخب قد أصيبت بما سماه ابن خلدون فساد معاني الإنسانية أي إنها تعودت على العبودية لغير الله فصارت جماعة بلا كرامة ولا حرية. وهذه حال العرب الآن.
ذلك أنهم من بين شعوب الامة الإسلامية بقوا حتى دون الوحدة القومية رغم أن قوميتهم أقرب القوميات لما يتعالى حتى على الوحدة العرقية. وبدلا من الانطلاق منها إلى ما يعلوا عليها نكصوا إلى ما دونها ولم يعد أحد يبحث عن استعادة سر قوتهم الاولى التي أدخلتهم للتاريخ العالمي قوة عظمى.
صار كل أمير وغفير وحقير وضراب بندير يبحثون عن توطيد التفتيت الجغرافي والتشتيت التاريخي لإضفاء الشرعية على فتات أرض العرب التي صارت مثل إمارات ملوك الطوائف كل قبيلة أو حثالة مرتزقة تستحوذ على الامر لتكون في خدمة أعداء الامة والمرجعية بالاستبداد والفساد واستعباد العباد وبيع البلاد.