لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالدولة
ختاما للكلام في المقوم الثاني من الدولة تعينا للأمة السيدة كذات في سياسة العالم لا بد من تحديد طبيعة القوى السياسية التي تتفاعل الآن في قلب دار الإسلام أعني في المجال التاريخي الذي مثل سلطان الامة التاريخي على الأحياز موضوع التنافس بين الأمم منذ نزول القرآن إلى الآن.
ولا بد هنا من تجاوز الأحكام المسبقة حول منطق التاريخ المتردد بين قولين:
التاريخ يعيد نفسه.
التاريخ في سيلان أبدي لا شيء منه يعود.
وكلا القولين مبهم وغير مطابق لحقيقة التاريخ. فلا هو يعيد نفسه ولا هو في سيلان أبدي ولست من القول بالحد الاوسط. منطقه مختلف تماما.
فلو كان يعيد نفسه لكان ما نعلمه من الماضي مغنيا عن محاولة معرفة الحاضر فضلا عن المستقبل. ولو كان في سيلان أبدي لامتنع علمه ماضيا كان او حاضرا فضلا عن المستقبل. التاريخ مثل الطبيعة فيه ثوابت وفيه متغيرات: ومن دون هذه العلاقة لا نفهم التغير فضلا عن أن نتصوره ذا قوانين.
فإذا كانت رهانات التاريخ الإنساني ثابتة لا تتغير كما أسلفنا بمعنى أن الأمم والشعوب تتنافس على حيازة الاحياز الخمسة-المكان مصدر شروط القيام المادي والزمان مصدر شروط القيام الروحي أو الرمزي والقيام المادي يتعين في الثروة والقيام الروحي يتعين في التراث والأصل هو المرجعية أو الرؤية
والمرجعية أو الرؤية ثابتة ما لم تفنى الامة التي تؤمن بها وإن بتشكلات متعددة متوالية بسحب ما يحدث في نظام العالم أو في تقاسم المعمورة إلى أحياز متغيرة تتسع او تضيق بحسب قوة الامم السياسية التي تشارك في التنافس على حيازتها ما يجعل اقساط الأمم من المعمورة في تغير دائم: منطق الحروب.
ثبات الرهان -حيازة الأحياز-مع تغير المتراهنين يمثل تاريخ نظام العالم وضمنه يكون تاريخ أي امة قابلا للتحديد بالعلاقة بين قوتها السياسية وحيازتها لقسط واسع او ضيق منها. وطبعا الحوز يصبح ملكية ما فرضت الأمة على منافسيها الاعتراف لها بأنها مالكة ما ظلت قادرة على الحماية والرعاية.
وليس الرهان وحده هو الثابت بل وكذلك مقومات القوة السياسية: فالسياسة تعبير عن إرادة جماعة. لكن القوة السياسية لا تكفي فيها الإرادة بل لا بد لها من القدرة على ما تريد. والقدرة لها شروط أهمها: 1-أن تكون الإرادة مبنية على رؤية هي المرجعية الروحية التي تعرف الامة نفسها بها.
والمرجعية التي تعرف بها الامة نفسها لا تكون مجرد أقوال بل هي تتعين في نظر وعقد يمكنان من علاج شروط البقاء بالعلاقة العمودية مع الطبيعة وهي العلوم النظرية وتطبيقاتها (معرفة قوانين الطبيعة) وبالعلاقة الأفقية بين البشر وهي العلوم العملية وتطبيقاتها. وهما شرطا الحماية والرعاية.
ولا يتحقق التعين الفاعل في العلاقتين العمودية والأفقية بالنظر والعقد في العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية شرطين للسيادة أي للحماية والرعاية دون العمل والشرع في تنظيم العلاقتين حتى لا يبقى التنافس على الأحياز في الجماعة بين مكوناتها حائلا دون القدرة عليه بين الجماعات في نظام العالم.
ومعنى ذلك أنه من دون سلم داخلية يستحيل على أي امة أن تستعد لحرب خارجية. القوة السياسية في التنافس بين الامم مشروطة بتنظيم التنافس داخلها بصورة تقدم التعايش السلمي بين مقوماتها على التنافس المؤدي إلى الحرب الاهلية. ولذلك فالحرب الخارجية مشروط بالسلم الاهلية.
وتلك هي العلة في أن إشعال الفتن الداخلية من أهم الادوات الاستراتيجية التي تجعل العدو يستغني عن حربك أو يهزمك بسرعة ما ظللت في حرب أهلية تفقدك القدرة على التصدي لهجومه: ولو لم يستطع الصحابة بعد الرسول إخماد الحرب الأهلية في بداية الفتنة وفي ذروتها لاستحال أن يبقى للإسلام دولة.
ففي بداية الفتنة استطاع الصديق إخماد الحرب الاهلية -الردة-وفي ذروتها استطاعت الدولة الاموية اخماد الحروب الأربعة(بين أم المؤمنين وعلي وبينه وبين معاوية ثم بين ابنيهما ثم بين ابن الزبير وعبد الملك. وفي الحالتين كانت الخطة مبنية على توحيد الامة ضد عدو خارجي ولكن برسالة إنسانية.
وقصدي أن الدولة الأموية -رغم ما أشرنا إليه من الانقلابين على الدستور السياسي تربية وحكما-واصلت سياسة الفتح بمعنى الدعوة إلى الأخوة والمساواة تحت راية الإسلام وهو غير الاستعمار الذي لا يعتبر الشعوب التي يدخلها تحت مظلته مساوية للشعوب الغازية بل يعتبرهم عبيد له.
فشتان بين الفتح الذي يعتبر من يسلم له ما للمسلمين وعليه ما عليهم ولا يطلب منه غير الانتقال من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد وبين الاستعمار الذي يعتبر الغزاة سادة والمغزوين عبيد حتى لو قبلوا بالاندماج في ثقافته كما حصل لبعض الافارقة ممن تمسح وتخلى عن ثقافته وحضارته.
وهذا هو المتغير الثاني في التاريخ وهو نظير الثابت الثاني: فالحركة في حظوظ الامم من الأحياز يمكن أن تكون إيجابية من حيث القيم التي يتسع مجال انتشارها أو سلبية كما بينا في تحديد الفرق بين الفتح والغزو. الفتح الإسلامي لم يلغ أي ثقافة ولا أي لغة بل هو يوحد روحيا دون نفي الخصوصيات.
وهذا كاف للتمهيد في سعينا لتحديد القوى السياسية التي بينها تنافس على الأحياز في دار الإسلام من داخلها ومن خارجها. وسأكتفي بقلب دار الإسلام أي ما يسمى بالوطن العربي وما حوله من شعوب منذ نزول القرآن إلى اليوم وبالذات العلاقة بين المسلمين والغرب وسيطه وحديثه.
ولست بحاجة للتذكير بأني لا اعتبر ما يجري حاليا مواصلة للحروب الصليبية. فهذا من هذيان من لا يفهم حقيقة المرحلة التاريخية من نظام العالم. ذلك أن الغرب-رغم عنفه وعدوانه-لم يعد أخطر عدو يمكن أن يقضي على الأمة الإسلامية: فكل حروبه عليها فشلت وهو اليوم رغم قوته ليس قادرا علينا.
الخطر الحقيقي الذي يتهدد الامة ينقسم إلى جنسين: الأول هو عودة ما قبل الإسلام في دار الإسلام الواسعة وهو نوعان الانظمة القومية الحديثة وعودة أول أعداء الإسلام في نشأته الأولى أي يهود الجزيرة وفارس وبيزنطة. هؤلاء عادوا في شكل جديد هو إيران وإسرائيل وروسيا الأرثودوكسية.
وكلنا يعلم أن الثلاثة الأخيرين فضلا عن القوميات المتقدمة على الإسلام يريدون الثأر من الإسلام لاسترداد ما أخذه منهم. أما الغرب فقد استرد ما أخذناه منه في ما يسمى بحروب الاسترداد التي ختمت حروب الصليب. وما خاضعه معنا من حروب بعدها استعمارية ولا صلة لها بالصليب لأن قواه كانت قومية.
والجنس الثاني من الأعداء من خارج دار الإسلام وهي لا ترى حاليا إلا في الشرق الاقصى. لكن استعادة قوتي الشرق الاقصى (الصين والهند) لقوتهما اخطر على الإسلام الآسيوي من الغرب على الإسلام فيها وفي أفريقيا وأوروبا لأن الغرب اليوم وإن كان متقدما تقينا فهو في انحطاط بايولوجي رهيب.
لذلك اقترحت تبريد الحرب مع الغرب حتى يكون للبايولوجيا والغزو البطيء بها مفعوله والاعتناء بهذين الخطرين اللذين يحاربان قوة الإسلام التي أنشأت دولته بداية (العرب) والتي حافظت عليها غاية (الاتراك). فمدار الحروب في الشرق الأدنى هو القضاء على قوتي النشأة والاستئناف فيهما.
وكل من له دراية بأعماق التاريخ الإسلامي علم أن البداية حصل فيها تحالف بين الرسول ويهود يثرب الذين تصوروا أنهم بذلك الحلف يضربون صعود قريش التجاري وظنوا أن الرسول لم يكن داريا بذلك. ولما رأوا قوته حاولوا خيانته فحالفوا قريشا عليه فكانت مناسبة للقضاء عليهم.
يمكن القول بالاصطلاح الذي استعملناه لفهم منطق التاريخ أن أول مرحلة في نشأة دولة الإسلام كانت تحرير يثرب من سلطان يهودها. وبذلك بدأت دولة الإسلام وخاصة مع الصديق والفاروق وذي النورين تحوز الأحياز الأساسية التي منها انطلقت الامبراطورية الإسلامية مجال الحرب العالمية الحالية.
ونفس السلوك سلكه معاوية والدولة الأموية: فقد حالف معاوية بيزنطة وتمكن من تجاوز الحرب الأهلية والاستحواذ على كل مستعمرات بيزنطة قبل أن يبدأ في الحرب عليها مباشرة بمعنى أنه افتك منها احياز الدولة الإسلامية بتحرير الضفة الجنوبية من الأبيض المتوسط ودخل أوروبا إلى حدود فرنسا.
وكاد النكوص إلى الجاهلية العربية والجاهلية الشعوبية القضاء على دولة الإسلام بحرب أهلية أخرى أنهت الدولة الاموية وأسست الدولة العباسية تحت هيمنة ثقافية شعوبية ليس للعرب فيها إلا رمز السلطان أما السلطان الفعلي ففقده العرب فانقسمت الدولة وبدأ الانحطاط رغم بقاء مفعول الدفعة الاولى.
وحصل ما نراه اليوم: بدأ الغرب يحرك الأعداء السابقين على الإسلام من الداخل (الدولة الفاطمية) والخارج (الحلف مع المغول) للقضاء على دولة الإسلام التي دب فيها التفتت ولم تعد قوة سياسية متناغمة بل أصبحت في حرب أهلية دائمة إلى أن تداركها الأتراك في نصف تاريخها الثاني المعلوم.
واليوم قوتان تمثلان الماضي العائد هما إيران وإسرائيل وقوتان تمثلان المساند لهما هما روسيا وأمريكا في حالة من ذهول القوة السياسية الإسلامية وحرب أهلية مضاعفة: بين العرب أولا ثم بين العملاء منهم وتركيا بحيث إن العرب اليوم توابع لإيران وإسرائيل ذراعي أمريكا وروسيا.
هذا ما اردت أن أشرحه لشباب الثورة حتى يتحرر من قراءة الحاضر بالماضي دون تجديده بالتناسب مع تجدد نظام العالم (عند الجهاديين) ويتحرر من قراءة الحاضر وكأن الماضي مضى واندثر ولم يعد له أثر: الاثر الذي بقي هو ما حاولت وصفه ببيان ثوابته ومتغيراته قدر المستطاع.