الدولة، ركنها الثاني: مفهوم القوة السياسية – الفصل الثاني

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله الدولة

الامة تصبح ذاتا ذات كيان يمثلها هو الدولة التي تتألف من جماعة تملك أحيازا (الخمسة) تستمد منها شروط قيامها رعاية وهي تكون سيدة إذا كانت قادرة على حمايتها دون تبعية لغيرها. وإذن فالأمة ذات السيادة من حيث هي ذات سياسية لا تتحدد بما في داخلها فحسب بل بما لها من منزلة في نظام العالم.

وهذه المنزلة هي معنى القوة السياسية في العالم إذا اعتبرناه واحدا يحيط  بما فيه من أمم متعايشة فيه سلما وحربا على حظها من شروط بقائها المستمدة منه بوصفه أحياز وجودها ومصدر قيامها المادي(الانتاج المادي او الاقتصاد) والروحي (الانتاج الرمزي او الثقافة) وكل منهما شارط ومشروط للثاني.

وبهذا المعنى فالدول هي ذوات الامم وبهذه الصفة هي قوتها السياسية المؤلفة مما تستمد منه القوة بمعانيها الخمس: قوة إرادة وقوة معرفة وقوة  قدرة وقوة حياة أو ذوق وقوة وجود او رؤية للعالم وخاصة لذاتها في منازل  الامم أو في نظام العالم خلال التاريخ نزولا وصعودا في المراتب السيادية.

ولو افترضنا أن الإنسانية أمة واحدة (غاية يسعى إليها الإسلام النساء 1) لكانت سياسة العالم من جنس سياسة اي أمة: كل دولة فيه ذات سياسية تسعى لحيازة أكبر قدر من الاحياز باعتباره شروط قيامها ولو على حساب غيرها من الأمم (الأمر الواقع) ولكان الهدف الخلقي أخوتها (الأمر الواجب) شرطا للسلم.

وطبعا فهذه المقابلة بين الأمر الواقع والأمر الواجب في عمل القوى السياسية لا يعني أنه يمكن أن توجد سياسية خالية من أحدهما بل هو يعني أن حضورهما يمكن أن يكون حقيقيا ويمكن أن يكون للخداع: فقل أن تجد قوة سياسية أفعالها مطابقة لأقوالها وذلك سواء كنا في الداخل او في الخارج. كلها تتخادع.

وغالبا ما يكون الحاكم أصدق من المعارض لأن الاول يسهل مقارنة أقواله بأفعاله والثاني ما ظل معارضا من العسير أن تقارن أقواله بأفعاله لأنه يوغل في الكلام على الأمر الواجب ويتجاهل ما يحول دونه لجهله بعقبات الأمر الواقع. لكن وجودهما مشروط في امتناع تجاهل الأمر الواقع.

وإذن فلا توجد امة ليس فيها هذان البعدان من الرؤية السياسية حكما ومعارضة بل ضمن الحكم وضمن المعارضة أيضا ومن ثم فالمقابلة بين الرؤية القولية والرؤية الفعلية تجعل الحكم والمعارضة كلتاهما في الحقيقة مؤلفة منهما: المقابلة بين التصور والانجاز من مقومات الفعل عامة والفعل السياسي خاصة.

ولهذه العلة فكل قوة سياسية هي شبه دولة فيها حكم ومعارضة وفي تصور وإنجاز والتصور ينتسب إلى نخبة العلم والإنجاز إلى نخبة الإرادة. لكن  النخبتين تبقيان رهن نخبة القدرة لأن للإنجاز والتصور كلفة يدفعها من  يستطيع تمويلها وتوظيفها في خطة القدرة. وهدف العمل تنتسب إلى ذوق الحياة أو الفن.

ولهذه العلة فإن القوة السياسية تتألف دائما من خمسة فروع: قوة سياسية حاكمة مزدوجة تتألف من اصحاب التصور وأصحاب الإنجاز لكأنهما حكم ومعارضة. وقوة سياسية معارضة مزدوجة تتألف من تصور التصور واصحاب الإنجاز لكـأنهما معارضة وحكم. ولنستعمل التنزيل المكاني السائد في التصنيف لفهم ذلك.

فلنفرض على سبيل المثال:

  1. القوة الحاكمة من اليمين لا بيد أن يوجد فيها من يميلون في الحكم إلى يسار اليمين خوفا من فقدان البعد الاجتماعي من سياستهم الاقتصادية.

  2. القوة المعارضة من اليسار ولابد أن يوجد فيها من يميلون إلى يمين اليسار خوفا من فقدان البعد الاقتصادي من سياستهم الاجتماعية.

فتكون القوى السياسية حتما على أربعة أصناف: يمين ويسار اليمين ويسار ويمين اليسار وبينها جميعا قوة الوسط الانتهازي الذي يميل إلى الغالب في لعبة التيامن والتياسر وأحيانا تصبح  القوة الضرورية لحكم أي من  القوى المتنافسة. وطبعا يوجد اقصى اليمين واقصى اليسار لكنهما من حواشي اللعبة.

وحواشي اللعبة مؤثرة حتما: ذلك أن اليمين يحتاج إليهما واليسار يحتاج إليهما فيقضم على قاعدتهما ليزيد في ثقله السياسي. وكلا الاقصيين يستعمل كذلك للتخويف شرطا في محافظة اليمين واليسار على دوره لأن القواعد الشعبية غالبا ما تكون في الاقوال متطرفة لكنها في الافعال تقدم مصالحها على قيمها.

ولا يظنن أحد أن هذه المعادلة تخضع لمنطق الجدل بالمعنى الهيجلي أو الماركسي لأنها ليست مبنية على تقابل بين حدين متنافيين بل هي مصفوفة مؤلفة من خمسة ابعاد متكاملة لا يمكن تصور أي عنصر منها من دون بقية العناصر وهي إذن ذات منطق تكاملي لا يعتمد على التناقض ورفعه.

وعندما أطبق هذه المعادلة على المستويات الخمسة من القوة السياسية الشاملة كما عرفناها فإننا نجد أن كل واحد منها يتضمن البقية شرطا لحصوله: فالإرادة تصور لا يتحقق فيكون إنجازا من دون علم وقدرة وحياة ووجود والعلم مثلها لا يتحقق من دون إرادة وقدرة وحياة ووجودا وهلم جرا.

ومن ثم فالقوة السياسية (إرادة البعض تعبر عن ارادة الكل) لا تكون قوة بحق ما لم تكن معبرة عن إرادة الكل بمعنى أن السياسي ليس له من  قوة ذاتية إلا بما له من تواطؤ من العالم والاقتصادي والفنان وصاحب الرؤية. والتفتت في أي  جماعة علته عدم تحقق هذا التكامل والتواطؤ في اتجاه متناسق.

والاتجاه المتناسق تحدد تاريخيا-مما هو معلوم من عمل القوى السياسية-إما بمرجعية دينية صادقة أو منافقة أو بمرجعية دهرية صادقة أو منافقة أو بهما معا ولا يمن أن يوجد حل آخر. فتكون وحدة القوى السياسية مرجعية عرفها ابن خلدون مستوياتها بنظرية العقد العقلي(2) والديني(2) والجامع بينها(1).

فالعقلي من المرجعيات أي الهادف إلى تحقيق المصلحة الدنيوية حصرا قسمه ابن خلدون إلى نوعين:

  1. نظام يحقق مصلحة الحاكم وحده.

  2. نظام بحقق مصلحة الحاكم والمحكوم.

والأول محتاج إلى الخداع بالفساد ليمرر الاستبداد. ولما يفشل يقاسم الجماعة الفتات من ثمرتهما وهو الثاني: دين العجل.

لوم يكن لابن خلدون الجرأة على الجهر بالموازاة بين هذين النظامين والنظامين اللذين يكون العقد فيهما مناظرا للعقد العقلي وهو العقد الديني وفيه طرف ثالث: الله. تعاقد بين حاكم ومحكوم وبينهم حكم هو الله الشارع المطلق. وهو عقد لا يقتصر على مصالح الدنيا بل يضيف مصالح الاخرى. ظنه واحدا.

لكنه في الحقيقة هو بدوره مضاعف: فهو ديني لصالح الحاكم المتأله أو الحاكم بالحق الإلهي (الشيعة مثلا: شرعية الوصي) أو بالحق الطبيعي (السنة مثلا: شرعية المتغلب) وهو يمكن أن يقتصر على صالحه أو يوهم بأنه يجمع بين صالحه وصالح المحكومين. والفصل بين العقلي والنقلي في الأقوال لا في الافعال.

ولذلك ختم ابن خلدون كلامه بأن أشار أن الموجود في واقع التاريخ هو أن هذه كلها مستويات من كل نظام سياسي بمعنى أنه يجمع العقلي بمستوييه والنقلي بمستوييه صدقا أو كذبا على أرضي القوى الطبيعية التي هي تنازع وتمانع بين الاحياء من أجل شروط البقاء الذي قد يغفل عن قيم الاستخلاف.

فيكون التاريخ  الإنساني كما يصفه القرآن محاولات متوالية للتحرر من قانون التاريخ الطبيعي (الصراع من أجل شروط البقاء) وحينها قد نصدق المنطق  الجدلي لكنه بهذه المحاولات يتعالى عليه إلى قانون التاريخ الخلقي الذي هو ثمرة الانشداد إلى المثل العليا جوهر عقد الاستخلاف بين الله والإنسان.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي