الدولة السيدة، ما مقوماتها المادية والروحية؟ – الفصل الرابع

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله الدولة السيدة ما مقوماتها المادية والروحية؟

ولست أشك لحظة واحدة أن السؤال الذي يوجد على شفتي كل قارئ هو: أين تذهب إذن بقية الأمور التي تعنى بها الوزارات الاخرى التي تعد بالعشرات في الحكومات العربية وفي تونس على سبيل المثال. وعلة هذا السؤال هو غياب السؤال الذي من المفروض أن يوضع: ما علة تورم كيان الإدارة السياسية للحكم؟ والجواب البسيط مضاعف: 1. فالعلة تقنية وهي الخلط بين الإدارتين السياسية للحكم والخدمية للدولة. 2. والعلة الاخطر سياسية وهي نظرية الدولة الحاضنة التي تقتل وظائف الجماعة لتصبح هي الفاعل الوحيد فيها. والجمع بين العلتين هو معنى الدولة الشمولية التي تتحول إلى ثقب أسود يأكل الأخضر واليابس. وفي الحقيقة إنه عدم وجود الدولة الذي لم يبق إلى اسم يخفي المافيات أو الاقطاعيات التي سيطرت على إرادة الجماعة وتكون عادة حزبا فاشيا متحالف مع نقابة فاشية هي بدورها والجمع بينهما في الأنظمة الماركسية وفاشياتنا العسكرية والقبلية وفاشيات اليمين بين الحربين: الاستبداد والفساد المطلقين. كل شيء “مؤمم” بمعنى كل شيء بيد هذه المافيات بصورة تجعلها من جنس الطفيليات التي تمتص دم الجماعة باسم هذا كيان مصاص للدماء يستبد بل الأنظمة من التي يمكن أن يستمدوا منها ربحا فلا يبق للجماعة شيء تملكه بل كلها تتحول إلى عبيد يعملون مقابل الحد الأدنى من العيش. ولهذه الظاهرة أمثولة قرآنية لكنها جاءت بعكس حقيقة نظريتها في التوراة. إنها قصة يوسف. فهي في القرآن النقيض التام لما هي عليه في التوراة. ففي القرآن يمثل يوسف نموذج يتطابق فيه ما يحلم به البشر وما يتحقق في حياتهم الفعلية بفضل قصة يوسف في تأويل الأحلام وتحقيقها كنائب للحاكم. ولما كنت أتوقع أن القليل من القراء اطلع على قصة يوسف في التوراة فإني أنصحهم بقراءتها وأعلمهم من الآن أنه يكفي قلب كل ما في قصة يوسف في القرآن من الخير إلى نقيضه من الشر. فأولا القصة تتعلق بوجود البشر أفرادا وجماعات ومحركات وجودها الخمسة ودوافعه: الحب والاقتصاد والعلم والحكم والدين. والحب بمعنييه العام وبين الجنسين والاقتصاد بمعنييه المنزلي والسياسي والسياسة بمعنييها الإدارة والسلطة والدين بمعنيين في ضمير الافراد وفي حياة الجماعة. وكل هذه المعاني العشرة تجري في مستويين: كأحلام وكحقائق تاريخية وهي درس موجه خصيصا للرسول الخاتم كاستراتيجية تربية وحكم. فهي تبدأ بمخاطبته شخصيا وتنتهي بالحكمة الأعظم التي توجه إلى كل الرسل والمصلحين {حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فننجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين} وصفا لمعاناتهم ولجزاء صبرهم في غاية اجتهادهم وجهادهم. وما يعنينا ليس القصة القرآنية بل عكسها التوراتي: فتأويل حلمي حاكم مصر فيها لم يؤد إلى التوقع الاقتصادي من أجل العدل الاجتماعي بل العكس تماما. فنصيحة يوسف في التوراة تمثلت في دعوة فرعون إلى خزن حصاد السبع السمان واستعمالها في السبع العجاف للاستحواذ على أرض المصرين وجعلهم أقنانا. ففي السنوات العجاف جاع المصريون الذين لم يكونوا دارين بقدومها فلم تستعدوا لها فكان فرعون يعطيهم الغذاء مقابل الارض التي يملكونها وبذلك انتقلوا من جماعة الأحرار إلى جماعة العبيد لأن مصدر الثروة في مصر حينها كان خاصة زراعيا فأصبح فرعون من جنس الانظمة التي تملك كل البلاد والعباد. وقد يتوهم البعض أن ذلك لا يصح إلا على بلاد البترول. وهذا كذب لأن ما في البلاد غير البترولية أدهى وأمر. فلما كانوا لا يجدون ثروة طبيعية يستبدون بها كما في بلاد الخليج فهو يستبدون بكل شيء ويكفي أن ترى ما يجري بوضوح في الانظمة العسكرية العربية أو في بلاد “الحرس الثوري” وحزب الشيطان. كلهم يطبقون نصائح يوسف التوراتي التي هي نقيض نصائح يوسف القرآني. لكن ينبغي للمسلم ألا يفرح كثيرا بهذه المقابلة بين اليوسفين. فالمقابلة هنا بينهما في النصين وليس في الواقعين. فما حصل بسبب توهم الاستعمال المباشر للقرآن هو أن فقهاء سمعوا يوسف التوراتي وليس يوسف القرآني. والأمر لا يحتاج لطويل شرح بالنسبة إلى التشيع لأن المواطن الشيعي دمه ممصوص من السلطتين السياسية والدينية وذلك جزء صريح من العقيدة. عند السنة الأمر أكثر تعقيدا. ففي الاقوال ما يزال للجماعة كل الحقوق وليس للدولة ولا لرجال الدين أدنى سلطان على أملاكهم وحرياتهم. لكن الافعال غير. فمنذ أن أفتوا بشرعية المتغلب صار كل شيء ملكا له في الأفعال وليس في الأقوال يفتك الاملاك ويقطع من يريد لأنه ظل الله في الأرض ثم ينسبون إلى النبي ما لا يمكن أن يكون صحيحا من دون أن نرمي القرآن في المهملات: ولو كان حبشيا أسود ولو أخذ ملكك واستعبدك إلخ…اي رؤية يوسف التوراتي. أما المشاع من الملكية أي الأرض وثرواتها والمقدسات ومردوداتها والتي من المفروض أن تكون ملكا للجماعة وليس للحكام فهي مستباحة للحاكم وذوي الجاه من عملائه وطباليه بحيث يصل الامر بالمواطنين إلى عدم وجود موطئ قدم للعيش فيه أو للسكن فيه فيكون من جنس “ابن السبيل”. ومرة أخرى أعود إلى ضرر الاستعمال المباشر لنص القرآن دون فرضيات قراءة تجعل تبين حقيقته كما يقول هو عن نفسه غير موجود في آيات نصه (بمعنى جمل القرآن) بل في آياته التي يرينها في الآفاق والانفس والتي علينا معرفتها لتبين حقيقته. ولما كان ذلك لم يطبق قرئ القرآن بـ”ويل للمصلين”. في الفصل السابق قدمت مثال الملكية فهم الفقهاء للفرائض وغياب الاهتمام بعلاقتها بصلة الرحم خلقيا وبالطابع الكسري اقتصاديا فأفسدوا العدل في توزيعها والفاعلية في شروط نمائها فكانت النتيجة الفقر والاقتتال الاسري حول القضاء على أصل كل ثروة أي توحيدها وتراكمها لا تفتيتها وإنهاء صلة الرحم. المثال الذي سآخذه الآن هو الأخطر على الإطلاق لأنه هو الذي قضى على مفهوم الشريعة وجعله وكأنه مطلق التعارض مع كل إمكانية للإبقاء عليه في تنظيم حماية الملكية والأعراض والحقوق في أي تصور للدولة الحديثة. وسأكتفي بنفس المجال: الملكية والنصان اللذان يتعلقان بحمايتها من السرقة والحرابه. فأولا هذان النصان-بخلاف الرجم-موجودان في القرآن واستعمالهما المباشر هو المشكل وليس وجودهما تماما كالحال في قضية الفرائض وفي كل ما يؤخذ من القرآن مباشرة من دون الشروط التي يضعها في استراتيجية فهمه وفي استراتيجية رؤيته للتربية والحكم وعلاقة الدنيا بالآخرة أو التعمير بالاستخلاف. ولما كان النص الأشد هو ما ظنوه حكم الحرابة فإني سأقتصر عليه رغم أن ما ظنوه حكم السرقة لا يقل عنها شدة. فكلاهما في القرآن أشد حتى من حكم قتل النفس. وكان هذا وحده كافيا لعدم اعتبارهم حكمين لما ظنوهما حكمين له. وسبق أن بينت أن القرآن لا يشرع للنوازل وإنما يشرع للتشريع للنوازل. ظن الفقهاء أن الأحكام تؤخذ مباشرة من القرآن لأنها نصوص ومن ثم فهي غنية عن التأويل. ولأعلم الناس جميعا أن القرآن كله في ما أمر بالبحث فيه غني عن التأويل وهو ينهى عن التأويل في المتشابه ومن ثم فليس الكلام هنا على التأويل وعدمه. أنا على رأي ابن تيمية لا أقبل التأويل في الغيبيات. أما الفرضيات العلمية الضرورية للقراءة في الشاهديات فهي ليست تأويلا بل هي استراتيجية قراءة لا يمكن من دونها الانطلاق في التحليل. والدليل في مثالنا المتعلق بالحرابة هو الاحتراز النصي في القرآن الوارد في الحكم نفسه: توبة المحترب قبل أن تقدر الدولة عليه. كل المشكل في الاستعمال المباشر للنصوص في الفقه يتضح بفضل هذا الاحتراز. فهم يتصورون الأحكام تتعلق بمن يعتبرونه الجاني في السرقة أو في الحرابة. واعترف أن أول من نبهي إلى هذه القضية بالإضافة إلى احتراز الآية هو كلام ابن خلدون عن الحرابة وموقف الفاروق من القطع. يأخذون الأحكام في علاقة بالجاني المباشر -السارق والمحترب -وينسون وظيفتي الدولة أي الحماية والرعاية. فالفاروق لم ينس هذين الوظيفتين في المجاعة وفي رده على والي مصر. ففي الحالة الاولى عطل الحكم تماما (المجاعة) وفي الحالة الثانية حمل الوالي جناية السرق ولم يحملها للجائع. وآية الحرابة اشارت إلى قدرة الدولة على معاقبة المحاربين. وابن خلدون لمح دون أن يصرح أن الاحتراب علته إما تخاذل الدولة أو حتى مشاركة أصحابها. بلغتنا الحديثة فالتهريب أكثر من الحرابة هو غير ممكن من دون غض الطرف الرسمي وغالبا ما يكون بسبب المشاركة فيه والحصة منه. فلو قرأت الان حكم الحرابة وفهمت “من قبل أن تقدروا عليه” وطبقتها بإطلاقها بمعنى لو كان المحترب يعلم ان الدولة ستقدر عليه لأنها قائمة بوظائف الحماية كما ينبغي هل كان يحترب؟ وهل لو كانت الدولة قائمة بوظيفة الرعاية هل يحتاج من ليس سارقا بامتهان بل بالجوع يسرق؟ والأخطر آت. فمن يسرق بامتهان لا يمكن أن يفعل من دون حماية تجعله لا يخشى العقاب. ولذلك فغالب السراق بامتهان هم الوجهاء والمشاركون في الحكم ومثالهم الأوضح هم المهربون في الاتجاهين وخاصة مهربو المخدرات والمسكرات وتجار الجنس في بلاد العرب. وكل هؤلاء معفون من العقاب. الاحكام التي توجد في القرآن لا تتعلق بالمجرم الظاهر بل بما يجعل الإجرام يكون ممكنا وخاصة بجنسي وظائف الدولة. فمن دون الرعاية التي وصفنا ومن دون الحماية التي حللنا ليس للأحكام معنى لأنها بحد ذاتها لن تردع الجائع ولن تردع الذي فوق القانون. هي تتعلق بفاعلية القانون أو بشروط ردعه. لو كان الله وضع الشرائع لردع الضعفاء دون سواهم لكان أظلم الظالمين وليس أعدل العادلين كما هو حقا. لا معنى للأحكام التي تؤخذ مباشرة من النص وكأنها أحكام على ظاهر الجريمة وليس روادع لما يجعلها ممكنة. لكن الفقهاء أبقوا على ما يجعلها ممكنة. فالجريمة هي وجود العلة وليس المعلول.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي