الدنيا أو معنى مطية الآخرة – الفصل الرابع

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله الدنيا أو معنى مطية الآخرة

من تعودوا على المقابلة بين الفكرين الديني والفلسفي بدعوى أن الأول نقلي ونصي والثاني عقلي وواقعي لن يستطيعوا متابعة هذه المحاولات لأنها تبدو لهم خلطا بين جزيرتين لا يصل بينهما سبب لان الحواجز الأيديولوجية بين كاريكاتوري التأصيل والتحديث تحول دون أي وصل. وإذا حدث فأقدم البعض على الوصل كان من أسخف ما يقع وخاصة إذا كان من جنس ما يسمى بالإعجاز العلمي الذي يشوه العلم والقرآن في آن. ما بيناه قبل هذه المحاولة يثبت أن القصد ليس الوصل بين مجالين مفصولين المقابلة بين العقلي والنقلي ليس لها أدنى معنى: فكل معرفة لها الوجهان. لا توجد معرفة مضمونها ليس نقليا ولا توجد معرفة شكلها ليس عقليا وعندما نغوص في حقيقة المعرفتين الدينية والفلسفية نكتشف أنهما تتجاوزان هذه المقابلة بإطلاق لأن النقلي والعقلي فيهما واحد وهو التخلص من الذاتي المقصور على النفسي وهو الكلي الذي ينتسب إلى الواحد في وجهي المعرفة. والواحد في وجهي المعرفة -أو الكلي-هو الإيمان بأن الإنسان لما يطلب الحقيقة فهو يسلم بوجودها وبأنها متعالية على إدراكه النفسي فيعتقد في آن أن له إدراكا يتجاوز شخصه النفسي إلى ذات كونية تدرك موضوعا كونيا هو الممكن له من الحقيقة سواء سماها فلسفية أو دينية فكلتاهما ليست محسوسة. وحتى يفهم كلامي هذا فليعلم القارئ أني أقصره على الإسلام الذي هو كما بينت سابقا الديني في كل دين وليست دينا من الأديان وهو ما بعد الديني الناقدي لتحريفات الأديان الاخرى وهو يرفض الاعجاز الخارق للعادة بل هو يعتبر المعجزة الوحيدة هي النظام في الطبيعة والتاريخ ويحرم الخوض في الغيب. ولذلك فالإسلام نفسه هو الذي يتجاوز المقابلة السطحية بين النقل والعقل لأنه يعتبر تبين حقيقته لا تكون من نصه كنقل بل من آياته في الآفاق والأنفس ومن ثم كإدراك عقلي يتعالى على المحسوس وعلى توهم طبيعته مادية كانت أو روحية لأن طبيعته غيب لا يحيط به إلا الله: ندرك ما يتجاوز النفسي. وما يتجاوز النفسي البعض يتصوره كيانا ماديا والبعض يتصوره كيانا روحيا لكن كلا التصورين ليس لنا عليهما أدنى دليل بدليل أن كل مادة نتصورها نهائية نتكشف أن التمدد فيها نسبي إلى درجة علمنا بها وبمجرد أن يتقدم علمنا نكتشف أن تمددها يتهاشش إلى حد التضاؤل فلا يبقى فيها إلا ما يشبه الفكرة. لكأن الكثافة المادية التي نتوهمها في الموجودات هي من جنس النسيج المناسب لمداركنا العادية وهي في ذاتها أو خارج مداركنا لا ندري ما هي بل إن نسيجها يتلاطف بالتدريج حتى لا يكاد يبقى فيه شيء مما نسميه مادة فلا تكون المادة إلى ما تحتاج إليه حواسنا بوصفها تواصلا إدراكيا مع الوجود. وقد أجازف فأقول إن ما في الوجود كله آيات أو رموز تتكايف وتتلاطف بحسب نوع الإدراك فتكون بالنسبة إلى حواسنا وكأنها مواد كثيفة ولكنها تتلاطف إلى حد تحول المادي إلى الطاقي والطاقي إلى المادي وكلاهما يمكن ألا يكون إلا مجرد آيات أو رموز أو كلمات وكلها تسميات قرآنية للمخلوقات. وهذا ما بدأنا نلحظه في كلامنا على الرمزين: عدنا بهما إلى ما به يفعلان. فالعملة تفعل بأمرين بما تضفيه عليها السلطة السياسية من نفاذ وخاصة بعد أن أصبحت العملة ورقية عديمة القيمة الذاتية فيكون الفاعل فيها ليس الورقة بل سلطة النفاذ التي هي سلطة مجردة للدولة وضعتها عملة للتبادل. لكن سلطة النفاذ لا يكفي فيها قرار السياسة إذ لا بد أن يكون للعملة رصيد تمثله يقاس بقوة الاقتصاد الذي ترمز إلى القيم فيه ممثلة العلمة أداة تبادل. صحيح أن الحكومات يمكن أن تطبع أكثر مما يخوله هذا التناسب فيحصل التضخم الذي يفقد العملة قيمتها وقدرتها الشرائية: فيتكاثف الأساس. ثم نتقدم خطوة أخرى فنجد أن الأساس ليس علاقة بين البضائع والخدمات أو دور السوق (عرضا وطلبا) في تحديده بل إن التناسب بين المنتجات بنوعيها والحاجات بنوعيها والقيم بنوعيها كلها ذات صلة بالعمل ومراحل تحول إلى بضاعة أو خدمة هي التي تحدد بالعرض والطلب مقياس القدرة الشرائية للعملة. والعمل المنتج للبضاعة والخدمة ليس ماديا إلا فيما سماه ابن خلدون “نحلة العيش” بالبدائية جنيا أو رعيا لمنتج الطبيعة أو بعض الصناعات البدائية التي تعتمد على العمل اليدوي لكن التقدم الحضاري شيئا فشيئا يتحول إلى عمل الفكر فيه متقدم على اليد وحتى الآلة التي تعوض اليد فيها تتلاطف. فلا يكاد يبقى من العمل بمعناه المادي إلا النزر القليل وقد يحين وقت يصبح فيه الأنسان وكأنه يعمل بـ”كن” يأمر المواد فتطيعه ويأمر الآلات فتعمل بدلا منه والآلات يصنها بفكره خاصة لأنها في الحقيقة نظريات تتحول إلى آلات مثل المجهز والمسابر التي هي نظريات بصرية تصبح أدوات إدراك آلية. وهذا النسيج الفكري والنظري هو في الحقيقة نسيج رمزي المادي فيه مجرد حامل عرضي قد يصبح مقصورا على أداة البث وأداة الالتقاط كما يحصل التواصل الحالي الذي يستعمل الأمواج الكهرومغناطيسية حوامل للتواصل مع المجرات وبين البشر فالعالم المادي العادي من تخلف القائلين “الواقع” غير الافتراضي. هذه المقدمة التي تتعلق بطبيعة ما يتجه إليه الفكر-دينيا كان أو فلسفيا-بوصفه الموضوع الذي يستهدفه النظر بوصفه ذا قيام ذاتي مستقل في وجوده عن الإدراك لا فيما يدرك منه ويعتبر عين الوجود خارج الإدراك هو “شيء” ما لا نعلم طبيعته ما هي حتى وإن غلب على الدين اعتباره روحيا والفلسفة ماديا. وبهذا المعنى أوحد بين الفكرين لأن حكم أي منهما لا يستنده ما يقبل اسم العلم بل هو عقد منطلقه تضخيم دور المحسوسة بداية و”الاستقلالية” عن كل إدراك غاية وهما ما يعرف به الموضوع القائم بذاته خارج فكر الإنسان ومداركه أو الوجود خارج الأذهان أو الوجود في الأعيان دون تحديد دقيق للعينة. فما نسميه عينا لا يمكن أن يتجاوز إدراكه الإشارة إليه كأنية قائمة بالذات لو حاولنا تحديدها مفهوميا لكان ينبغي أن نؤمن بأنه بالوسع قول اللامتناهي من الصفات والأعراض حتى يميز بإطلاق عن عين أخرى فالتحيز في المكان والزمان لا يكفي إلا إذا تصورنا المتحيزين المتخارجين ليس بينهما وصل. فقد يكون بين الأشياء المتحيزة في المكان والزمان ومن ثم المتماعية في المحل من الوصلات ما لا يتناهى من سوائل و شفيف لا يتناهى مستويات الكثافة لامتناهية الصغر بحيث لا ترى ولا تدرك إنسانيا ولكنها تشبه ماء البحر بالنسبة إلى الأسماك فتكون الأحيان سابحة كلها في محل يمسك بوجودها معا. وفي الفيزياء يتكلم العلماء على الأربعة قوى التي سينتظم بها العالم هي قواه الأساسية هي القوة الذرية الضعيفة والقوية والقوة الكهربائية المغنطية وقوة الجاذبية ولا بد لها من حامل هو الاصل وهي فروعه لئلا يكون قيامها في الخلاء وهي توحد نظام العالم الطبيعي دون أن ندري طبيعته ما هي. وكل قوة هي فاعلية في بقية الموجودات ونعتبرها موجودا لتوهمنا دائما أن وراء أي فاعلية شيئا فاعلا ولا نسلم بأن الفاعلية قد تكون فاعلية لا غير وليس وراءها شيء فاعل إذا تخلصنا من قيس العالم على ذواتنا اذ نتخيل أننا “جوهر” وراء افعالنا التي نعتبرها من ظواهره ونتوهم وراءها جوهر يمسك بها. لكننا يمكن أن نكون من جنس مونادات لايبنتز كالمرايا التي تعكس العالم كلها في كيانها شبه الذري دون أن يكون ماديا لأن المونادات عنده روحية وليست مادية. لكن كونها مادية أو روحية يبقى مجرد ترجيح غير مبني إلا ما كوننا لا نستطيع تصور الأعيان إلى أعيانا مادية وتلك علة عسر فهم الدين. ولما كان الامر غير قابل للحسم بصورة علمية يقينية فإني اعتبر الدين والفلسفة أو على الأقل الديني الذي هو جوهر الإسلام لا يميز بينهما بل من يقرآ القرآن ويصدق ما فيه إن كان مؤمنا به لا يمكن أن يحسم في خلافات المتكلمين حول مسألة الصفات ومن ثم فلا حسم ويبقى الأمر وجهين لنفس المعنى. أو هما بصورة أدق درجتان من درجات تخيل الوجود الغيبي وراء ما ندركه من الوجود الشاهد. ولا أعتقد أن الامر يغير شيئا في المعتقدات ولا حتى في النظريات لأنه من المتشابهات التي نهينا عن الخوض فيها في آل عمران 7 والنهي يشمل كل البشر ولا يستثنى منه أدعياء الرسوخ في العلم.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي