لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالدنيا أو معنى مطية الآخرة
لما أرجعت كل ما يوجد في حياة البشر إلى التبادل والتواصل ورمزيهما أعني رمز الفعل أو العملة وفعل الرمز أو الكلمة وركزت خاصة على الرمزين بوصفهما يمكن أن يردا إلى بعدي دين العجل أي مادته (ذهب العجل) وصورته (خوار العجل) لم يكن القصد حصر سلطان الإنسان على الإنسان فيهما. صحيح أن سلطان الإنسان على الإنسان لا يحصل فعليا إلا بهما لكنهما ذوا سلطان بوصفهما رمز ما به يحصل سلطانهما ومن ثم فالسلطان له قاعدة أعمق منهما وهما يمثلان السلطان تمثيل الرمز للمرموز. ولو ذلك لاستحال السلطان الزائف ولكان السلطان حقيقته هي ظاهره الرمزي. وإذن فسلطان الرمزين سلطان عارية أي إنه مستعار مما يرمزان إليه فعليا أو وهميا. وحتى نفهم معنى المستويين كون سلطان الرمز عارية من المرموز وكونه يمكن أن يكون عارية فعلية أو عارية وهمية فلنتصور أحدا تظاهر بالثراء فاستعمل رموزه مثل السيارة والهندام ليوهم ليخادع أحدا بذمة كاذبة. وهذا يكثر في الأعمال وفي السياسة وفي علاقات الرجال بالنساء حيث إن للإيهام برموز القوة تطمئن فتمكن من الخداع اليسير في الأعمال وفي السياسة وخاصة في غزو النساء عند من أزيار النساء وقد يكون الأمر كذلك عند “ازيار” الرجال من النساء. فالرمز ييسر الخداع بسبب العارية والوهم. وقبل الغوص في هذه الإشكالية أريد أن أعتذر لنوعين من المعترضين على هذا النوع من البحث وخاصة على لغة الكلام فيه. فالاعتراض على الفلسفة التي تبحث فيما يبدو عديم الفائدة لمن عقموا الفكر بسبب ارتمائهم في الفائدة المباشرة وهذا يغلب على الثقافة التقليدية التي وصلت إلى تحريم الفلسفة. فطالب الفائدة المباشرة يبقى دائما في المباشر فلا يرى شروطه ويظل حياته وحياة الامة التي له عليها سلطان يستمده من دعواه العلم بالمباشر النهائي أي القفز إلى الآخرة التي تتحول إلى سلطان التخويف هذا النوع من الفكر هو الذي حال دون العلم بقوانين الطبيعة وبسنن التاريخ فجعلنا ذيل الأمم. وهؤلاء رغم خطر ما ترتب على فكرة الفائدة المباشرة معذورون فهم ينتسبون إلى رؤية بدأت تنقرض ولم يعد الاعتراض على التأمل الفلسفي حتى فيما يبدو عديم الفائدة يجد الكثير من الاعتراض بل إني شديد السعادة بما أراه من اهتمام متزايد بالفكر المجرد عامة وعلى رأسه الفلسفة لدى الشباب من الجنسين. لكن ظاهرة أخرى عجيبة بدأت تطغى على الساحة الفكرية وهي الاكتفاء بتصنيف محاولات التفكير الفلسفي بما ينسب لصاحبها من مواقف إيديولوجية أو عقدية قد تكون صحيحة وقد لا تكون دون اعتبار إلى أن ذلك لا يغير من أهمية الفكر بصرف النظر عن موقفه العقدية التي تخصه شخصيا. وحتى يكون هذا الأمر بينا فلأضرب مثالا يخصني: يعاب علي الاهتمام بابن تيمية لعلتين: 1. لموقفهم من ابن تيمية بسبب الحكم عليه من منطلقين علاقته بأعداء الأمة في عصره وعلاقته بما يدعي الانتساب إلى فكره في عصرنا. 2. ولظنهم أني أحاكم الفكر بمعاييرهم هم فألغي مفكرا بسبب عقائده وعقائدي. والعلة الثانية هي أصل العلة الأولى: اي إن موقفهم مني من جنس موقفهم من ابن تيمية. لكن لو كانت أرى المفكرين بهذه العين لما درست هيجل أو ماركس أو هيدجر. فثلاثتهم عقائدهم لا يمكن أن يقبل بها أي مسلم صادق. لكني أميز بين فكرهم ومواقفهم. لا احمل هيدجر نازية هتلر ولا ماركس فاشية ستالين. الظاهرة الجديدة هي إذن تحميلك عقيدة من درست فكرهم ولا يعلنون ذلك بل يبحثون فيما تكتب عما يمكنهم من “لعنك” باسم أمور أخرى تعود في النهاية إلى موقف الشيوخ الذي بدأنا: بعضهم يعتبرك تكتب ما لا يفهم وهي حجة لا ينكرها أحد خاصة والجميع يعلم أم من لا يفهم لا يتهم نفسه بل يتهم الكاتب. فإذا قلت له إن ابن سينا والكل يعلم من هو من حيث الذكاء والعبقرية اعترف أنه قرأ ميتافيزيقا أرسطو عديد المرات ولم يفهم لكنه واظب على قراءته حتى وجد شرحا للفارابي ففهم وحمد الله. لكن كيف تنصح أعشار المثقفين بأن يتواضعوا كما تواضع ابن سينا: سيتهمونك بالادعاء لأنك ليست أرسطو. لا شك أني لست أرسطو واعترف بذلك. لكن الصحيح أيضا أن قصاصا شديد التوسط لا يمكنه أن يدعي أنه يحاكم قدرتي على الترجمة فضلا عن معرفتي بالعربية التي لا يعرف منها إلى الكتابة الصحفية ولا يفهم أكثر منها فيزعم أن ترجمتي لهوسرل غير مفهومة لكأنه يفهم هوسرل حتى يحكم على نقله إلى العربية. أما بعض الشباب الذي يكون فرحا بما تعلم فيريد أن يثبت ذاته بمناقشات شكلية فهؤلاء يمثلون ظاهرة صحية ومبشرة بكل الخير لأن حماسة الشباب وطموحهم وسعيهم لإبراز نبوغهم ليس عيبا لأنه سرعان ما يزول بمجرد تجاوز لذة الاكتشاف الأول الذي يليه التواضع والنظر متعدد الأبعاد. ويوجد موقفان آخران لهما أساس في الممارسات الجارية حاليا بسبب سلطان الصراعات الإيديولوجية وكلتاهما تحولان دون العلاج الفكري لأن الاتهام بهما صار عملة سارية: فإذا قلت الحقيقة لصالح أحد اعتبروك أجيرا عنده وإذا قلت الحقيقة ضد أحد اعتبروك في خدمه خصمة والغلب تهمة الطائفية والإرهاب. والأصل الجامع بين هذه المواقف الأربع هي عدم الإيمان بحرية الفكر لأن كل هؤلاء يعتبرون موقفهم حقيقة مطلقة تسمح لهم بعدم السماح لغيرهم بأن يهتم بما يريد أن يهتم به حتى لو كان جنونا. لم يزل أصحاب هذه المواقف يعتبرون أنفسهم حكما في فكر غيرهم يعيروه ويصنفوه بهواهم دون نقد ذاتي. طبعا سترد الحجة بالعكس: لما ترد عليهم ألست تقف موقفهم. اتركهم يقولون ما يحلو لهم. وهو ما أفعل غالبا لكن أحيانا تفيض الكأس لما تسمع مبتدئا او ربع مثقف يحاكم الفلسفة عامة بمعيار الفائدة (ولا أتحدث عن محاولاتي) أو يحاكمك بمعيار ما يفهم “عقيله”. أعود إذن إلى “ما لا فائدة منه” بلغة “لا تفهم” وأواصل الكلام في سر السلطان الذي يرد إلى الرمزين رمز الفعل او العملة وفعل الرمز أو الكلمة حتى ندرك معنى العارية ويسر تحولهما إلى بعدي دين العجل في كل الحضارات وعلة تحذير الرسالة الخاتمة من هذه الوظيفة التي تستعبد الإنسان. ذلك أن الرمزين لا يمكن الاستغناء عنهما لا في الكلام على الدنيا ولا في الكلام على الأخرى. فحتى الاخرى فيها للرمزين دور شبيه بدورهما في الأخرى. والمثال الأكثر وضوحا هو مفهوم الربا المحرم في الدنيا والذي هو مفهوم شديد الفاعلية في الأخرى لأن الله يربي الحسنات ويقترض القرض الحسن. وما كان ذلك ليكون مفهوما -تحريم الربا في المعاملات الدنيوية وتحليله في المعاملة الاخروية-لو لم يكن سلطان الرمزين من العارية وليس حقيقة ذاتية لهما: فالسلطان ليس لهما بل للفعل الذي يمثلانه. سلطان فعل الرمز أو الكلمة مثلا هو سلطان الحقيقة والكذب اللذين تستمد منهما الكلمة سلطانها. وسلطان العلمة ليس سلطانها بل هو سلطان القيمة الفعلية أو الوهمية للقدرة التبادلية فنميز بين العملة الحقيقية والعملة الزائفة وللزيف درجات هي درجات تضخمها حتى تتحول إلى ورق بلا قيمة مثل الصكوك التي لا رصيد لها. مثلا: نزول جنيه مصر من قيمة 2 دولار إلى 1 من عشرين من قيمة الدولار. ولا يوجد أحد مهما كان غافلا يجهل هذه الأمثلة. ولا يوجد أحد مهما كان فطنا يمكن أن يستغني عن الرمزين وعن دورهما في تمثيل السلطان المادي والسلطان المعنوي ومن ثم لبعدي العجل الذهبي الذي لا يمكن تصور جماعة ليست بنسب متفاوتة خاضعة له خضوعا رمزه هو الإخلاد إلى الأرض. فاللهيث الذي يتكمل عليه القرآن هو لهيث وراء هذين الرمزين بوصفهما أداتي السلطان على ما الإنسان بما يرمزان إليه. وما سعى إليه من حرف الحلول القرآنية تمثل في جعله يزداد سيطرة: ذلك ان علاج اللهيث ليس بنفي ما يدفع أليه بل بالسلطان عليه: لعدم تمييزهم بين الفقر إلى الله والفقر إلى العجل. فمن تصور العلاج متمثلا في نفي الدنيا وينسى أن الإنسان مستعمر في الأرض هو الذي يجعل سلطانها يزداد قوة لأن سلطان الرمزين هو سلطان الدنيا أو سلطان الحاجتين المادية (العملة) والروحية (الكلمة) عندما تصبحان بيد غيرك فتصبح عبدا له بسبب سلطانه على ما له عليك سلطان أي ذاتك المحتاجة. الفقر إلى الله لا يكون صادقا إلا بفضل التحرر من الفقر إلى الدنيا وهذا لا يتم إلا إذا حقق الإنسان شروط الاستعمار في الأرض فيكون الفقر إلى الله علامته أنك استعمرت الأرض ليس باللهيث وراء سلطانها بل بالسلطان عليها الذي يجعلك تستعمرها بقيم الاستخلاف: معنى الدنيا مطية الآخرة.