ه
عقيل الخطيب
تتنزل مسألة العلاقة بين النظر/العمل ضمن التصور اليعربي لمنطق القيم (بما هي معايير/مناظير) وهي بالنسبة له خمسة وليست ثلاثة كما هو رائج ومشاع في التقاليد الفلسفية.
هذه الخماسية القيمية لنا عودة إليها من خلال كتاب آخر سنوليه عنايتنا قريبا ان شاء الله.
فقط نكتفي الآن بتوزيع هذه القيم ومجالاتها.
• الحقيقة في مقابل الخطإ والمجال هنا نظري
• الخير في مقابل الشر والمجال عملي
• الجمال في مقابل القبح والمجال استيطيقي او فني
• الحرية في مقابل الضرورة والمجال هنا جهوي
• الشهود في مقابل الجحود والمجال وجودي
المسألة المعنية هنا، هي العلاقة بين النظر/العمل أي أننا بصدد قيمتي الحقيقة/الخير في مقابل الخطإ /الشر وواضح لذي بصيرة ان وشائج القربى والاتصال غير بعيدة عن بقية القيم وخاصة الأخيرة منها أعني الشهود /الجحود.
مفتتح الكتيب يتعلق بالبحث في الدلالة الحضارية لصلات النظر /العمل من خلال فصلين:
• الأول يثبت فيه أطروحته أولوية النظر على العمل من خلال بيان أن النظر هو شرط الحرية العملية أي العمل عن علم (هنا نلفت نظر القارئ إلى ضرورة تمييزه بين علم العمل وعمل العلم، الأول نظري معرفي والثاني عملي فعلي….. الأول يحيل الى الإجتهاد والثاني إلى الجهاد).
• الثاني يتعلق بمعالجة اشكالية النظر/العمل ضمن افق ومراتب الحضارة الإنسانية.
قلنا إن النظر كمجال قيمي معياري هو غير العمل كمجال قيمي معياري آخر، وهما مجالان يتداخلان ويتخارجان بحسب امكانات وإرادة الكائن الذي هو الانسان، وقلنا ايضا أن المجالات المعيارية ذات وشائج قربى وصلة حتى يكاد الفصل بينها شبه مستحيل. من هنا تاتي صعوبة البحث في هذا الاشكال: العلاقة بين النظر /العمل.
الدكتور يذهب الى أن النظر في علاقته بالعمل له بعد معياري آخر هو البعد الجمالي إذ في توافقهما ينفتح المجال نحو الجمالية (من هنا تفهم كيف أن قمة الحضارة تتآلف فيها القوى الحية من علماء ونخب أخلاقية ونخب فنية وبالعكس، إذ انحطت المجتمعات لتتكالب عليها العطالة العلمية والاجرام الخلقي والقبح الفني).
سيتم العلاج من خلال البحث في صلة هذه الاشكالية النظر/العمل بمتطلبات المرحلة الحالية من تاريخ وواقع لأن الكلام العام في النظر/العمل يجب تجاوزه إلى التعيين أي الحديث انطلاقا من الواقع المعيش.
هذا الواقع يتم تعييره /تقييمه من جهات ثلاث.
• البعد الخلقي حيث يكون الفعل غاية ذاته.
• البعد الصناعي حيث الفعل أداة لغاية أخرى.
• البعد الجمالي حيث يتم الجمع بين البعدين السابقين أي تأثير منتجات العلم وتأثير منتجات العمل.
(بقي بعدان آخران هما مسكوت عنهما ولكنهما بالأهمية لأنهما بمثابة الأسس أو الشروط أعني البعد الجهوي والبعد الوجودي).
ينبه الدكتور إلى أن البعد الصناعي يجب تقديمه على البعد العملي(الخلقي) لأن عيوبه ونقائصه تنعكس سلبا على البعد الأول أعني الخلقي، في حين العكس ليس صحيحا.
كيف ذلك؟
إن ما هو بيّن ومن خلال تجاربنا الحياتية، إن فقدان الحذق الفني، أي الإتقان، يدل على انعدام الضمير وضعف الأخلاق(الغش) سواء أثناء العمل والإنجاز الفعلي، وقد يكون أثناء تعلم العمل والصنعة.
وعكس هذا أي الإتقان والنجاح بمعنى الإقتدار الصناعي، أي الجودة معرفيا لا تدل على الأخلاق إلا نسبيا إذ من الممكن أن يكون ذلك ضمن خطة طويلة المدى للغش والتلاعب كما يفعل بعض رجال السياسة والاقتصاد (وعود وبرامج وتظاهر بالعفة والصدق ثم الانقضاض على الفريسة) لكن في الحقيقة القاعدة العامة أن النجاح الصناعي لن نصل إليه إلا بأخلاق التعلم وهي اجتهاد وجهاد.
ان اجتماع البعد الصناعي مع البعد مع البعد الخلقي يحقق إذا البعد الجمالي بما يعني ان تمام النظر إذا اتحد بتمام العمل، كان تمام الجمال، وبالتالي نستطيع أن نؤكد أن التحضر يبنى عبر الجمال كقيمة هي ملتقى الحقيقة بالخير.
إن العلاقة بين النظر وبين العمل تعني لدى الدكتور العلاقة بين آجل الأفعال وعاجلها.
كيف ذلك؟
إن آجل الافعال توفر افضل الشروط للتحرر من قبضة الأزوف الذي يمنع الروية من ذهابها إلى الغاية(= النظر) ومن ثم دون شرط شروط الفضيلة (=التدبر) إما العكس أي عاجل الأفعال التي تخلو من شروط التحرر، وبالتالي تتضمن الشروط الآزفة وهي مانعة للروية كي تدرك غايتها (= العمل) ومن شرط شروط الفضيلة أعني (العقل المسؤول)، وهكذا يخلص بنا الدكتور إلى العلاقة بين التدبر من جهة والمسؤولية من جهة ثانيةحيث تبرز الحرية كقيمة محورية في خضم هذا المبنى وهذا الطرح.
إن المقاربة اليعربية تنزل العمل على جهتين:
• العمل بمعنى الحذق الفني
• العمل بمعنى الممارسة الخلقية
وهو في كليهما مختلفا عن النظر في مجراه الفعلي حال حصوله أو في مجراه التصوري قبله /بعده توقعا /تذكرا أي أننا كلما فصلنا بين هموم الوقوع الفعلي والحدث التصوري إما توقعا (المستقبل) أو تذكرا (الماضي) كلما كنا في النظر الخالص.
والفضيلة في العمل سواء أكانت ممارسة خلقية أو كفاءة تقنية، هي الوحدة التامة بين الوجه الحدثي والوجه المعنوي من العمل أو لنقل بين ظاهر العمل وباطنه.
بهذا الإعتبار سواء كان العمل إتقانا صناعيا أو سلوكا خلقيا، لا يكون عملا فعليا إلا إذا اتصل بعاجل الأفعال كما أن النظر في مقابل ذلك لا يكون نظرا إلا إذا اتصل بآجل الأفعال فثمة فرق بين التصور النظري لحظة العمل المقبل والعمل الذي هو منذ كونه في حالة ادبار على مستوى الزمن ولذا لتوضيح المسألة بدقة بعيدة عن التجريد لابد من طرحها ضمن البحث في صلات الآجل بالعاجل والعاجل هو الذي يعنيه المثل السائر “العمل لا ينتظر”.
يتمثل جوهر العمل إذا في عاجل الفعل، بينما جوهر النظر في آجله، ولتكون الأمور غير ملتبسة ودقيقة لابد من إيضاحها من خلال وقائع وأمثلة عينية تقربنا من المشكل وتقنعنا بخطورتها على حياتنا الفردية والجماعية.
إن أقرب الأمثلة التي يبرز خلالهما العلاقة المعقدة بين اللآجل والعاجل، أي بين النظر/العمل وكيف أن فساد العلاقة وفساد فهمها هو العقبة الرئيسية التي تحول دوننا والفعالية الحضارية، فنحن كأمة عالة في كل شيء على الذين يسيطرون علينا ويتحكمون في أرضنا وبحرنا وجونا لأنهم ملكوا زمام أمرهم بسلامة العلاقة بين النظر/العمل وسلامة الفهم.
لدينا مشكلان:
- مشكل ترتيب مقومات الفعل السياسي المؤثر
- مشكل ترتيب مقومات الفعل التنموي المؤثر
واضح انه بالنسبة للاول ان حال الامة ومنذ قرون هو طغيان العاجل، لذا يغيب الوعي بالمبادئ التي ينبني عليها ترتيب الاولويات في المجال السياسي الجدي.
لقد فهمت اوروبا ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية ان وجودها الحقيقي والمؤثر تهدده القطرية/القومية فعملت على التخطيط المسبق والمرن لتجاوز هذا التحدي وبدأت بتوحيد السوق ثم نجحت في توحيد السياسة رغم انها ككيانات سياسية تشقها عداوات تاريخية ودينية ولغوية ومناطقية ولكنها تجاوزت كل ذلك بإصرار وروية.
في مقابل هذه التجربة نجد وضعنا البائس فنحن من المحيط إلى الخليج لا تفرقنا إلا سايس/ بيكو.
هذا لجهة المشكل الأول، أما لجهة المشكل الثاني والمتعلق بمقومات الفعل التنموي الحقيقي والمؤثر، فيكاد البؤس السابق ينطبق عليه.
إنه مشكل طغيان العاجل من ضرورات العيش اليومي والدفاع بشراء وتكديس أسلحة لمجابهة عدو هو الصهيونية ومن مفارقات الدنيا، الذي زرع ويحمي هذا الكيان الغاصب هو نفسه من يصدر إلينا خردته وبأغلى الأثمان هذا العاجل هو الذي يحول دون التنمية الفعلية وخضوعنا له جعل الأمة مهيمن عليها في كل شئ رغم ان الاستئناف الحضاري والفعالية المنتجة كونيا يشترطان نوعين من السيادة على العلم النظري وتطبيقاته والعلم العملي وتطبيقاته، وهذه السيادة تستوجب شروطا هي التي استوعبها الغرب وانجزها بخطة استراتيجية محكمة.
إن مبحث النظر/العمل ليس مبحثا من الترف الفكري ولا هو بحث في الأمنيات بل هو من الخطورة بمكان على المستوى الفردي /الجمعي بحيث أن أي تأخير فيه أو سوء للطرح يمثل تهديدا لنا.
إنها قضية وجود.
فرضية العمل التي يبرزها هذا الكتيب هي الآتية:
• المجرى العاجل هو المميز الجوهري للعمل فجوهر العمل يتحقق بحصوله الفعلي لكون الآجل غير حاصل بعد هنا والآن فالآجل من الاعمال ليس فعلا الا من جهة ممكنة التصور توقعا او تذكرا وهذا معناه ان حصوله هو في المستوى النفسي /الذهني.
• المجرى الآجل هو المميز الجوهري للنظر فجوهر النظر يتحقق عندما يكون غير حاصل هنا/الآن علما وان بعض النظر قد يكون عاجلا هنا نميز في النظر بين الآجل البعيد أي التفكير الإستراتيجي والآجل جد قريب السابق، قليلا الصحبة في الإنجاز.
انطلاقا من هذه الفرضية، يعالج الدكتور النهضة العربية التي يراد استئنافها، ولكن علاجه كلي بمعنى أن هذه اللحظة هي مجرد عينة وما ينتهي اليه ينطبق على العلاقة النظر/العمل بصفة عامة وكلية.
يصل بنا تحليله الى المثالين العينيين ليكون قوله مفهوما لمن تتعبه مجرد الخطاب وعمق المفاهيم.
• المثال الأول التوضيحي للعلاقة بين الآجل/العاجل أو النظر/العمل هوالممارسة العسكرية
• أما المثال الثاني في ذات العلاقة هو الممارسة الاقتصادية
ان الحرب كواقع فعلي، لا تنتظر.
هي معاشة لمن يحضرها وعليه التصرف وليس مهما لماذا، ومن المعتدي، او لن تخرج منها كأزمة وجود بالدعاء وما شابه.
إن الامم الحية هي التي تعيش استعدادا كاملا للحرب فتحقيق السلام والأمن الجماعي شرطه الاستعداد الشبه دائم للحروب ومنطقها بالاستعلامات والمخابرات والصناعة الحربية وتحقيق الاكتفاء الذاتي معرفة وتقنية ووضع الخطط طويلة المدى وقصيرته من اجل تفادي لحظة الحرب حتى إذا وقعت خرجت الامة بأخف الأضرار بل ان هذا الاستعداد المعلن والخفي يرهب الاعداء فلا يهجمون وان فعلوها فلغباءهم نعم السلام شرطه الاستعداد للحرب بمعنى آخر ان الآجل (الاستعداد) هو في خدمة العاجل (الحرب إن وقعت).
نفس الامر في الممارسة الاقتصادية، فنحن إزاء صراع لطيف وخفي بين كبرى المؤسسات والفاعلين الاقتصاديين هنا كما هناك العمل لا ينتظر، فالتعامل مع الاسواق اي كانت طبيعتها (نقدية.مالية.بضاعة. خدمات) يبيّن لنا هذا التعامل ان الآجل فيه هو استعداد مستمر للعاجل عندما يحين أوانه، لذا لابد من إدارة عقلانية اقتصادية تستعد لتقلبات السوق تجمع المعلومات وتدرس الاحتمالات الممكنة وتضع السيناريوهات لأسوء الاحتمالات كي يكون الصمود والنجاح في تخطي الأزمات.
يصل بنا الدكتور من خلال هذين المثالين الى ان العلاقة بين الآجل/العاجل التي تبدو في الظاهر علاقة زمانية ساذجة وعرضية هي في الحقيقة علاقة بين مفهومين عقليين اساسيين لا يمكن من دونهما فهم ميكانزمات الجدل بين النظر/العمل في الشأن الإنساني.
في الآجل/العاجل تتكثف العلاقة الزمانية لتصبح بفعل الوعي بالروابط المنطقية والأسباب المادية للأحداث علاقة جوهرية لفعلين من أفعال العقل هما النظر الذي لا يكون الا آجلا والعمل الذي لا يكون إلا عاجلا.
ويمكن تخليص التوتر بينهما أن حصل في الأمم ذات الفاعلية التاريخية عند تحقق الحرية كقيمة هي عنوان الوحدة الجامعة للعلاقة السوية العمل بالنظر.
ان الحرية هي التمكن من جعل الآجل في الحدوث الفعلي المقبل(المستقبل) عاجلا في البحث النظري التوقعي الحاضر وذلك من أجل التحقيق الفعلي المستقبلي، وبهذا المعنى، يجعل العاجل في الحدوث الفعلي آجلا يستمد من الرصيد النظري الماضي (الخبرة) للتحقق العملي، وفي هذه الحالة يصبح حاضر العمل خاضعا لمنطق العاجل مستندا الى ماضي النظر كاستعداد وتأهب.
وكذلك مستقبل العمل هو حاضر النظر فالنظر هنا عمل مؤجل أي تفكير أشبه بسيناريوهات عمل ونماذج نظرية.
إن آلية المجتمعات الحديثة في الشعوب الحية هي التي تستقدم الأحداث وقد تستأخره فهي مجتمعات تعيش في الحاضر هنا والآن الذي كان في وقت قريب مستقبل نظر وهي بهذا تقلص عناصر المفاجاءة لكونها استعداد دائم وهذا هو معنى الآية {واعدوا لهم ما استطعتم من قوة …. الآية} او الآية {ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم … الآية} نعم قدر الله هو ارادة الأمم.
هكذا تفهم الحرية في الرؤية اليعربية باعتبارها وحدة النظر/العمل او الحرية باعتبارها شرط العمل.
من المنظور القرآني في فهم ابي يعرب، الانسان لا يستطيع استقدام /استئخار ما يتجاوز طوقه اما في حدود الممكن الانساني وهو ممكن يتطور ويتسع مداه كلما كان هناك فعل نظر اي اجتهاد ومن هنا تفهم الخلافة نظريها وعمليها كأمانة وبالتالي كمسؤولية.
انتهى الفصل الاول من المقالة الاولى