(الفصل الاول)
لم أنتظر رئيس الجمهورية ورفيقه اللذين ينويان القيام بثورة عالمية لكي أتكلم على فساد الدستور الحالي.
وأنوي تقديم البديل منه لبناء نظام ديموقراطي فعلي
لا يهدف للتغطية على ديكتاتورية
▪︎ شيوعية
▪︎ أو شعبوية.
وقد سبق فعبرت عن احترازي الشديد عديد المرات
▪︎ خلال كتابته
▪︎ وبعدها.
وكان ذلك في شكل مقالات ومحاضرات في تونس وخارجها.
وأنهيتها بما علقت به على كلمات التمجيد
التي وردت من أفواه المشرفين عليه
يوم احتلفوا به مباهين في الذكرى الخامسة لختمه.
وأريد أولا أن أبين أن ما يدعو إليه الرئيس ورفيقه
لا يختلف عما سيؤول إليه الأمر حتى بهذا الدستور
خاصة إذا تحول إلى رئاسي.
والمعلوم ألا أحد منهما
▪︎ بالرأس المفكرة
▪︎ ولا بالإرادة المدبرة
بل كلاهما مأمور
مكتفيا بمضغ خرافتين
▪︎ ظاهرهما ماركسي محدث
▪︎ وباطنهما باطني معتق.
لذلك فما سينتج عما يبشران به
لا يختلف إلا بالكم التفتيتي
مع المحافظة على نفس الكيف السياسي
إن تحقق
ولا يختلف عما سينتج عن الدستور الحالي
إذا تواصل.
فنفس الضرر سيتواصل
حتى لو لم يستطع الذيلان قلب النظام
بالصورة التي يدعوان إليها
ويجدان في تكوين التنسيقيات لتحقيقها بالشارع
إن عجزوا دونها بالطرق الدستورية.
وقد يكون فهمهما ذلك
من علل رفض إمضاء “الرئيس” مشروع القانون
الذي حدد عتبة للدخول إلى مجلس النواب
بحجة تثبت
أنه جاهل بالقانون عامة
ناهيك عن الدستوري
بخلاف ما يزعمون.
فهذه العتبة على ضعفها
3 في المائة في حين
أنها في ألمانيا 5 في المائة
وفي تركيا 10 في المائة
قد تحد من التفتيت.
وهما يحتاجان إليه
لأنه يمكن من تغول سلطة النظام الرئاسوي
الذي ينويان فرضه ليكون نائب الملالي مطلق اليد
في دور الدمية الإيرانية
خاصة وقد أصبح له “افضل” مستشار
في شخص السفير الإيراني الجديد.
فالابقاء على نظام الانتخابات الحالي
كاف ليحقق الغاية الكيفية من التفتيت
حتى لو غابت الغاية الكمية مما يطلبانه.
فبما يقتضيه من تفتيت القوى السياسية
حتى بالتمثيل الحالي
سيكون كافيا لسد حاجتهما
فيؤسس لنظام رئاسي ذي حزب واحد
تتبعه الحزيبات التي
يحول تفتيتها والمشاركة الفعلية في إدارة شؤون البلاد
بالمنطق الديموقراطي.
وهذا من أفضل الأنظمة
التي تجعل الديموقرطية الشعبوية يقتصر دورها
على تمثيل
▪︎ واجهة المافيات والتدخلات
التي تفقد الوطن سيادته والشعب حرياته خارجيا
▪︎ وكذلك واجهة الدكتاتورية
التي من جنس دكتاتورية المافيات بشكليها
▪︎ الثيوقراطي كما في حالة الملالي
▪︎ أو المخابراتي كما في حالة روسيا
مع نظام يبدو ديمقراطيا
لا يتجاوز دوره الخدمات الدنيا
لخداع الداخل والخارج
كالحال في إيران وروسيا حاليا.
وسأبدأ بالتذكير بالمحددات
التي جعلت الدستور الحالي يخرج بالشكل
الذي ليس له مثيل
حتى في أكثر بلاد العالم
▪︎ تقدمية
▪︎ وحداثة
▪︎ وديموقراطية.
فهو أشبه بمغازة عامة
تجد فيه من “كل لون يا كريمة”.
فقد صيغ بصورة جعلته يحسم في كل الإشكالات
التي ما تزال أعتق الديموقراطيات تبحث لها عن حلول.
لكنها حلت في تونس في لمح البصر في ما يتعلق
▪︎ بحضانة الدولة
▪︎ وبتدخلها في الحريات الفردية والجماعية والكونية
▪︎ وحتى الميتافيزيقة .
▪︎ وفي العلاقات الدولية
▪︎ والمسائل الدينية والفلسفية
التي ما يزال الفكر الإنساني يتحسس طريقة
لفهم تشاجناتها.
لكن “تبارك الله” عباقرة الدستوريين التوانسة
حلوها حلا حاسما ونهائيا.
والسؤال هو:
ما الذي جعل مثل ذلك يحصل في بلد عاجز
عن تحقيق الشروط الدنيا لقيام شعبه المادي والروحي
فضلا عن جهله بهذه الحاجيات ؟
اعتقد أن ذلك يعود إلى عناصر
تنتسب كلها إلى العقلية واحدة
عند من لهم وجه شبه مع الملالي.
أعني حكم “فرقة دينية”
▪︎ تخلط بين الفكر الفلسفي والحيل الفقهية
▪︎ وتتصور الديموقراطية
قابلة الخضوع لوصاية مرشد سلطته فوق إرادة الشعب.
وهذا يتنافى مع من قام بثورة حرية وكرامة
ليصبح شعبا يريد
▪︎ حرية الإرادة
▪︎ ووعي العقل
▪︎ وقدرة الإنجاز
▪︎ وذوق الحياة
▪︎ ورؤية الوجود
التي تعبر عن كون الإنسان
“رئيسا بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له ”
بعبارة ابن خلدون.
ومن ثم فالاصل لهذه النكبة في تاريخ نهضتنا هو
1-بنيوي متعلق بالجهل بكون الدستور
كما سيأتي بيانه في الفصل الثاني من هذه المحاولة
أداة عمل تحدده الغايات
مما ينتظر شعبا من الشعوب من المهام التي تقتضيها :
▪︎ شروط قيامه المادي والروحي
▪︎ وشروط إمكانها
في ضوء القدرتين المادية والروحية للجماعة
▪︎ إذا ربيت على كونها هي مصدر السلطة الوحيد
‘ابن خلدون فصل علم الكلام’.
▪︎ وذلك في المنظور من تاريخها
بما ورثه الشعب عن ماضيه.
▪︎ وما يتوقعه لمستقبله
▪︎ بمقتضى إمكاناته في الحاضر
▪︎ وقابليتها للتطور المقدور عليه
▪︎ وليس تعبيرا عن الرغبات الصبيانية
لمتعلمي الحجامة في رؤوس اليتامى.
2- وظرفي وهو ما ترتب على البنيوي
مما نشهده حاليا من أزمات علتها الأساسية
تبعات هذا الخطأ الجسيم في جهاز التعبير عن إرادة الجماعة في العناصر الأربعة التالية:
▪︎ 1 ▪︎ التسرع في تكوين المجلس التأسيسي
بنظام انتخابات فرض
▪︎ على الأحزاب عامة
▪︎ وعلى الأحزاب الثلاثة التي ربحت الانتخابات خاصة
أن تكون قائمات
▪︎ بمجرد ظرفية الحاجة إلى ملء الفراغ
▪︎ وليس بمناضلين من قاعدة فعلية لهذه الأحزاب
وخاصة في الحزبين اللذين شاركا مع النهضة.
ولا أستثني النهضة
حتى وإن كانت أقل حاجة لهذا الداعي
بسبب اتساع قاعدتها.
لكن
▪︎ قضية المناصفة
▪︎ وقضية “تعويض” المناضلين
دون اعتبار الكفاءة والخبرة جعل الاختيار
من أفسد ما يمكن أن يكون بسبب
▪︎ العجلة
▪︎ وعدم الوعي بثقل المهمة.
والمعلوم أن جل النكبات
وخاصة نكبة السياحة النيابية
وسوق نخاسة النواب
علتها الأساسية جاءت من نواب هذين الحزبين
وخاصة من نواب حزب المزروقي وفتاته اللاحق
ثم تلتها تفتتات الأحزاب
▪︎ وخاصة حزب الشابي
▪︎ وحزب السبسي
▪︎ وقبلهما حزب التجمع الذي
اخترقت قاعدته كل الأحزاب بما فيها النهضة.
ولن يتوقف التفتيت.
▪︎ 2 ▪︎ المزايدات اليساروية والقومية والليبرالية
ويجمعها خرافات الحداثوية والتنويرية
والحرب على الظلامية المزعومة
من أميي اليسار والقوميين
من خدم ابن علي ونظامه البوليسي
والشعبوية
جعل ما نصب من أفخاخ وتوريط للثالوث “الحاكم”
يصبح مدعاة لتضمين الدستور
كل ما لا يخطر على بال بشر من الحمق والغباء
والجمع بين المتناقضات
وإلزام الدولة بالمستحيلات المائة
التي لم تلتزم بها دولة في العالم
حتى ما كان منها بثراء ألمانيا أو اليابان أو حتى أمريكا.
▪︎ 3 ▪︎ فرض “قيادة” النهضة
أن يكون المشرف على كتابة الدستور من القبيلة
حتى لو كان عديم الخبرة
تسليما بأنه كما يعتقدون عبقرية في القانون العام
وهو أمر يعلم من له أدنى دراية بالقانون
فضلا عن نوعه العام
أنه أبعد ما يكون عن ذلك
وأن ما أوصله لهذه المسؤولية ليس الكفاءة ولا العبقرية
بل هو القرابة القبلية والجهوية لا غير
يعني تقريبا مثل ما حصل في الكثير من الوزارات
وخاصة في أخطرها أعني وزارة الدبلوماسية.
وداهية الدواهي توهم تونس قد صارت بريطانيا
يمكن أن تحكم بنظام برلماني بأعضاء
من جنس القصاص وبن تومية
وأمثالهما كثير في كل الأحزاب التي احتلت مقاعد
“مجلس الهانة ورقود الجبانة”.
▪︎ 4▪︎ وأخيرا فترضية التدخلات الأجنبية الخلفية
مع الاحتماء
▪︎ بخرافات من علم الكلام
▪︎ والأفكار الفقهية المتخلفة
في تصدير الدستور مثلا
جعلت منه ما يشبه الكوكتال مولوتوف
لجمعهما بين كل المتناقضات
بحلول لفظية زادت الطين بلة.
فكلما طرح مشكل سيضطر
▪︎ القضاء العادي
▪︎ أو القضاء الدستوري
لتأويل النصوص
وسيتعذر عليه الوصول إلى حل يقبله العقل
دون الوقوع في ما لا يكفي لحسمه الحل اللفظي
كما حصل مثلا في مسألة الاعتماد على الفصل
▪︎ الأول
▪︎ أو الثاني
لعلاج مقترح السبسي في قضية الميراث.
وبين أن العقبات حالت دون
▪︎ الاستماع لخطاب العقل
▪︎ والعمل على تحقيق المطلوب من دستور.
فالدستور في حالتنا ينبغي أن يكون أبسط ما يكون
وأن يقتصر على العناصر التي تمكن الانتقال المرن
▪︎ من تاريخ مديد سيطر عليه الاستبداد والفساد
مدة قرون تتجاوز عقود دولة الاستقلال
▪︎ إلى تأسيس ثقافة الديموقراطية
تطلبت في الغرب قرونا لكي تترسخ.
ما يجعل أحكام الديموقراطية مصدرا لشرعية من ينتدبه الشعب للحكم
فيكون أمره مطاعا
▪︎ بمقتضى الشرعية
▪︎ وليس بمقتضى الشوكة.
للتقليل من حاجة الحكم إلى العنف حتى الشرعي
ناهيك عن غيره من الجميع بما فيهم
مراكز القوة
والمافيات
التي لا يخلو منها مجتمع
حتى وإن كانت هي المسيطرة عندنا
على وجه الخصوص.
فالديموقراطية في الغرب مرت على الأقل بخمس مراحل:
1- مرحلتان متقدمتان على الاعلان الرسمي عن ولادتها
في نهاية القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر
في أنجلترا
بعد أن تم الإصلاح الديني في بداية السادس عشر
في ألمانيا
لأن الأنظمة الوسيطة في أوروبا لم يكن الملوك فيها
حتى وإن كان حكمهم بالحق الإلهي
يحكمون وحدهم
بل كان من حولهم من لا يقل عنهم شرعية
وهم نبلاء السيف (الأمراء)
ومعهم نبلاء الجبة (رجال الدين).
وإذن فالملك يحكم بما يشبه مجلس أمراء
يشبهون مؤسسة أهل الحل والعقد
بالمعنى الموجود في الخلافة
رغم كونها كانت قبلية وعسكرية ودينية واقتصادية
في حضارتنا.
2-ثم لما تكونت البرجوازية
التي هي طبقة التجار وأصحاب الأموال السائلة
وشاركوا الملاكين بناتهم وأملاكهم
تكونت تمثيليات للشعب أي ممن
ليسوا من نبلاء السيف
ولا من نبلاء الجبة
تشارك في الحكم
إما مباشرة
أو بما لهم من دور في مالية الدولة
عن طريق دورهم في مالية النبلاء
وشروط ابقائهم على مستوى معيشتهم رغم فقرهم
لان الثروات تغيرت طبيعتها
وخاصة بعد موجة الاستعمار
عن طريق الفتوحات واكتشافات العوالم الجديدة
والاتصال بالشرق الاقصى بعد التغلب على المسلمين
واخراجهم من الدورة الاقتصادية العالمية.
3- مرحلة الثورات الثلاث
التي حصلت في انجلترا ثم في أمريكا وأخيرا في فرنسا
أو مرحلة الثورات البرجوازية
التي أسست للمرحلتين الأخيرتين
اللتين اكتملت فيهما البنية الديموقرطية للحكم
في تاريخ الإنسانية
التي تجاوزت دلالتها اليونانية
المقصورة على من يعتبرون أحرارا
مستثنية من عداهم بوصفهم عبيدا وأدوات
ولا دور سياسي لهم.
4- مرحلة عموم القيم الديمقراطية في أوروبا كلها
ولكن بالاقتصار على من يشارك في تمويل الدولة
أو دور من يدفعون الجباية للدولة
وهي بداية التدرج نحو المرحلة الأخيرة.
5- مرحلة المشاركة الكونية في الانتخابات
لما أصبح الجميع متعلما ومدركا لواجباته وحقوقه
ذكورا
وإناثا
والكل مشارك في خزينة الدولة
إن لم يكن بالجباية فبالعمل المنتج
اقتصاديا كان أو ثقافيا.
وهذه هي المرحلة التي بدأنا نحن بها
فدخلنا الثقافة الديموقرطية بالمقلوب.
وهكذا فنحن أننا نبني في الفضاء
تقليدا لما له اسسه في الغرب
دون أن تتحقق الاسس عندنا.
وهو ما أعنيه بأن “الرئيس ورفيقه”
يواصلان نفس الظاهرة
ولا ياتيان بجديد:
هما يريدان الذهاب إلى الغاية
في نفس الحمق والغباء.
ومثلما بدأت هذه المراحل بأصل هذه النكبات
أعني بالجهل بطبيعة الدستور
فإني اختمها بأصل الاصل
بالجهل بمعنى الديموقراطية
أو أي بمعنى المشاركة في الحكم
فرض عين على كل من يشارك في المواطنة
ليس بمعنى العيش فيه فحسب
بل بمعنى المساهمة في شروط قيامه على علم ووعي.
فالمواطنة ليست مجرد العيش في الوطن
بل هي المساهمة في شروط قيامه بثمرة العمل المشترك
والذي يكون الإنسان مواطنا
بقدر مشاركته في شروط قيامه.
ولو كان مجرد العيش في الوطن هو مقوم المواطنة
لكان على الأطفال أيضا أن ينتخبوا.
ولو لم يكن الشرط هو المساهمة في
الانتاجين الاقتصادي والثقافي
تحققا ورعاية
تمييزا بين الشأن العام والشأن الخاص
لكان كل من يجعل مشاركته
في الحكم أو في أي سلطة
مقصورا على فرصة شخصية
لحلب الدولة أو المؤسسة التي له عليها سلطان
لكان كل الفاسدين والمستبدين مواطنين
وليسوا لصوصا ومجرمين.
لو كان ذلك كذلك لكان
الاتحاد العام التونسي للشغل
واتحاد الاعراف
مؤلفا من وطنيين
لا يخلطون بين نهب الوطن مثلهم
مثل المافيات الأجنبية
التي تسيطر على ثروات الوطن
ولا يعنيهم الوطن ولا مستقبل الاجيال
بحيث صارت البلاد مرتع المافيات واللصوص
من أدنى رتبة في الإدراة والأٍجهزة
إلى أرفعها
حتى صار يمكن لمن ولاؤه للمستعمر
أو حتى لإسرائيل وإيران
من حقه أن يكون رئيس حكومة
أو حتى رئيس دولة
ناهيك عن وزير او مدير
أو خاصة اعلامي ومثقف وفنان.
قد يقال إن ذلك من علامات عصر العولمة.
وقد يكون.
لكنه إلى حد اٍلآن في اتجاه واحد.
إذ لو كان ظاهرة عولمية
لكان مثله يحصل في البلاد المسيطرة على من هم مثلنا.
لم أر نقابات فرنسا مثلا
أو وزراءها أو رؤساء حكومتها أو رؤساء دولتها
ولاؤهم لغير فرنسا
ناهيك عن غيرها ممن هو قوى عالمية
لم تعد فرنسا ولا ثقافتها من جنسها.