لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله
– الفصل الرابع –
توقعت الفصل الثالث كافيا لعلاج الإبستمولوجيا والأكسيولوجيا القرآنيتين. لكنه لم يكف حتى للإبستمولوجيا. لذلك فلا بد من مواصلة الأمرين معا.
وهما في الحقيقة متلازمتان بل إن الأكسيولوجيا متقدمة على الابستمولوجيا في القرآن. وتلك علة كونه ما بعد أخلاق، ولو انعكس الأمر لكان ما بعد طبيعة.
فالله يقضي ويقدر. والقضاء عمل والقدر نظر وهما متلازمان. والأول أكسيولوجي لأنه تنزيل في نظام المنازل الوجودية: يقضي كقاض على علم بالأحكام.
والثاني ابستمولوجي لأنه يقدر الموضع في النظام الذي هو رياضي (التقدير) حتى يتحقق التناسب بين المنازل في نظام الموجودات وما ينزل فيه منها.
وطبعا ليس الفعلان متواليين ولا منفصلين كما في حالة الإنسان، لأن القضاء حكم إرادة مطابقة للقدرة الموجدة والقدر فعل علم مطابق لحياة الموجود.
لكن الصناعة الإنسانية تكون بعلم دونه حياة المصنوع وبإرادة دونها قدرة الصانع فيتوالى فيها الفعلان ويتمايزان ويكون الإيجاد متراخيا وفي زمان.
والتمييز بين الوجهي في الخلق نص قرآني وليست قيسا للغيب على الشاهد. ومعنى ذلك أن مفهوم القضاء والقدر لا ينبغي ان جعلنا نعتبر الخلق صناعة.
فلا يوجد عقل إنساني حتى لو تصورناه قد حاز على قدرات كل عقول البشر من بداية الوجود إلى غايته، لا يمكن أن يحدد منزلة الموجود في نظام الوجود.
ولهذه العلة لا يوجد علم مطلق يحيط بكل شيء إلا ما نؤمن به من علم ننسبه إلى الله وبالقياس إليه يكون علم الإنسان أقرب إلى الجهل منه إلى العلم.
{ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء}. ومن لم يع هذا المعنى لن يفهم القصد بابستمولوجية القرآن وباللاتحديد المطلق لمجريات وجود الإنسان.
والإيمان بالقضاء والقدر هذا هو معناه: الإنسان مسؤول عن كل تصرفاته بشروط الأكسيولوجيا والابستمولوجيا القرآنية، ويعلم أن فعله صناعة وليس خلقا.
لذلك فالحساب لا يتعلق إلا بما في الوسع من الأفعال وبما تنبع عنه من قصود: فعلم الإنسان بمحدودية إرادته وعلمه وقدرته وحياته ووجوده هي عبادته.
ومن ثمّ، فلا تعارض بين الإيمان بالقضاء والقدر وبالحرية والمسؤولية لأن هذه محدودة بالاجتهاد والجهاد الصادقين. فهو مكلف في حدود مستطاعه وقصده.
فلوكان الإنسان ذا إرادة وعلم وقدرة وحياة ووجود مطلقة كلها لكان هو القاضي والمقدر للمنازل في نظام العالم ولما كان في مهب ريح الوجود اللامتناهي.
لذلك فكل المتألهين بالمعنى الخلدوني فيدعون علما أو عملا مطلقين ككل المستبدين في النظر وفي العمل -نخب العرب وحكامهم-يعبرون عن عين الغباء والجهل.
ولا فرق عندي حينها بين الملحد والمتكلم والداعية المتعصب والحاكم المستبد. أي كل من لا يلامس عقله شك في تفاهة ما نعلم بالقياس إلى ما نجهل.
وهذا هو شرط الوعي التراجيدي بالوجود وجوهر العبادة الصادقة التي تحرر الإنسان من الكبرياء المرضية التي تجعله هرا يحاكي انتفاخا صولة الأسد.
الإنسان الذي لا يدرك ما في وجوده من عدم بالقياس إلى الموجود الأتم لا يدرك أن بقاءه بين لحظتين حتى وإن تلامستا معجزة وجودية من الغيب المحجوب.
وهذا الإدراك هو الاستخلاف: يدرك الإنسان أنه خليفة وجوده هو إدراكه بكونه مشدودا بين عالمي الفناء والبقاء التناهي واللاتناهي العدم والوجود.
لا وعي بالذات من دون وعي بهذا المنزلة الوجودية جسرا بين الفناء والبقاء وبين المتناهي واللامتناهي وبين العدم والوجود: العبادة=عدم نسيان ذلك.
والسهو والنسيان والغفلة كلها يعتبرها المؤمن من أفعال ما في الإنسان من عطالة في الوعي بكيانه وفي مهب ريح عاتية لا يحميه منها إلا الإيمان.
والرمز الديني لهذه الحال هو وسواس الشيطان. لكن الرمز الابستيمولوجي هو وهم العلم المطلق والأكسيولوجي هو العلم المطلق: التأله الخلدوني.
وبه يفسر الاستبداد المعرفي والخلقي في الحكم خاصة إذ يكون المستبد فرعونا يتوهم القدرة على كل شيء ومن حوله سحرته(نخبة)يبررون ذلك بعلم زائف.
بدأنا نصل إلى إشكالية الأكسيولوجيا القرآنية أي نظرية القيم. وأعلم أن ما تقدم في العلاج عسير. لذلك فعدد المتابعين فاجأني ليس بقلته بل بكثرته.
فإذا كان بين القراء هذا العدد ممن يهتمون بمثل هذه المسائل فهذه بشرى خير بحق. إنها تعني أن المهتمين المتحررين من الغرق في اليومي يتزايدون.
وطبيعي أن يكون البحث في علاقة العالمين كما يحددها القرآن مما لا يعنى به إلا من تحرر من الغرق في العالم الأدنى مشرئبا للعالم الأسمى في حياته.
كما سبق أن بينا في كلامنا على مستويي المعرفي والخلقي فإن عالم التمثيل لا يكون منطلق الفكر إلا في العلوم والفنون الزائفة التي يسمونها واقعية.
النظر والعمل أو العلم والأخلاق أو المعرفة والفن كلها تبدع الواقع ولا تخضع له. وما تبدعه مثال الحقيقة وما يراد إخضاعها له مثيلها وظاهرها.
وتأسيس الإبداعين في القرآن يؤدي دور العلم الرئيس-أرشيتاكتونيك-وهو ما بعد الأخلاق الذي اضطرت الفلسفة لتبنيه بمجرد تحررها من نظرية المطابقة.
وكل الشعوب الطموحة والأمم العظيمة تبدع “الواقع” باشرئبابها لمثال ما تؤمن به ولا تخضع لواقع خارجي مفروض عليها لأن يكون نفيا لمقومات وجودها.
فالأمم قياسا على الأفراد، لها إرادة وعلم وقدرة وحياة ووجود، وهي صفات تتعين في نخبها إذا كانت بحق نخبا تمثل امتها فيها أفعالا حرة هي سيادتها.
ويرجع القرآن الأفعال المحققة للسيادة إلى مفهومين هما الاجتهاد (العلم والوجود) والجهاد (الإرادة والقدرة) والتاج هو حياة الأحرار عنفوان القيام.
وسلم القيم القرآني هو سلمها الجمعي: 1-الإرادة=السياسة. 2-العلم=الإبداع الرمزي او معرفة الآفاق والانفس. القدرة=الابداع المادي أو الاقتصاد.
ثم 4-الحياة=الفنون والرياضة. 5-الوجود=الرؤى الدينية والفلسفية. ثم 1و5 متكاملان 1- في الأعيان و2 في الأذهان.و2و4 متكاملان تكامل الابداعين.
ويبقى الخامس سلطان القيم خيرها وشرها بحسب استعماله المتحرر من سلطان الدنيا (عبادة الله) أو الخاضع لسلطانها (عبادة العجل). فلندرسهما.
عندنا إذن خمس قيم مضاعفة فردية وجماعية حددتها سورة العصر بوصفها شروط الاستثناء من الخسر: الإيمان والعمل الصالح والتواصيان بالحق والصبر.
فالإرادة فردية وجماعية، والعلم فردي وجماعي، والقدرة فردية وجماعية، والحياة فردية وجماعية، والوجود فردي وجماعي. وكلها قيم قرآنية: مضمون العصر.
وهي قيم لا يراها من ينطلق من ظاهر الوجود أو الدنيا بدل حقيقته أو الأخرى سواء كان من أدعياء التأصيل أو أدعياء التحديث: ما يسمونه الواقع يعميهم.
وكلها منصوص عليها في القرآن ومنصوص على ما ترد إليه في سورة العصر: الوعي بالتحرر من الخسر فرديا بالإيمان والعمل الصالح وجماعيا بالتواصيين.
وكلها تعود إلى الحرية الروحية (لا وساطة بين المؤمن وربه) والحرية السياسية (لاحق إلهي في حكم الجماعة): الأمة مؤلفة من أحرار لا يعبدون إلا الله.
ولنبدأ بالإرادة، فهي فردية محكومة بقيمة القيم أساس أفعال العباد أي الحرية. وهي جماعيا جوهر الإرادة السياسية أو سيادة الجماعة وتحكمها شوراها.
قيمتا الإرادة هما إذن ما اعتبرناه جوهر ثورة الإسلام الروحية (المسؤولية الروحية الغنية عن الوساطة الكنسية) والحرية السياسية الناتجة عنها.
والعلم قيمتاه حرية العقل الفردي وتواصي الجماعة بالحق. وهما شرطا المعرفة السوية التي يصل إليها الفرد وتشهد لصحتها جماعة العلماء المجتهدة.
ونمر إلى النظيرين بالقفز على القلب، أي القدرة. فما يناظر الإرادة والسياسة والعلم والإنتاج الرمزي هما الوجود والرؤى والحياة والفنون.
فأما الوجود والرؤى فرديا وجماعيا، فقيمتاهما. فالقيمة فيه هي ما به تكون الأمة تلك الأمة وهي هويتها وحصانتها الروحية التي تصل بين العالمين.
فالوصل بين العالمين هو الذي يجعل الأمم تتجاوز الغرق في السيلان الأبدي للأحداث للتعالي عليها برؤى لا تخلد إلى الأرض بل تشرئب للمتعاليات.
وذلك هو الواقع بوصفه منظومة المثل التي تضفي المعنى على ظاهر الوجود، فيكون الإنسان سيد كيانه بدل من أن يكون قشة تتقاذفها الأهواء والأنواء.
وبذلك تكون الحياة أو الفن للفرد والجماعة رمز التعبير عن الحياة التي تسيطر على أعراض الوجود بقيمتي جمال عنفوان الحياة وجلاله: سعادة الدارين.
وبذلك نصل إلى قلب الأفعال الفردية والجماعية أي القدرة التي هي شروط سد الحاجات الضرورية للقيام البدني والروحي بالنسبة إلى الفرد والجماعة.
إنه المجال الأعسر وفيه تبرز حرية الإنسان وعبوديته. فإذا كان عبدا، عبد العجل الذهبي فكان مسودا بالمال. وإذا كان حرا، عبد الله فساد على المال.
فالفقه الإسلامي يثبت أن المال والاقتصاد هو المجال الأهم فيه. فالقانون الجنائي الإسلامي الأشد متعلق به: حماية الملكية أشد من حماية النفس.
وليس لأن الإسلام يولي للمال قيمة أكبر من الحياة، بل لأن الاقتصاد هو الذي يمكن أن يكون علة التخلي عن جميع القيم الأخرى وعلة الاقتتال الأولى.
لذلك فتنظيم مجال المال والاقتصاد فرديا وجماعيا من أهم قيم الإسلام في تنظيم الحياة المتعلقة بالقيم الأربع الأخرى لأنه قد يفسدها جميعا.
ولهذه العلة كانت آية الشورى قد وضعت الإنفاق من الرزق في منزلة الغاية من آية الشورى والاستجابة إلى الرب في منزلة البداية منها.
فمن دون سلطان الإنسان على المال، لا يمكن للاستجابة للرب أن تحصل لأن من يكون للمال عليه سلطان لا يعبد الرب بل يعبد العجل ولا معنى للعصر عنده.
اكتفي بهذا لأني خصصت لإشكالية الاقتصاد ما يكفيها من بحث في غير موضع. يكفي أننا استوفينا الجمع والمنع في تحديد قيم القرآن شرط الاستخلاف.
الكتيب