الخيار الانتخابي الفاسد بين حكمتين: “تبديل السروج” و”شد مشومك”

ه

الناخب التونسي اليوم يتردد فكره وعقده بين حكمتين شعبيتين:

  1. “تبديل السروج فيه راحة”.
  2. “شد مشومك لا يجيك ما أشوم”.
    ولهذا كتبت أمس تعليقا على المشروع الذي أعلن أصحابه عن تعاون بين السادة الجبالي والمرزوقي والعيادي لأني حقا لا أومن بأي من هذين الحكمتين الشعبيتين. فالسروج كلها مسامير والأشوم هو السيد دائما وهو قائم بعد.
    فالقائلون بـحكمة “تبديل السروج فيه راحة” يتصورون أن بدائل من سيسرج الخيل المقبلة غير الذي أسرج الحالية. والقائلون “شد مشومك لا يجيك ما أشوم” يتصوورن أن الخيل الحالية أقل شؤما من البدائل التي ستقدم للإيهام بالتغيير. في الحقيقة كل ما نراه على الركح مجرد تهريج اعلامي وتخطيط استعلامي للإلهاء الاجرامي التي تؤلفه وتخرجه نفس المافيات المحلية الخادمة للمافيات الخارجية.
    وعندما أرفض الحكمتين فليس ذلك بمنطق اليأس من التغيير. إنما العلة هي رفض التغيير المغشوش. فكلنا يعلم أن الذين حكموا إلى حد الآن بالفعل أو بالوهم لم يحكموا في شيء بل كانوا دمى يتحركون رغما عنهم. ولكي يغطوا على كونهم دمى يصفون ما يحدث بكونه من “الاكراهات السياسية”.
    وليس ذلك من باب تحمل المسؤولية المضطرة وعيا بها ومحاولة لتحقيق الممكن بحجة السياسة هي فن الممكن. فهذا المصطلح متناف تماما مع الثورة وحتى مع السياسة إذا كان ممارسوها يعلمون شروط ممارستها الفعلية.
    فمثلا لو أن حركة النهضة لم تقبل التوافق بمنطق “قطوس في شكارة” أي من دون تحديد صريح وعلني عن برنامج يفيد مضمونه وليس مجرد مشاركة في الحكم لاختلف الأمر. لكنها -ربما-كانت تجهل أن السبسي أحوج إلـى التوافق منها رغم أنه أوهم قيادتها بأنه صاحب فضل عليهم وبقي يبتزهم طيلة أربع سنوات بسبب الخوف مما حصل في مصر-وهو خوف طبيعي احقاقا للحق ولئلا أكون “المتفرج الفارس”. وحتى لما استفاقوا وبدأوا يتحررون كان ذلك بعد فوات الفوت لأن الثماني سنوات ستحسب عليهم رغم كونهم لم يكن بيدهم شيء.
    لكن يوجد أمران يجعلان السبسي لا يستطيع فعل ما فعله السيسي. وقد نبهت إلى ذلك في حينه كتابة وشفاهة. وليس لأني أكثر فهما من غيري إذ لا أعتقد أنهم لم يكونوا فاهمين بل كانوا خائفين والخوف يذهب الشيرة ويفسد التدبيرة. وإليك العلتان وهما عضوية وسياسية:
  3. فلو كان السبسي دون السبعين أو حتى الثمانين لما تردد.
  4. ولو كان السبسي لا يعلم هشاشة حزبه لما تردد.
    فهو لا يجهل هشاشته الشخصية (سنه) وهشاشة حزبه الذي هو خليط أشبه بالكوكتال مولوتوف. وهو يعلم أن ما فشل فيه بورقيبة وابن علي أي تصفية الإسلاميين في تونس ليس له الوقت ولا السند السياسي الكافيين لتكراره.
    وهو يعلم خاصة أن حزبه الذي هو كوكتال مولوتوف يستهدفه هو قبل النهضة. كانت قيادات حزبه -نداء تونس- يعلمون أن تصفية السبسي أسهل عليهم من تصفية النهضة وأن البداية به أضمن للاستحواذ على الدولة شرطا في تصفية النهضة. وهو ليس غبيا ليجهل ذلك -لا بد أنه قرأ ماكيافيلي وبالمناسبة سأقدم حول فكر ماكيافيلي السياسي محاضرة قريبا إن شاء الله- خاصة وهو قد عاش تجربتين حاول فيهما الاتحاد الذي هو سلاح حلفائه في “الانقاذ المزعوم” أي في كوكتاله المولوتوفـي الاستحواذ على الحكم. فالاتحاد صار منذ رئيسه الثاني -عاشور-الذي طمع في رئاسة تونس من جنس من “ركبوه على البهيم مد يده للزنبيل” سابقا ويستعد لتكرارها.
    ولما كنت لا أعتقد أن قيادات النهضة دونه ذكاء فإنهم لا شك يعلمون كل ما ذكرت-وحتى لو سلمنا أنهم غفلوا أو تغافلوا عن ذلك فقد ذكرتهم به علنا في أول ندوة أعدها مركزهم الاستراتيجي في محاضرة رسمية عند تعيين رئيس الحكومة الأول بعد انتخابات 2014 (الذي توقعت له بالتمرميدة يومها وقد حصلت) – وإذن فعلة المشاركة ليست ما يعلنون عنه من الاكراهات لأنها غير صحيحة (لأن نفس السياسة التي تواصل نموذج التنمية السابق هي التي اتبعت في عهد الترويكا).
    وهذه الحقيقة هي ما اعترف به قائدها مؤخرا أو ما يلزم ما اعترف به عندما قال إن برنامج الحركة في الدورة المقبلة هو العناية بالفقر والجهات المحرومة: يعني برنامج الثورة وكان ينبغي أن يكون شرط المشاركة في التوافق. فالقول إن ما تقدم كان لتثبيت شروط الحياة الديموقراطية والاكراهات هي ما يترتب على ذلك لا يستقيم لا سياسة مثالية ولا حتى سياسة براجماتية.
    وهنا يبرز التناقض: كيف تثبت شروط الحياة الديموقراطية بتوافق مغشوش يلغي شرطها الذي من أجله قامت الثورة؟
    فشرط الحياة الديموقراطية هو ما يجعل الجماهير تنشغل بها وتطلبها ومن ثم فهو المطلب المعلن للثورة ولا يقبل التأجيل. يعني كمن يقول بعد أن شككنا الجميع في الديموقراطية بالسياسة التي كنا نمارسها مدة ثماني سنوات نريد الآن أن نجعلهم يؤمنون بأن من عمل كل شيء ضد الديموقراطية سيقدم لنا حلا بديلا مقبلا؟
    لذلك فالسؤال الشعبي سيكون: ماذا فعلتم في ثماني سنوات؟
    وسيميل إلى تبديل السروج فيه راحة فيفضلها على شد مشومك لا يجيك ما أشوم.
    تلك هي علة فقدان المصداقية التي تجعل أي دجال ممن يتقدمون حاليا قادرا على اقناع الناس بتبديل السروج فيه راحة الحكمة التي ستغلب حكمة شد مشومك لا يجيك ما أشوم. لكني كما أسلفت لا أصدق الحكمة الشعبية عامة وفي هذه الحالة لا اصدق أيا منهما. لذلك كتبت ما كتبت في مسألة مشروع الثالوث.
    فعندما تتردى الأخلاق في شعب من الشعوب فتفسد فيه “معاني الإنسانية” ويرد في أسفل سافلين (ابن خلدون المقدمة الباب السادس الفصل 40 في التربية والحكم) فإن الحل لن يكون سياسيا مباشرا بمعنى العملية المتعلقة بالحكم بل يصبح سياسيا غير مباشر ويتعلق بالعملة التربوية. فالاستبداد والفساد ثقافة وليس مجرد ظاهرة من أعراض الحكم السياسي. وما يتجلى في الحكم السياسي ليس إلا عرضا سطحيا لمرض عميق يصيب وظائف الدولة العشر:
  5. فوظائف الحماية الخمس فسدت أعني القضاء والأمن والدبلوماسية والدفاع والاستعلام-الإعلام السياسيين في كل بلاد العرب وليست تونس استثناء. كلها مبنية على الاستبداد والفساد المطلقين مهما بدوا لينين.
  6. ووظائف الرعاية الخمس مثلها بل أكثر منها: التربية النظامية والتربية المجتمعية أي نظام تقسيم العمل تكوينا للإنسان ثم الرعاية المادية (الاقتصاد) والرعاية الروحية (الثقافة) تموينا للإنسان ونظام الاستعلام والاعلام العمليين (البحث العلمي وتطبيقاته) كل ذلك يخضع للاستبداد والفساد المطلقين والمتعجرفين والمتوحشين.
    وأي باحث عربي في العلوم الاجتماعية ينكر أن فساد وظائف الدولة في الرعاية أعمق وأشد من فساد وظائفها في الحماية لا مصداقية لعلمه لأن كلنا يعلم أن النظام الجامعي والتربوي وتقسيم العمل والنظام الاقتصادي والنظام الثقافي في البلاد العربية مبني على الفساد والاستبداد المتوحش والعنيف.
    فليس صحيحا أن وظائف الحماية أفسد وأن المشكل في إصلاحها هي قبل إصلاح وظائف الرعاية. فهذه هي سر كل الامراض التي يعاني منها العرب خاصة والمسلمون عامة. فالجميع الآن يدعي أنه يفضل الدولة المدنية على العسكرية ولا يدري أن كل الوظائف المدنية فاسدة واستبدادية ربما أكثر من الجيوش العربية وأن هذه على الأقل فيها الحد الأدنى من النظام. وطبعا ليست أفضل الأنظمة العسكرية لكني أرفض كذبة أن الدولة المدنية العربية يمكن أن تكون أفضل منها سواء كانت دينية أو علمانية. فالأمر يتعلق بالأخلاق العامة والموضوعية وهي ما وصفه ابن خلدون منذ القرن الرابع عشر بالفساد إلى حد فقدان معاني الإنسانية.
    وهو أعلم علماء العرب قديمهم وحديثهم في هذا السياق: فعنده أن فساد معاني الإنسانية علته الأولى والأخيرة هي أولا العنف في التربية وثانيا العنف في الحكم. والتربية عنده بمعناها العام أي ما يأتي منه الربو في كيان الإنسان العضوي والنفسي والمعرفي والخلقي أي كون الإنسان إنسانا وليس عالة.
    ذلك أنه يعرف الإنسان تعريفا يحدد مفهوما انثروبولوجيا فريد النوع لجمعه بين الفلسفي والديني إذ يقول “الإنسان رئيس بطبعه (فلسفي) بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له (ديني”. ويعتبر فساد معاني الانسانية (فلسفي) آيلا إلى “الرد في أسفل سافلين”(ديني): الإنسان عندنا فقد إنسانيته فلسفيا ودينيا.
    ولهذه العلة دعوت السادة الجبالي والمرزوقي والعيادي لفهم هذه الحقيقة إذا كانوا يريدون أن يكون لدروهم مصداقية:
    • وأول شرط هو ألا يترشحوا لا للمجلس ولا للرئاسة
    • وثاني شرط هو أن ينتخبوا شبابا من الجنسين لهم ما يفيد أن معاني الإنسانية لم تفسد فيهم للمجلس في هذه الدورة استعدادا لما بعدها.
    وهنا لا بد من قياس الصحة على المرض من حيث شروط إمكان الوجود والعدم: فإذا كان المرض يصدر عن جراثيم وفيروسات خبيثة فيمكن أن يكون للصحة ما يناظرها لكنها ليست خبيثة تشبه التطعيم لأن الشعوب تشبه الافراد من حيث قابلية العدوى الخبيثة أو السليمة. ولنا في ما فعله الرسول الخاتم مثال بليغ: نصف الرسالة لتكوين جيل البناة.
    أما إذا كان الثالوث يعاني مثل غيره بادعاء تقديم البديل السياسي مباشرة فمعنى ذلك أن لن يوجد من يصدقهم وسيكون من اليسير الرد عليهم: فشلتم سابقا فلا تدعوا أنكم الحل البديل. ولذلك فإذا كانوا حقا يريدون استرجاع المصداقية فعليهم أن يعلموا بهذه النصيحة من أخ لا يلدغ من جحر مرتين.
    وأخيرا فالأخوة الذين خاطبتهم في محاولة الأمس أصدقاء -ولا استثني المرزوقي لأن سوء التفاهم بينه وبيني تم تجاوزه على الأقل من ناحيتي لما بينت له طبيعة موقفي منه كسياسي وليس كإنسان مثقف ومفكر ومؤمن بشروط الحرية والكرامة دون معاداة لحضارته وهذه المعاداة هي الوحيدة التي تفصلني عن أدعياء الحداثة سواء كانوا يساريين أو قوميين لأن عقائدهم لا تعنيني.
    وأومن أنهم صادقون أن استرجاع المصداقية أفضل من التقدم لانتخابات لن تناولوا فيها ما يليق بمقامكم. ففي مناخ “باستيلانسيال”(مصاب بالطاعون الخلقي الذي اصاب عالم السياسية الخاضعة للمافيات والمال الفاسد) لا مطمع لكم في النجاح. فلا تحاولوا لأن مسعاكم سيفقد نواياكم كل مصداقية.
    وأنا شخصيا لا أفهم إصرارهم على دور في السياسة المباشرة بالمشاركة في الحكم. فالتأثير غير المباشر في تغيير المناخ الخلقي أهم ألف مرة من السعي لدور في مسرح لا سلطان للسياسيين عليه لأنهم في الغالب كمبارس لفلم مؤلفه ومخرفه يعمل من وراء حجاب. من دون ما ذكرت اعتزال السياسة أولى بكم.
    وعلى كل فذلك ما رأيته لنفسي بعد تجربة لم تتجاوز السنة كملاحظ من قرب. وكانت ملاحظتي لمسرح مضاعف: فما يلعب في البلاد كلها كان يلعب أيضا بين الاحزاب الثلاثة التي كانت تتوهم أنها تحكم. فهي أيضا كانت خاضعة لنفس الخطة: مؤلف ومخرج من وراء حجاب لما دونه في الترويكا. وكان هو بدوره كمبارس لدى مؤلف ومخرج من وراء حجاب في البلاد. وهؤلاء كمبارس لدى مؤلف ومخرج من وراء حجاب في الخارج بممثليهم في السفارات في الداخل.
    وقد كنت مجرد ملاحظ لا ناقة لي ولا جمل في ما يجري. لكني فهمت بالعيان الحي ما جعل ابن خلدون وماكيافيلي يكتبان ما كتبا في السياسة. وما فات افلاطون وأرسطو من فهمها على حقيقتها. وما لو قرأه الفارابي لندب حظه ولندم ربنا عن ترتيب المدن وفضل ماكيافيلي على أفلاطون. لكنه “كرم لحيته بيده” ففضل أن يعيش منزويا في حديقة سيف الدولة راضيا بشمعة يستضيء بها وبدينار راتبا يقتات منه.
    وما كنت لأتكلم في الأمر بهذا النهج لو لم أكن أعتقد أن الثورة تبقى في مستوى ما “تعير” به من قبل أعدائها بمعنى العار لا المعيار عندما يسمونها ثورة “البرويطة” رمز اذلال الإنسان لخوفهم من حقيقتها التي هي ثورة على “البرويطة” رمز جلال الإنسان إذا لم نرفع خطابها وسلوكها إلى ما تفيده شعاراتها اللاواعية: فهي تنادي بالحرية والكرامة وجعلت شعارها بيتي الشابي اللذين هما ترجمة شعرية لآية قرآنية حول سنن التغيير ودور الإنسان في التاريخ من خلال الموقف من القضاء والقدر.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي