الخلطة العجيبة أو المرقة الصفاقسية

لست بحاجة إلى أن أدلل على إيماني بأن نجاة تونس من الهزات التي نتجت عن زلزال الثورة الشاملة للإقليم كله مرهونة بمصالحة حقيقية بين فرعي حزب الدستور القديم والحديث أو الثعالبية والبورقيبية بعد تجديدهما كليهما. فهذان الفرعان لن يصبحا ديموقراطيين واجتماعيين من دون أن يميزا بين التنافس السياسي والصدام الحضاري فيتركا معركة التأصيل والتحديث للحركية الاجتماعية التي هي أعمق من العمل السياسي للأحزاب : فذلك كان ولا يزال علة مسعاي العميقة إلى المساهمة في الفعل السياسي المباشر وغير المباشر لأني أشعر بالانتساب إليهما بحكم الموروث الأسري والتكوين الشخصي.

لذلك فلا ينبغي أن يفهم من كلامي اليوم أني ضد المصالحة أو ضد التوافق. ما أريد الكلام عليه هو ما اعتبره قد أفرغ هذين المفهومين من معناهما : إنه المصالحة المغشوشة والتوافق الذي لا يخفي طابعه الانتهازي والمؤقت. والعجيب أنه يعلن عن نزعة كلبية بمجرد تفسيره وتبريره لهذا الطابع بمصطلح غبي وكريه هو مصطلح”الإكراهات” الذي يتشدق به ممثلوهما في البلاتوهات التلفزية بصورة تجعله قولا بالقضاء والقدر العلماني. وكم يزعجني سخف المتشدقين به وخاصة عندما يلوون عنقه فيخفون بهذا المفهوم المصالح الحزبية مدعين الحرص على المصالح الوطنية.

ذلك أن المصالح الوطنية لا يمكن أن تكون ظرفية فضلا عن أن تكون انتهازية لإخفاء مشروع خطير هو الذي أطلقت عليه اسم الخلطة العجيبة أو المرقة الصفاقسية : هذه الخلطة هي الجمع بين :
1-أعراض نهاية نظام بورقيبة : بخصوص ما عليه النخبة السياسية.
2-وأعراض نهاية نظام ابن علي : بخصوص ما عليه آليات الحكم.

والغوص في هذه الأعراض يقتضي الكلام في كذبتين تخفيانها. فهذه الأعراض أصابت النخب السياسية في تونس ولعلها قد أصابت جميع النخب السياسية العربية كما تبين أحداث الثورة وضديدتها المسيطرة حاليا:
فأما الكذبة الأولى في الادعاء بأن لتونس حزبين كبيرين يمكن أن يحققا التوازن في الحياة السياسية.
وأما الكذبة الثانية فهي الادعاء بأن الدستور الجديد حقق المصالحة بين النموذجين الاجتماعيين ومن ثم فهو يرسي نظاما يمكن من حكم بلد مثل تونس.

الكذبة الأولى : الحزبان الكبيران

هل النداء والنهضة لهما خاصية الحزب الذي يمكن أن يعتمد عليه في سياسة دولة مستقرة تتجاوز صدام الحضارات الداخلي فيكون لها برنامج سياسي يعالج شروط الحياة المشتركة لمواطنين أحرار؟ هل تحررا من الخلط الخطير فتركا مهمة حسم معارك القيم للمجتمع القادر على التعبير الحر عن خياراته دون أن تكون الدولة طرفا محددا فيه؟ هل يمكنهما أن يقدما لنا مرجعية سياسية حقيقية تجعلهما لا يستندان إما إلى مهمة التحديث المستبد (النداء) أو إلى مهمة التأصيل المستبد (النهضة)؟ أم إنهما كلاهما يعتبر المجتمع تابعا للدولة بدل العكس؟ أشك في ذلك للعلتين التاليتين:

1-فالنداء والنهضة ليسا حزبين سياسيين فضلا عن أن يكونا كبيرين. إنهما شناعتان تبشيريتان . فالنداء يبشر بقشور الحداثة أو بكاريكاتور منها. والنهضة تبشر بقشور الأصالة أو بكاريكاتور منها. كلاهما مقطوراته من طبيعة مختلفة عن قاطرته ولا تشبهها إلا بالطلاء الخارجي. كلاهما في الحقيقة مشروع ملتفت إلى الحرب على حيوية المجتمع باسم فهم كاريكاتوري للحداثة أو للأصالة. كلاهما ما يزال عائشا على تراث “التجمع وضديده” وثقافتهما كما تشكلا في العهدين البورقيبي وخاصة في عهد ابن علي: ويتبين ذلك خاصة من خلال النخب المتصدرة لسياسة هذين الحزبين جيل الثمانينات الصبياني الذي ما يزال يمضغ خرافات مراهقتهما.

ثم إنه من تراث العهدين وثقافتهما تأتي القاعدة الشعبية المؤثرة في الأحداث لكلا الحزبين القاعدة التي تجند فتستعمل في الحملات الانتخابية وفي جمع المعلومات الاستخبارية (قاعدة العيون لا الأعيان) لتأطير بقية الشعب الذي يراد تحديثه بالمعنى الذي يسميه الاستعمار المهمة التحضيرية للأنديجان أو تأصيله برد الفعل على هذه المهمة. كلاهما يعمل بمنطق الخاصة والعامة وبمنطق المتبوع والتابع.

2-وكلاهما يبني فكره على كاريكاتور مما يدعيه مرجعية له أو بتأويل يعرفها بكونها نقيض مرجعية الثاني: كلاهما لا يدرك أن التناقض الذي يعيشه ويمثله ليس بيين المرجعيتين بل هو تناقض بين الكاريكاتورين اللذين يمثلهما فهمهما لهما. لذلك فلا واحدة من هاتين الخلطتين يمكن أن تسهم بحق في المصالحة لأنهما لم تسعيا بحق لتجاوز قشور التحديث وقشور التأصيل شرطا في تحقيق القيم الكونية التي هي عين الحي في الأمرين معا.

كلام النداء على الإسلام وحضارته مغالطة تماما ككلام النهضة على الحداثة وحضارتها: تلفيق سطحي لا يغني ولا يسمن. والمصالحة المطلوبة مشروطة بالفصل بين التنافس السياسي وصدام الحضارات: لا تكون المصالحة صادقة إلا إذا ترك الحزبان هذا الأمر للحراك الاجتماعي واهتما بما ينتظره المواطن من علاج لمشاكله الحياتية ولشروط تحرره من التبعية التي تجعله مضطرا لأن يكون مواطن دولة متسولة على الدوام أعني إذا تجاوزا محالات الاستجابة للحاجات النباتية للمواطن بالتنازل عن الحاجات التي من دونها لا معنى لكون الإنسان إنسانا وذلك بجعل شروط التحرر من القابلية للاستعمار موضوعا للخطاب السياسي بدل الكلام في جنس الملائكة:

1-فلا الحرب على قيم الشعب وتراثه عند قيادات النداء بكفيلة بتحقيق تحديث مبدع بل هي تستبدل تقليدا بتقليد: ومهمتها ترضية حاميهم بإثبات الولاء له وإقناعه بأنهم أكثر حداثة منه بفترينة مشاركة المرأة المزعومة.
2-ولا رد الفعل على هذه الحرب السخفية عند قيادات النهضة بكفيلة بتحقيق تأصيل مبدع بل هي تقاوم تقليدا بتقليد: وستصبح من جنس السابقة شرطا في السماح بالمشاركة في الحكم بفترينة التسامح المزعوم.

لذلك فلا يمكن لأي من هذين الحزبين في الظاهر أن يحقق المصالحة. فهي إن صدفت ستنفي فهمهما للمرجعية التي ينطلقان منها ولعلاقتها بمرجعية الطرف المقابل : كلاهما يريد أن يسوس بمنطق صدام الحضارات وأن يجعل الدولة صاحبة القول الفصل في الخيارات القيمية للجماعة. ومن ثم فكلاهما حزب فاشي وإن ادعى السعي للديموقراطية.

الكذبة الثانية : الدستور التوافقي

إن مجرد طرح مشكل هوية الدولة ومحاولة فصلها عن هوية الشعب الذي تعبر عن إرادته دليل قاطع على أن مدار الدستور حتى في الحل الذي انتهى إليه الحسم بالمحافظة على صياغة بورقيبة هو هذا الصدام الحضاري حول نموذج المجتمع. والمعلوم أن ورد علاج الخيارات القيمية إلى المسألة السياسية التي لم تعد سوسا للمجتمع بمقتضى قيمه بل تغييرا له بمقتضى إرادة نخبة لم تعد تنتسب إليه أو هي تتنصل من الانتساب إليه بدعوى التحديث أو بمتقضى إرادة نخبة تكتفي برد الفعل عليها بدلا من الثورة الذاتية للقيم الأصيلة التي بالضرورة ستكون تأصيلا لذاتها ولتحديثها المستقل وغير التابع فلا يتحدد بالإضافة.
وليت الأمر بقي عند هذا الحد بل هو تجاوزه إلى ما يحول دون الوصول إلى حلول سياسية لشروط الحكم أعني مقومات الحاكمية (اللطيفة) والمحكومية (الاختيارية) الناجعة:

1-فلا النظام السياسي الذي اختير (قياسا على دستور الجمهورية الفرنسية الخامسة : لكأن تونس مرت بالمراحل الأربع التي مرت بها المقيس عليها وإلا فمن أين وجه الشبه).
2-ولا نظام الانتخابات المستعمل (نظام الفضلات الذي يمكن من التمثيل من رأينا من الممثلين بالمعنى المسرحي).
3-ولا حتى بنية المؤسسة المشرعة (الغرفة الواحدة ومن ثم عدم التمييز بين التمثيل الذي يفرز الأغلبيات أداة للحكم والتمثيل الذي يجمع التيارات أداة للفكر والفهم).

لا شيء من ذلك كله كفيل بحل قضايا الحكم في دولة ليس لها مقومات القدرة على الحماية والرعاية الذاتية فضلا عما يسيطر على أخلاقها العامة من منطق الاستبداد والفساد المستشري في كل طبقات المجتمع وأجهزة الدولة العشرة (المتعلقة بالحماية : القضاء والأمن والدبلوماسية والدفاع والاستعلامات السياسية باعلامها الرسمي. والمتعلقة بالرعاية : التربية والمجتمع المدني والثقافة والاقتصاد والاستعلامات المعرفية وإعلامه الرسمي).

لذلك فما سيجري في الحكم الفعلي سيكون محكوما بنفس الخاصيات التي سيطرت عليه في عهدي بورقيبة وابن علي عندما بلغا أرذل العمر فانحطت كل وظائف الدولة بل وأصبحت منخورة بالاستبداد والفساد اللذين استفحلا وظهرا إلى العلن في شكل حكم مافياوي بعد أن كانا خفيين في البداية. ففي عهد حكم الترويكا كان القرار خارج القصبة (لم يكن الجبالي بحق صاحب القرار) وخارج قرطاج (لم يكن المرزوقي بحق صاحب قرار) لأن الحكومة كانت تابعة مباشرة لقوة تحكم من وراء حجاب وتراقب الحكومة بحزام من المستشارين الذين لهم سلطان أقوى من سلطان الحكام الرسميين. أما الرئاسة فلم يكن لها أدنى وزن. وفي العهد الحالي -رغم الظن بأن الأمور قد استقرت وبأن الدستور هو الذي سيحكم-فإن الحكم الفعلي لا يمكن أن يكون ذا علاقة بالقصبة التي سترجع بالتدريج إلى ما كانت عليه في عهد ابن علي بل هو شيئا فشيئا سيصبح في الحكومة الموازية في قرطاج : خاصة وصاحب الموازيات هو الذي بيده الحل والربط هو أو من يسيره من ورائه.

فما هي الخلطة العجيبة أو المرقة الصفاقسية التي أتكلم عليها بعد أن عرضت مكوناتها وشروط طبخها في مطبخ التوافقات المغشوشة والصلح المزيف والمؤسسات الصورية التي ظاهرها غير باطنها ؟ إنها الخلطة التي تجمع نهايات عهد بورقيبة ونهايات عهد ابن علي. فكيف ذلك؟

1-نهايات عهد بورقيبة يمثلها أمران : مرض بورقيبة (مع سنه) وسيطرة جماعة سعيدة ومعركة الخلافة بين اقطاب حكمه إلى أن انهار النظام بانقلاب أتى بنظام ابن علي الذي أنهى كل النخبة البورقيبية ولم يبق منها إلا العرجاء والنطيحة فضلا عن زوال تأثير الشرعية التاريخية.

2-نهايات عهد ابن علي يمثلها أمران : مرض ابن علي وسيطرة جماعة ليلي ومعركة الخلافة بين اقطاب حكمه إلى أن انهار النظام بانقلاب الاتحاد وبقايا التجمع اللذين يحكمان منذئذ إلى الآن بخلاف كل المظاهر التي تتكلم على حكم الترويكا وجمعة والسبسي من بعدهما رغم زوال الشرعية الانقاذية لنظام ابن علي.

3-وبدايات عهد السبسي تتصف بصفات النهاتين: فليس له شرعية تاريخية رغم التقليد السخيف لبورقيبة ولا شرعية إنقاذية رغم الاستعمال الغبي لآليات حكم ابن علي. لذلك فالانخرام الحقيقي في المعادلة السياسية التونسية هو الذي يخيفني ويتمثل في أن الحاكمية والمحكومية من دون عنف باتتا مستحيلتين :

1-فالحاكمية في هذا العهد-عهد السبسي- تأسست على نقض الحاكمية الانتخابية السابقة ليس في مستوى ما يسمح به مفهوم المعارضة السياسية بل في مستوى جعله يتحول إلى منطق الإقصاء الاستئصالي: كل خطاب النداء كان يعرض مشكل الانقاذ على أن من اختاره الشعب سابقا ينبغي أن يشطب وأن كل ما تعاني منه تونس ليس ثمرة العقود الستة بل حقبة حكم الترويكا.

2-والمحكومية من ثم استعملت بما يشبه العصيان المدني المستمر-بحجة الكلام باسم الثورة- وهو عصيان يهدم الحياة الاقتصادية والأمنية والهدف كان محو مراحل الثورة الأولى لاستئناف ما تقدم عليها : فما يسمى النداء والجبهة (والاتحاد) ليس ظاهرة سياسية تكونت إيجابيا بل هي ظاهرة اعتمدت على السلب الذي سيتواصل بعد وصولها إلى الحكم ولن تستطيع له علاجا: خليط من الدولة العميقة والانتهازيين الذين انفصلوا عن الترويكا لينضموا إلى النداء. وهم الآن يطالبون بالجزاء: ولعله سيكون جزاء سنمار.

والسبب هو أن القضية لم تكن في هذه العملية قضية تنافس سياسي سوي يهدف إلى تحقيق التوازن بين القوى كما يدعون بل كانت صداما حضاريا يهدف إلى استئصال نصف الشعب التونسي بحجة عدم تلاؤمه مع ما يسمونه مكتسبات الحداثة. ويكفي لفهم ذلك قراءة فيلسوفات النداء والجبهة وفلاسفتهما ممن تصوروا تحقيق أهداف الثورة وتخليص تونس من اسباب التبعية والهشاشة مشروط بإقصاء من يعتبرونهما ممثلين للتخلف والظلامية.

وهم لا يدرون أنهم بسخفهم وسطحيتهم كانوا يفرشون الأرض لما سنرى من صدام بين الظلاميتين الحقيقتين اللتين ليسوا هم إلا سراياهما الإيديولوجية: يريدون دولة لهم وحدهم لظنهم أنهم يمثلون الحداثة وهم في الحقيقة لا يمثلون إلا أقبح ما فيها لجهلهم بأسمى قيمها. وبذلك فالتنافس السياسي الذي هو عادة ملطف للصراعين القيميين في الجماعة تحول إلى صدام حضارات داخلي بسند أجنبي :

1-كان ينبغي أن يكون السياسي ملطفا للصراع القيمي المادي أو المصالح المادية للفئات والطبقات والأفراد.
2-وكان ينبغي أن يكون السياسي ملطفا للصراع القيمي الرمزي أو المصالح المعنويية للفئات والطبقات والأفراد.

3-وكان ينبغي أن يكون السياسي مستقلا عن صراعات مجالي وظيفته التلطيفية فبات تابعا لها بدلا من أن يكون مؤطرا لشروط جريانها السلمي حتى يتمكن من علاج ما يجعل عملهما الحر ممكنا أعني وظيفة الحكم الذي يحاول ما استطاع إلى ذلك سبيلا أن يبقى مستقلا عنهما وشرط ذلك ألا يتحول هو بدوره إلى صدام حضارات يتدخل في الخيارات القيمية ويريد فرض نوع معين منها ليلغي التعدد الذي هو طبيعي في كل المجتمعات الحية. ولولا هذا الفهم لوظائف الدولة ما ضيعت ثانية من عمري والمشاركة في محاولة الجسر بين التحديث المستقل والتأصيل المبدع.

وحتى نفهم هذه الحقيقة المرة التي يمثلها هؤلاء المزعومين حماة الحداثة فلنأخذها كما تتعين في أشد أشكالها وضوحا من حيث التعبير عن هذا الصراع لأنهما يمثلان ما يمكن أن يعد معبرا عن الحاكمية وعن المحكومية اللتين وصفت بكونهما ستكونان بالضرورة عنيفتين :

1-فالعلمانية المتطرفة التي بيدها القوة الاجتماعية والرمزية وأضافت إليها السلطة السياسية هي التطرف في الحاكمية التي تريد فرض كاريكاتور من نموذج اجتماعي وثقافي وتربوي وسياسي ومن ثم نظاما روحيا منافيا تمام المنافاة لقيم الأصالة الحية.

2-والإسلام السياسي المتطرف الذي بيده قوة الرفض عامة وقوة صمود قيم الشعب في صورتها الثائرة على التحديث المستبد هو التطرف في المحكومية التي تريد رفض هذا النموذج وفرض كاريكاتور من نموذج اجتماعي وثقافي وتربوي وسياسي ومن ثم نظاما روحيا منافيا تمام المنافاة لقيم الحداثة الحية.

وهذا الصراع بين الكاريكاتورين سيزداد طغيانا بقدر ما ينتقل الحكم من القصبة إلى قرطاج كما كان في عهد ابن علي والمعارضة من المجلس إلى الشارع: لن يبقى للمؤسسات أدنى دور بل سيسطر التحكم والنزوات. لذلك فتونس تعيش لحظة حرجة تجعلني أدق ناقوس الخطر. وسبق أن أشرت إلى أن تعيين رئيس حكومة لا يمثل قوة سياسية حقيقية لأنه يستمد شرعيته من مجرد إرادة من عينه دون أن تكون وراءه قوة سياسية مؤثرة لا يمكن أن يحقق التوازن بين القصبة وقرطاج وهو ما سيعيدنا بالتدريج إلى الحكم بالطريقة التي كان ينتهجها ابن علي بحيث يكون أي مستشار ذو حظوة قادرا على توجيه الأوامر لرئيس الحكومة وللوزراء بل والتقرير بدلا منهما. ويمكن أن يبدأ الأمر مباشرة خلال تعيين رؤساء دواوين الوزراء الذين كانوا في العادة جواسيس ابن علي على الوزراء:

1-القصبة حكومة فنية أو تقنية قرطاج حكومة سياسية بحيث إن من لا يمثل التعبيرة السياسية هو الذي بيده السياسة.
2-وحينئذ سيكون المجلس مثله مثل القصبة مجلس تسجيل القوانين والموفقة عليها لأن المعارضة الحقيقية ستكون في الشارع.

تلك هي الخلطة العجيبة والمرقة الصفاقسية التي أخشى أن تؤول إلى ما يرجعنا إلى البحث عن حلول قد تكرر ما آل إليه الأمر في نهايتي النظامين السابقين معا : أي ثورة في الشارع (مثل ما حدث على ابن علي) مع انقلاب في الأجهزة (مثل ما حدث مع بورقيبة). ولما كانت تونس بلدا ليس له مقومات الصمود أمام الهزات الكبرى بسبب اعتماده على العمل والاستقرار لغياب الثروات الطبيعية فإن التعجيل بعلاج هذه الأخطار هو المهمة الرئيسية لأهل الحل والربط.

وأهل الحل والعقد عادة تعني أعيان النخب الخمس : أي أعيان النخبة السياسية وأعيان النخبة التربوية وأعيان النخبة الثقافية وأعيان النخبة الاقتصادية وأعيان نخبة النخب التي تحاول فهم دور هذه الأعيان جميعا إما من منطلق علمي فلسفي أو من منطلق خلقي ديني. لكن أعيان النخب غالبا ما يستبدل بهم الحكم والمعارضة بسبب الانتهازية السياسية والحسابات القصيرة والمقصرة يستبدل بهم العيون التي له على هؤلاء الأعيان : فتصبح العيون (اي الجواسيس والقوادة) بديلا من الأعيان الذين يمكن أن يحققوا السمع الحر لدى الشعب فتكون الإرادة الشعبية ممثلة بحق بمن اختارهم الشعب لعلل خلقية أو أسرية أو اقتصادية أو فكرية. تلك هي الخلطة والمرقة الصافسية. وقد يتعلم أخوتنا العرب مصطلح المرقة الصفاقسية. أما حقيقتها فهم آكلوها مثل التونسيين في حياتهم السياسية : هذه الخلطة أو المرقة لا تخلو منها دولة عربية وخاصة تلك التي مرت بتجربة مماثلة لتونس خلال

الثورة : من المحيط إلى الخليج.

فالثورة بدأت في الجزائر في نهاية الثمانينات ثم جاءت حرب العراق في بداية القرن الحالي فغيرت طبيعة ما يجري من الداخل بما يفرض من الخارج. ثم عدنا إلى المجرى الداخلي في تونس في بداية العشرية الحالية. ثم عدنا إلى الفرض الخارجي الذي يريد أن يوقف الحركية الداخلية في العراق وسوريا بالحرب الأهلية الطائفية وفي مصر وليبيا بالانقلاب العسكري وتونس بالانقلاب النقابي والحبل على الجرار. وليس ما طلبه أوباما أخيرا من تفويض للحرب خارج العراق وسوريا إلا تعميما للحرب على كل المناطق العربية والإسلامية التي تقاوم الانحطاطين للإبقاء عليهما وعلى ممثليهما بفرض الاستبداد والفساد رغم ثورة الشعوب:

1-الانحطاط الأهلي الذي يريد الإبقاء على الاستعاضة عن قيم القرآن الكريم بقيم الجاهلية البدوية.
2-والانحطاط الاستعماري الذي يريد الابقاء على الاستعاضة عن قيم الحداثة بقيم الاستعمار.

وطبعا فأنا أول من يدرك أن مثل هذا الكلام لا يسمعه الحاكمون في القصبة وفي قرطاج. لكنهم سيسمعون نتائج ما صموا آذانهم عن سماعه : النداء والجبهة تكونا على أسس استئصالية ولين يستطيعا البقاء من دون هذه الأسس. وجودهما الحالي إذا لم تتم مراجعته فإن أسباب الاستقرار أعني الحاكمية اللطيفة والمحكومية الشريفة سستآكلان بأكثر سرعة مما يتصورون لأن عهدا بدأ بما انتهي به عهد بورقيبة وابن علي لا يمكن أن يصمد إلا إذا قام بعملية نقد ذاتي.

لا أحد أفقد الدولة مهابتها أكثر من السبسي (بتعلقاته المحتقرة للنخب التي من الصف المقابل وللشعب) وجماعته ولا أحد صنع المقابلة بين المتحضرين والبدو الذين ينظفون منهم القصبة (كلام السبسي في اليوم الأول من حكمه الأول) ثم القصر (كلام صاحب المؤسسات الموازية) الآن إلا هم. لذلك فهم الذين قسموا تونس فوضعوا فيروس الحرب الأهلية الطبقية والمناطقية.
أما المرزوقي-رغم ما يعلم الجميع من رايي فيه وفي حملته- فقد اكتفى باستعمال ما نتج عن المقابلة بين فترينة بورقيبة وابن علي وحقنهم لهذا الاحتقار في سخصه ممثلا للجنوب. وبذلك اجتمع الداءان: ولا دواء له إلا بأعيان الجنوب وليس بمن يتفرسن عليهم بسخافات البرجوازية الزائفة. ولن نستطيع الخروج من هذا المأزق الذي بدأنا نرى الحمى تتصاعد من آخر نقطة في الجنوب ولعلها ستصل بسرعة إلى قطع المسافة الفاصلة بين الذهيبة وكل ما يحيط بالمدن الباذخة أعني بفترينة بورقيبة وابن علي.


أبو يعرب المرزوقي

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي