لست ملزما بالصمت الانتخابي خاصة والصف الثالث الذي أدافع عنه معركته لم تحن بعد لأن الثورة الآن في جزر بسبب الوضع المحلي والإقليمي والدولي وبسبب التصرف الأرعن لمن يفسدون على الأمة شرط شروط نهضتها قصدت المصالحة بين القيم الإسلامية والقيم الحديثة: فالثورة عندما تتعين في قاعدة شعبية ممثلة لإرادتها العميقة تعد بداية الاستئناف التاريخي لأمة ينبغي أن تصبح أحد أقطاب العالم في هذا القرن.
وهذا الرهان الطموح والمتجاوز لجغرافية الاستعمار ولتاريخه الذي يريد إبقاءنا في تبعية بنيوية تزداد يوما بعد يوم رهان استراتيجي لا يؤمن به أي من المتنافسين. ومن ثم فهما لا يمثلان إرادة الأمة العميقة ولا طموحها التاريخي بل كلاهما مداره مقصور على إطار التبعية التي تجعل كل القيم التي نادى بها شباب الثورة بجنسية مجرد شعارات لا تقبل التحقيق: فالكرامة مستحيلة للتابع المادي (سياسة واقتصادا) والحرية ممتنعة للتابع الروحي (تربية وثقافة).
وما كنت لالتزم بدور نشط في الحملة الانتخابية الرئاسية التزاما هدفه الصريح منع المرزوقي من الوصول إلى الرئاسة – وهو أمر ليس جديدا لأني كنت معارضا اختياره في المرة الأول– لو لم أكن اعتبر من يدعي تمثيل الثورة خطرا عليها أولا حتى في حدود كونها قطرية وأنه ثانيا أخطر على بعدها المتجاوز للجغرافيا الاستعمارية التي تريد أن توطد تاريخه جاعلة من شرط التبعية اساسا لتفتيت مكان الأمة لمنع شرط قوتها المادية وتشتيت زمانها لمنع شرط قوتها الروحية.
فكيف هو خطر وبصورة أدق كيف هو أخطر من ممثل الثورة المضادة على الثورة محليا وعلى كونها باكورة الثورة العامة للوطن العربي أولا ولدار الإسلام ثانيا ؟
لا شك أن البعض ممن يغتذي بالشعارات المخادعة قد ظن أن عملي هذا يصب في صالح الثورة المضادة. وطبعا فمن يطربه خطاب الديماغوجيين خطابهم الذي هو في الحقيقة انتحاري بوسعه أن يظن أني بهذا انحاز ضد الثورة وممثليها لصالح الثورة المضادة وممثليها.
ذلك أن من لا يرى إلا القرائب ويتعامى على البعائد لا يمكن أن يفهم أن الثورة المضادة تعود دائما بعد الموجة الأولى وأن عودتها كلما كانت أسرع كان بقاؤها بعده أقصر لأنها ستتحمل فوضى الموجة الأولى ولن تنجح فيصبح التغلب عليها يسيرا سلما أو حربا: وهذا ليس مجرد رأي إنه خاصية جوهرية لكل الثورات التي عرفتها البشرية.
ولو عادت الثورة المضادة بسرعة في آخر الثورات الكبرى –الثورة البلشفية–ولم تنتظر أكثر من سبعين سنة لكان الفشل الذي أصاب روسيا محسوبا عليها لا على الثورة ولكانت الثورة أكثر حظوظا في تحقيق أهدافها بعد أن تكون هي بدورها قد نضجت وفهمت أن الديموقراطية هي لصالحها وضد الثورة المضادة.
كيف ينبغي فهم الوضع؟
ولنشر أولا إلى أن من يتجاهل أن الثورة توجد في ظرف محلي وإقليمي ودولي لا يستهدف ديماغوجيي الثورة الذين يعبدون الكراسي ويوظفون كل الشعارت توظيفا يسيء إلى القيم الثورية –مثل الكلام على فلسطين في حين يعلم الجميع أن المرزوقي لا يستطيع لها شيئا – بل القوة الوحيدة التي يمكن أن تمثل إرادة الشعب بحق لأنها تصدر عن منظومة قيمه واساس حضارته لا يمكنه أن يفهم القصد من انحيازي ضد المرزوقي.
والإخوة في المشرق–هداهم الله–ربما لأنهم عاشوا عقودا آكلي شعارات ديماغوجية ومؤمنين بالزعامات الدنكيشوتية يعتبرون المرزوقي زعيما للثورة ولا يرون أن الشعب لم يعطه أكثر من 2 في المائة وأن حزيبه قد انفرط عقده إلى خسمة كسور حزيب وانه لم يبق له صديق واحد في النخبة التي تؤمن بالثورة وبالقيم الديموقراطية.
ولنشر ثانيا إلى أن من يتصور نجاحه في الانتخابات هو لصالح الثورة وعامل قوة لا يفهم ما يجري حقا: ولا أخفي سرا إذا قلت إن نجاحه إذا حصل فهو حتما لأن مؤامرة ما – نعم مؤامرة لأن السياسة الحديثة التي هي حرب بادرة دائما أساسها التآمر المتبادل بين القوى السياسية وفيها وبين الدول وفيها – مؤامرة حيكت ضد خصمه من قبل حزبه والدولة العميقة لأنها تتصور ذلك مساعدا في الحسم مع قاعدة الثورة الحقيقية أي الإسلاميين الذين تفضل هو فأعادهم إلى المربع الأول بعد جهد بذلوه للتمييز بينهم وبين من يلطخون صورة الإسلام بالعنتريات. ذلك أن تعامل الثورة المضادة مع نجاحه لا يخلو من أن يكون:
- قبول العمل معه بتدجينه ومن ثم فسيكون ممثل الثورة المزعوم مؤيدا لكل أفعالها الساعية للقضاء على القاعدة الفعلية للثورة التي هو ليس واحدا منها بسبب ضعف قاعدته الانتخابية بمعنى أنها تقضي على الثورة بأيدي من يزعمون زعماء ممثلين لها لأن نجاحه سيهمش زعماءها الحقيقيين: وستضخمه الثورة المضادة حينها بما يرضي نرجسيته حتى تحقق به أداة كل أغراضها.
- أو في حالة عدم قبوله التدجين –وهو مستبعد لعلمنا بحبه للكرسي–فإن نجاحه سيسرع الصدام للقضاء على القاعدة الفعلية للثورة بحيث إنها في نفس السياق الجاري في مصر وليبيا تحسم المعركة بجعلها إقليمية ودولية وفرض الأمر الواقع الذي يريده شق كبير في النداء ومن حول النداء بل إن النداء نفسه لم يتكون إلا بهذا الدافع.
لكن لو نجح الباجي فإنه سيكون بين أمرين لا مفر منهما بسبب سنه ومرضه وطموحه الذي جعله يبذل كل هذا الجهد المحمود لأنه أرجع إلى تونس التوازن الضروري ومن ثم إلى إمكانية إصلاح معادلة قواها السياسية بتحقيق الصلح بين فرعي الحزب الدستوري القديم والحديث سواء بقصد أو بغير قصد لأن التاريخ ليس كله اختياريا:
- فهو أولا يعلم ان المعركة مع الإسلاميين –المطلوبة إقليميا ودوليا– ليست سهلا خوضها لعلمه بفشل مثاله الأعلى فيها (بورقيبه كما يدعي) والمستبد الثاني (ابن علي) حتى وإن ظن من هم من حوله أن ذلك بات ميسورا بسبب الظرف الإقليمي والدولي متجاهلين أن المعركة لو عمت الوطن العربي لأنهكت الغرب كله ولأصبحت بداية التحرر الحقيقي من التبعية في مجالي الحماية (كل الاقطار محميات) والرعاية (كل الأقطار محتاجة للمساعدة).
- وهو ثانيا يريد أن يقضي ما بقي من عمره –وهو قليل مهما طال–في وضع يمكنه من تحقيق ما يمكن أن يخلد ذكره بصورة تقربه من مثاله الأعلي في تاريخ تونس ولذلك فهو مستهدف ممن حوله من اليسار وممن حول حزبه منهم وخاصة من محركي الدولة العميقة المعروفين. وقد حاولوا إزاحته لئلا يترشح. بحيث إن مساعدتهم للمرزوقي واردة إذ هم يزيحون به الباجي ثم يستعملونه أو ييزيحونه لاحقا كما وصفنا.
أسباب التفاؤل
وفي كل الأحول فما حصل إلى حد الآن مفيد للثورة: رب ضارة نافعة. وكان ذلك يكون أكثر فائدة لو كان ثمرة استرايتجية قصدية. فدور قاعدة الثورة الشعبية التي هي إسلامية بالجوهر لا ينبغي أن يكون ناتجا عن انفلات قاعدة أو عجز قيادة. ينبغي أن يكون ثمرة خطة وظيفتها بيان القوة السياسية الإسلامية لوزنها دون التورط في تسريع المعركة ودون أن يكون القصد المغالبة بل تحقيق التوازن الذي هو ضروري في حياة ديموقراطية سوية: التوازن بين النداء والنهضة قوتي تونس السياسية الأساسيتين واللتين تنبعان من نفس المنبع أعني الحزب الدستوري القديم والجديد إذ يتصالحان بمراجعة الأسلمة والتحديث مراجعة تحقق التأليف الناجع بين القيم الأصيلة والقيم الحديثة دون تناف بل بتناغم.
وهذا يقتضي الانسحاب في الإبان وعدم التصويت للمرزوقي وللسبسي بل التصويب للصف الثالث الذي يريد تحرير المجال السياسي من الاستثناء المتبادل وخاصة من الاستئصال المتبادل. لا ينبغي للمناورة السياسة المشروعة أن تذهب إلى الغاية فتستعجل المعركة الحاسمة–أعني إنجاح قيادة من خارجها فتصبح تابعة وتفقد السيطرة على قاعدتها.
وهذا السلوك السياسي مشروع في التفاوض السياسي لتوازن القوى السياسية وتقاسمها السلطة الشرعية بين القوتين الكبريين أو على الأقل للترادع بينهما لئلا تتغول إحداهما ضد أخراهما فتحسب ألف حساب لأي محاولة تستعجل المعركة التي ينبغي تجنيب البلاد أهوالها خاصة والوضع الإقليمي يبدو مشجعا للنداء وللمتطرفين من بين المنتسبين إليه على القيام بمثل هذه المغامرة.
أبو يعرب المرزوقي