****،
قد لا يكون لهذه المحاولة حول الخريطة الانتخابية والاستراتيجيات السياسة علاقة مباشرة بما يتصوره البعض حدثا لأني شرعت فيها قبل حدوثه. لكنه سيتبين حملا كاذبا لن يتمخض عنه حتى فار
أعني دعوة الدمية للشيخ بوساطة منشق وتأول “مفكر” اليسار بمعنى السينيسترا. لكن الأيام ستبين أنها من نتائج الظاهرة التي أبحث فيها. وقد جاء الدليل في لقائه ب”الكارك” وب”البرميل”.
أحاول في هذا البحث “النظري” الذي يمكن أن يؤيد بالأدلة المتممة لتكون علمية المنحى استعراض الأخطاء الاستراتيجية التي يقع فيها السياسيون الذين ل اينطلقون من الكشف الدقيق عن مكونات الخارطة الانتخابية ومحدداتها التي تؤسس لتوجهات الناخبين وخياراتهم.
ولست أنوي بذلك نقد أحد معين رغم أن الظرفية ستجعل المحاولة وكأنها نقد نسقي للنهضة لأن الجميع يحملها مسؤولية عجزها عن التصدي لأحوال تونس -وهو تحميلها ما فوق طاقتها-تاركين صانعيها وباحثين عن العاجزين عن علاجها إما لقصور ذاتي أو لعسر الظرفية التاريخية أو لهما معا.
ولما كنت أومن بأن اللوم بعد القضاء بدعة ولما كنت لم انتظر حصول ما اعتبره أخطاء استراتيجية لأتكلم عليها بعديا “بالهايند سايت” لأني عالجتها قبل حصولها وحذرت منها، فإني لا اعتبر نفسي متجنيا على أحد لما أكرر ما حذرت منه في دراسة جامعة للعثرات التي حذرت منها لا تستهدف أحدا عملا برفضي بدعة اللوم المتأخر. والهدف هو المفهوم الذي يمكن ردها إليه جميعا: مفهوم الخارطة الانتخابية.
ولست افعل إذن إلا لأني اعتبر المعركة ما تزال جارية وبأن جمع كل ما اعتبره خطرا على التجربة الديموقراطية والانتقال الديموقراطي له علاقة بهذه الإشكالية فإني أومن بأن النقد الإيجابي.
يمكن أن يساعد في تحسين الأداء مستقبلا خاصة والورطة الحالية مع الدمية هي الأخطر على تونس وعلى التجربة لاعتقادي بأن التكتيك الذي لا يرى إلا القرائب ويهمل البعائد ما يزال المنطق المسيطر على سياسة “دعها حتى تقع” بدعوى “تبع الكذاب إلى باب الدار”.
وطبعا فلا معنى للكلام على مفهوم شامل هو الخارطة الانتخابية إذا كان القصد حصرها في الانظمة الديموقراطية بدلا من مقوم للجماعات عامة حتى من دونها لأن المواقف من السياسة ذات صلة مباشرة بالجماعة بصورة لا تغيب في أي نظام حتى في أعتى الدكتاتوريات.
وعندما يكون لحضور الناخبين حضورا فعليا للتصويت دلالة يكون الامر حينها منحصرا في نظام القوى السياسية الحزبي وفي المعنى الديموقراطي للتعبير عن المواقف السياسية. وهو أمر جديد في حين أن الخارطة الانتخابية مفهوم أشمل لا يخلو منه وجود جمعي متعدد بالطبع.
فهو من جنس ما عرفه الغزالي في كتاب فضائح الباطنية عند مقابلة النظامين اللذين تصارعا في تاريخ الإسلام أي نظام الوصية ونظام الاختيار. فهذا النظام الثاني بخلاف الاول لا يخفي أن الشرعية لا تثبت من دون الشوكة.
وإذن فلا وجود حكم مستقر من دونها حتى في نظام الوصية وإن ظلت خفية كالحال في إيران حاليا حيث يظن أن الوصية كافية في حين أنها تابعة للمافية التي تحميها وتسمى الحرس الثوري. وإذن فلا بد من خارطة انتخابية تجعل الأغلبية هي الحاكمة سواء كان ذلك بالتعبير الفعلي أو بالأغلبية الصامتة.
وقد وضع ابن خلدون ذلك مبدأ عاما يتفق فيه الشرع والعقل إذ يقول: “والوجود شاهد بذلك فإنه لا يقوم بأمر أمة أو جيل إلا من غلب عليهم وقل أن يكون الأمر الشرعي مخالفا للأمر الوجودي” (المقدمة الباب الثالث الفصل السادس والعشرين في اختلاف الأمة في حكم المنصب وشروطه).
ويضيف تلميذه الأندلسي ونزيل القدس ابن الازرق في كتابه بدائع السلك في طبائع الملك (المقدمة الثانية الفاتحة العاشرة): “بل لا يكون البتة. وقاعدة أن كل أصل علمي خذ إماما في العمل فشرطه أن يجري العمل به على مجاري العادات في مثله وإلا فهو غير صحيح شاهد لذلك”.
سأكتفي بالكلام على الشكل الحديث للقوة السياسية والمشاركة الانتخابات الشكلية على الأقل بعد تكوين أول حزب سياسي -الثعالبية-إذ قبلها لا وجود لمعنى القوة السياسية الحديث -الأحزاب-وكان الحكم وراثيا مع عصبية عسكرية في الغالب تبدأ بقبيلة الحاكم ثم تمر بالمراحل الأربعة الموالية التي ذكرها ابن خلدون:
• الأولى هي عصبية الدم وهي من قبيلة الحاكم: الدولة الأموية نموذجا…
• الثانية هي عصبية الولاء وهي من الموالي: الدولة العباسية نموذجا
• الثالثة العودة إلى عصبية دم أوسع أو القوم: محاولة التدارك عند هارون الرشيد نموذجا.
• الرابعة عصبية، بداية عصبية العقيدة: دور السلاجقة في انقاد الدولة السنية نموذجا
• والأخيرة هي تمثلها الخلافة العثمانية لأنها عادت إلى مفهوم الإنسانية كما في مشروع دستور الرسول في المدينة أي تجاوز كل ذلك إلى مقومي وظيفة القوامة السياسية بمعنييها أي قوامة الرعاية والحماية اللتين تكونان تابعتين للجماعة وليس للدولة.
ولأن هذا التصور شديد الدقة والمثالية لم يستمر طويلا لأن حرب الأحزاب الخندق أنهته بعد أن وقعت خيانة يهود يثرب والبدو من حولها للصمود أمام الحلف المهاجم للمدينة.
وظل الأمر كذلك حتى لما شرعت بلاد الإسلام في الاحياء والنهوض إذ بقي الغالب هو الفهم التقليدي للقوة السياسية المنقسمة إلى العامة أي توابع أهل الحل والعقد من العلماء والفقهاء وشيوخ القبائل الكبرى ونقابات التجار والجيش وبعض الأسر ذات المنزلة الدينية والحركات الصوفية وشيء من الطائفية.
ولعل أمرين أسهما في محاولات استعمال المعنى الحديث للقوة السياسية:
• أولهما نشأ عند مسلمي البلقان ومنه مثلا تأثير ظاهرة من جنس ظاهرة محاكاة نابليون (حركة محمد علي في مصر).
• والثاني وهو الأهم هم ثمرة البعثات للتعلم في الغرب مع التأثير الغربي الاستعماري في استمالة نخبة تقليدية ولكن خاصة من هؤلاء وأبنائهم ممن حصلوا على تكوين غربي إما في البعثات أو في المؤسسات التبشيرية الغربية في بلاد المسلمين.
فتكونت نخبة شرعت في تكون قوى سياسية بالمعنى الحديث دون قطع مطلق مع التقاليد ولكن مع البحث فيها عما يضفي الشرعية على عملهم فكان لنقد الاستبداد السياسي (وكانت مقدمة ابن خلدون مصدرا أساسيا لتبرير الموقف مع الكلام على ديموقراطية الصدر).
وبعضه لنقد الاستبداد الاجتماعي الوثني (وكانت أفكار ابن تيمية ضد الوثنية والقبورية مصدرا أساسيا لتبرير الموقف مع الكلام على العودة إلى الأصلين القرآن والسنة). فأمكن إلى حد معقول انتساب النخبة الحديثة إلى مشروع النخبة التقليدية التي اعتمدت هذين المصدرين.
ومن هنا بدأت ثنائية الحركة السياسية الجامعة بين صفين أحدهما ميال إلى التواصل ومحاولة اعادة التأصيل والثاني ميال إلى القطيعة ومحاولة بداية التحديث: والمثال هو حزب الثعالبي ودخول بورقيبة فيه. وكان طبيعي أن يحصل الانفصال بين الموقفين وبين نوعين من القاعدة السياسية:
• ذوي الثقافة التقليدية ورمزها الزيتونة والتعليم الإسلامي
• وذوي الثقافة الحديثة ورمزها الصادقية والتعليم الفرنسي.
لكن جماهير الصفين يمكن وصفها بهذا المعيار ولكن في تعينين ما يزالان فاعلين:
• الأول جهوي بمعنى أن الجهات التي تحدثت كانت قاعدة الميالين إلى التحديث والجهات التي بقيت تقليدية كانت قاعدة الميالين إلى التأصيل والرمز إلى الآن ما يزال المدن الكبرى والساحل مقابل القرى والبوادي والجنوب.
• الثاني نوع العمل المسيطر: فالبورقيبية غلبت الثعالبية بالعمال والدوكارات وخاصة بأبناء الجهات التي كان آباؤهم إما خماسة عند المعمرين أو عمال في المناجم التابعة لفرنسيا: ولا يزال الامر كذلك إلى الآن فجل اليسار من هؤلاء.
ويمكن بعبارة موجزة تلخيص الخارطة التي حافظت على شيء من القديم وتبنت شيئا من الجديد أن نجزم بأن تونس فيها ما يحيل إلى المقابلة مخزن سيبة التي كانت مسيطرة قبل الاستعمار المباشر ثم ما يحل إلى البلدية والآفاقيين وما يحيل إلى ما حددته خارطة استعمال الاستعمار لجغرافية تونس وديموغرافيتها:
فالجغرافيا حددت المناطق بمقتضى الجهات الزراعية الكبرى (الشمال الغربي منه على وجه الخصوص) والجهات المنجمية الكبرى (الحوض المنجمي) والجهات الطاقية الكبرى (الجنوب) والموانئ البحرية (كل ساحل تونس من بنزرت إلى حدود ليبيا) يضاف إلى ذلك التقسيم بمقتضى غلبة التأثير المشرقي وخاصة بعد حصول ما يسمى بالثورات العربية (يغلب على الجنوب) والتأثير الفرنسي (يغلب على المدن وأبناء النخب النافذة في الحكم).
وقد اتضحت هذه الجغرافيا خاصة في أول حرب أهلية حصلت في غاية مفاوضات الاستقلال بين بورقيبة وابن يوسف فكان الحسم نقابيا لصالح بورقيبة لكنه كان كذلك باعتماد تأثير الخطاب الأميل للتأثير الغربي وخاصة حيث كان للمعمرين ولأرباب العمل من الاستعماريين دور القيادة الثقافية التي لم يعد لها علاقة عميقة بالتقاليد الإسلامية.
أما اليسار والقوميون فإنهم لم يميلوا إلى صف بورقيبة رغم كونهم يزعمون الميل إلى الحداثة ولا يولون أهمية للثقافة الإسلامية لأنهم منقسمون إلى المتأثرين بالثورات التي تدعي القومية بعد حرب فلسطين وحلفها مع القطب السوفياتي.
ولم يعد الصراع بين القاعدتين المتقدمتين على ما تلا حرب فلسطين أي موقف بورقيبة وموقف الثعالبي إلا لما انهارت التجربة القومية بعد حرب سبعة ستين وانهارت التجربة البورقيبية بعد انهيار التجربة التعاضدية. وقد تزامن مع الانهيارين عودة الحركة الإسلامية ولكن بمرجعية فكرية عديمة الصلة مع الثعالبية مع ارث الفكر الاخواني والرؤية الانقلابية الشرقية. فصارت القوى ثلاثة أنواع:
• البورقيبية
• الإسلاميين من المدرسة الاخوانية
• ثم القوميين واليساريين بسبب احداث الغرب (التبعية لليسار الفرنسي خاصة) وأحداث الشرق (التبعية للناصرية والبعثية).
لكن ليس للهذين الفريقين الأخيرين الوزن المعتبر حقا لولا استحواذهم على قيادة الاتحاد في عهد بورقيبة ودورهم في الإدارة عامة والامن خاصة في عهد ابن علي. وبهذا المعنى فيمكن القول إن الخريطة السياسية في تونس ما تزال على ما هي عليه في هذا الشكل الأخير.
أما ما تغير خلال عشرية الثورة هو شبه نهاية الفريق الثالث رغم بقائهم في الإدارة والاتحاد وكان يمكن أن يزولوا حتى فيهما لولا حل حزب التجمع والخلط بينه وبين حزب بورقيبة وعودة متدرجة للثنائية التي يمثلها الإسلاميون والبورقيبيون وبداية استعادة الاولين للمرجعية الثعالبية والثانين للمرجعية البورقيبية.
ذلك أن نسبة المرجعية الاخوانية إلى الإسلاميين وبعض النخب ذات الميل القومي في تونس هي عين نسبة المرجعية المشرقية إلى اليساريين وبعض النخب في المناطق ذات الميل القومي. لذلك فالإشكالية بين القوميين والإسلاميين موجودة فيهما كليهما بسبب تأثير الإسلام وسياسة الأنظمة المشرقية.
ورغم أن السبسي لم يكن ليجهل ذلك فقد غره طلب النجاح السريع وخوفه من عودة الحركة الإسلامية بقوة وسرعة هم بدورهم اغتروا بها فوقع كلى الفريقين في فخ العجلة وعدم تحليل الخارطة الانتخابية ما جعل حزب السبسي يتفتت وما جعل الحركة الإسلامية وإن لم تتفتت فهي فقدت ما كان لها في بداية العودة.
ومع ذلك فالسبسي كان يعلم استحالة حكم تونس بتكوينية حزبه. وقد جرب في البداية تكوين حكومة منهم ففشل. وقبل أن يعلن عنها اضطر إلى تكون حكومة ثانية أدخل فيها النهضة رمزيا لعلمه أنه من دونها كان سيقع له ما وقع لبورقيبة: فأهم ظاهرة اسقطت نظام بورقيبة هي محاولة الاتحاد اخذ الحكم من حزبه فضلا عن أخطاء الإسلاميين الذين لم يحددوا الخصم الحقيقي لحركتهم أعني اليسار والقوميين المسيطرين على الاتحاد.
وكان يمكن لو كانوا حقا على دراية بالخارطة السياسية أن يستفيدوا مما وفره لهم رجلان كلاهما فهم أن البورقيبية من دون الإسلاميين لا يمكن أن تحكم تونس وأنها من المفروض أن تتخلى عن صراع جناحي حركة التحرير الوطنية الذي بدأ مع القطيعة بين الثعالبي وبورقيبة الذي اعتمد على الحلف مع الاتحاد.
لكن النهضة بسبب ما حدث في مصر كانت -حتى لو تصورناها فهمت ذلك-عاجزة عن المساومة في التفاوض مع السبسي فقبلت عرضه في لقاء باريس دون تفاوض حول دورها لأن من كان يعنيها هو البقاء لتجنب ما حدث في مصر وليس الدور الذي كان يمكن أن تحصل عليه.
لكني لا أعتقد أن ذلك هو العلة الحقيقية بل العلة أعمق وهو ما سأحاول بيانه ويمكن رده إلى امرين:
• العجلة في الوصول إلى الحكم قبل جبر الكسور التي حصلت خلال عقدين من الزمن غابت فيهما الحركة وانقسمت إلى المهاجرين والباقين في البلاد كما تبين في المؤتمر الأول بعد الثورة
• ثم وضع نفسها في وضعية الاختيار السيء للفاء بعد الانتخابات الأولى وكان يمكن فرض شروطها على واحد ممن تحالفت معهما بدلا من الاضطرار للقبول بهما معا وبشروطهما.
فحزبا المرزوقي وابن جعفر لا يجمع بينهما في حكمه عاقل يفهم في الحدود الدنيا للخارطة السياسية التي تجعلهما لا يمثلان أدنى قاعدة غير بقايا التجمع إذا ما استثنين الرجلين وقلة قليلة من اعوانهما قبل الثورة. فهما حزبان ليس لهما قاعدة حقيقية بل تكونا خلال الانتخابات الأولى للمشاركة في الحكم وكانا ملجأ للتجمع بعد حله كما تبين لاحقا وذلك فهم أعدى أعداء الثورة والإسلاميين كما نراهم الآن.
وإذن فالنهضة في عجلتها للوصول إلى الحكم وتجاهلها الخارطة الانتخابية تجاهلت أن السبسي كان لا يجهل أن مشكل الأيام الأخيرة من النظام البورقيبي مصدره اليسار والقوميين المسيطرين على الاتحاد وليس معركة خلافة بورقيبية فحسب.
ومن ثم فهو لا يجهل هشاشة حزبه التي لا تتجاوز استعمال بقايا التجمع ولكن باسم بورقيبة في حين أن البورقيبيين لم يبق منه في التجمع إلا من تنكر لبورقيبة. وكان يعلم أن الاتحاد واليسار والقوميين كانوا يستعملونه ومستعدين للإطاحة به
وقد شرعوا في ذلك ولم ينقذه إلا الإسلاميون لأنه لم يحكم بأغلبية حزبه بل بأغلبية الإسلاميين إلى أن حدث انقلاب الشاهد بسبب حمق قيادات النهضة. ذلك أنها بدلا من مفاوضة السبسي على مواصلة مساندته مقابل حلف صريح وقسمة عادلة للحكم كما يحصل في أي نظام برلماني في العالم فضلوا بغباء لا مثيل له تركه والحلف مع ثعلب اخرجهم من المولد بلا حمص.
وفي هذه الحالة فإن النهضة -لم تبق معذورة بالخوف من المسار المصري كما حصل ذلك في اتفاقية باريس-تجاهلت الوضعية الجديدة أو ظنت أن التعاقد مع الشاهد أفضل قابلة بوعود لا تتجاوز طموح القيادة في الوصول إلى حلم يراودها رأينا دلالته عند الكلام على العصفور النادر.
والعلة أنها كما حصل من البداية لم تقرأ الساحة السياسية مثلما حصل لها عندما كونت حكومة الترويكا فأعدت لكل ما أصابها لاحقا بسبب هذا الخطأ الجسيم الذي تكرر مرة أخرى في الانتخابات الأخير: ذلك أن تقاسم قاعدة الحزب الدستوري التي هي نفس قاعدة التجمع لأن الفرق بينهما في القيادات والنخب وليس في القواعد الشعبية.
وهنا لا بد من أن اشير إلى أمر هو علة وجود حزب القروي: فهو في الحقيقة جمع القاعدة الشعبية المؤلفة من الطبقة المحرومة للعمال اليوميين والريفيين والعائلات المعوزة بنفس الطريقة التي كانت مصدر قوة الشعب وخاصة في مناسبات الانتخابات أو الزيارات بتوزيع المعونات. وطبعا مع بعض النخب التي رات في ذلك علاجا مباشرا للظلم الاجتماعي في تونس.
وسأحاول الآن تحديد طبيعة الكوارث السياسية التي تنتج عن الجهل بالخارطة السياسة أو عن تجاهلها عند من يعلمها منذ أواخر العهد البورقيبي إلى نهاية عهد ابن علي ومن بداية الثورة إلى الآن. فهي كلها من هذا الجنس وسأحصرها في الأخطاء الخمسة التالية.
- الخطأ الأول:
الأداة في معركة وراثة بورقيبة وخطأ انتخابات تسعة وثمانين: كان يمكن أن تكون الحركة الإسلامية متأصلة في الثعالبية التي ألف مرة أكثر تقدمية من المرجعية الاخوانية وما لها من علاقات مع الفكر الانقلابي الذي كان مسيطرا على الشرق ليس منذ ردود الفعل على هزيمة فلسطين بل منذ قرون قبل نشأة الحركات الإسلامية لما لها من رؤية لا تبعد كثيرا عن الرؤية الشيعية مع فارق أنهم مصدقون لما هو مجرد خطط باطنية لديها. - الخطأ الثاني: قرارات سنة الثورة الأولى:
الخلط بين التجمع والدستور لأسقاط الفرق بين القيادات على القواعد هو دليل انعدام بصيرة. فليس لابن على قاعدة جديدة عدى اليسار والقوميين وهم التجمعيون بالمعنى الأيديولوجي الذي يعادي الإسلاميين في حين أن القاعدة الواسعة هي عين القاعدة البورقيبية والثعالبية.
وهنا لا بد من إشارة قلما يقبل بها الحمقى من النخب: القاعدة الشعبية أكثر فهما للسياسة من النخب لعلتين.
• الأولى أنهم يرونها في وظيفتيها أي علاقتها بكرامة الحياة وبأمنها وأمن حقوقها وخاصة ملكيتها وقيمها الروحية والاسرية
• والثانية لا تعنيهم الفروق الإيديولوجية التي تزين بها حضورا أو غيابا هذه الغايات.
ولما كنت قد شاركت في الانتخابات الأولى فقد تحققت من ذلك بنفسي: كان الترحاب والحضور الكثيف في كل مكان حللت به دالا ليس على ان الحاضرين إسلاميين بمعنى الانتساب إلى النهضة بل كانوا من القواعد الشعبية بصرف النظر عن الانتساب لأنها شعرت بأن أملا جديدا في تحقيق رؤيتهم للسياسة بالمعنى الذي أشرت إليه قد تكون مضمونة إذا حكم من “يخاف الله” فيهم. - الخطأ الثالث تكوين حكومة الترويكا:
خيانة العقد المعنوي بالبقاء سنة واحدة لكتابة الدستور وليس للحكم ثم الخضوع لشرط المرزوقي البقاء ثلاث سنوات وخاصة وتجاهل نتائج الانتخابات. والدليل على تحليلي هذا هو ظاهرة شبيهة بظاهرة القروي هي التي كانت وصلت في الانتخابات إلى رتبة الحزب الثاني. لكن المعارك الداخلية بين الإسلاميين حالت دون القبول به فاستثنيت مثل صاحبها من الخيارات الممكنة في تشكيل الحكومة.
ونفس ما تحقق مع القروي الذي استثني من تشكيل الحكومة. فوضعت النهضة نفسها مرتين في نفس المأزق: اضطرت للقبول بشروط خصمين من لم يتوقع ذلك أحمق بدلا من أن تفرض عليهما التنافس في ترضيتها لو لم تستثن الحزب الثاني.
فلو قبلت في المرة الأولى الحزب الثاني عملا بالمبدأ الديموقراطي لكان الحزبان اللذان اضطرت للحلف معهما يخطبان ودها ويتنافسان على الحلف معها بشروطها. وكان ذلك يكون باختيار المرزوقي أو ابن جعفر بدلال الاضطرار للجمع بينهما في حكومته.
ونفس الأمر كان يمكن للنهضة أن تتجنب محاولات تكوين حكومة مع البسكلات والبرميل لو لم تسهم بحمق لا نظير له في شيطنة القروي على الأقل بعد اليأس من العصفور النادر وبعد معرفة نتائج الانتخابات. ولولا ثبات القروي لما وصل الشيخ إلى رئاسة المجلس ثم خاصة لما بقي فيها إلى الآن. - الخطأ الرابع: التعاقدات المغشوشة (الشاهد والدمية)
لا يمكن أن أصدق أن الظرفية التي تم فيها التعاقد مع الشاهد وخاصة مع الدمية فيها ما قد يعذر قيادات النهضة مثل الحالة التي حصل فيها التعاقد مع الباجي. فهبنا سلمنا أن قرطاج الأولى اضطرت فيها النهضة للمشاركة في اسقاط حكومة الصيد دون كذبة الخوف على الاستقرار كما فعلت لتمرير انقلاب الشاهد.
شاركت في انقلاب على الدستور وعلى الديموقراطية اعتمادا على وعود الشاهد الذي افتك بقايا حزب الباجي وافتك من الجميع كل دواليب الدولة وهو ما يزال يحكم إلى الآن مع المافيات التي لو كان قيس حقا يتكلم على الإصلاح لكانوا هم أعداءه لا الإسلاميين.
كان يمكن للنهضة لو كانت تفهم في خارطة تونس السياسية أن تفاوض السبسي على حدة في قرطاج الثانية ولقبلت بسعيه لإسقاط الشاهد ولقبل أن يتفق معها على تشكيل حكومة وحدة وطنية لأنه كان يعلم أنه لم يعد له حزب وأن الشاهد سينقلب عليه ويفتك بقايا الحزب والدولة.
ولا زلت أعتقد أن تأييد ترشح الدمية لم يكن مفروضا على النهضة بل لها فيه يد لأنها جعلت أحد شعارات حملتا النيابية تأييد مشروعه رغم أنه مجهول والمشاركة في إنجازه لكن العلامة الأهم من ذلك مضاعفة: الأولى هي السابوتاج النسقي لحملة الشيخ مورو والثانية هي حملة من صاروا حلفاؤه عليه في البداية لما ظنوه حليف الإسلاميين بشقيهم النهضة والائتلاف. - الخطأ الخامس والأخير: المعركة الداخلية المضاعفة:
فهي في النهضة داخليا وهي مع الائتلاف بعد أن كانت مع السلفية. فالمعركة التي كانت تهدد النهضة على يمينها ممثلة بالسلفية عادت ولكن هذه المرة على يسارها ممثلة بالائتلاف الذي قد يستفيد من كل هذه الأخطاء إذا درسها جيدا وتجنب مثلها وفهم أن الديموقراطية مستحيلة من دون إشكالية الخارطة الانتخابية.
لكن ذلك يتطلب التخلص من العنتريات والعجلة السياسية في الوصول إلى الحكم قبل تحقيق شروطه. فالحكم له خمسة شروط ولا يكتفي بالحكم بماشرة الحكم من دونها. فلا بد من:
من الإرادة السياسية التي لها رؤية متجاوزة للظرفيات أي لا بد من استراتيجية شروط القوة المادية والروحية التي تحقق شروط القيام المادي والقيام الروحي المستقلين والممكنين من الرعاية والسيادة.
لهذه الإرادة ذات الروية أداة أولى هي سلطان العلم وتطبيقاته شرطا في المقوم المادي للدول والجماعات أعني الاستعمار في الأرض وهي القدرة الأولى المشروطة في الرعاية والسيادة: الاقتصاد.
ولها كذلك أداة ثانية سلطان الرؤية وتطبيقاتها شرطا في المقوم الروحي للدول والجماعات والصبر على البناء المتين وعدم التعجل في الوصول إلى الحكم: الثقافة.
واجتماع السلطانين أداتين للإرادة ذات الرؤية هما شرطا الحكم المحقق للرعاية والحماية اللتين من دونهما ليس للجماعة سيادة ولا حرية ولا كرامة.
وعلى كل فإن وجود هذين الفرعين من الحركة الإسلامية يجعلها من حيث القاعدة الانتخابية متماسكة وصادمة لأنك لو جمعت عدد النواب لوجدت أنه تقريبا نفس العدد في كل الانتخابات الثلاثة التي حصلت وحتى في البلديات والرئاسيات.
ومن ثم فإذا عالجت النهضة معكرتها الداخلية بديموقراطية متخلصة مما قضى على حركة فتح أي بعقلية ياسر عرفات الذي انتهى إلى الاستعاضة عنه الولاء المؤسس على الإيمان بقضية بولاء مؤسس على الإيمان بالأجر “سنون وتريبشون” فإنها يمكن أن تكون في حلف وليس في تنافس مع الائتلاف.
وقد يصلح الله راي قيادات بعض السلفيين فيتخلصوا من المزايدات التي تجعلهم من حيث لا يعلمون حلفاء أعداء الرؤية الإسلامية التي تعتبر السياسة خدمة روحية لتحقيق شروط حرية الإنسان وكرامته بوصفه خليفة في الأرض.
ويمكن للإسلاميين ولكل من يؤمن بشروط اخراج تونس من أزمتها أن يعتبر هذه رؤيتي للحل لتأسيس حكومة وحدة وطنية يكون فيها الاعتراف بالخارطة الانتخابية أساس تكون الأحلاف وليس مجرد الاحكام المسبقة لمن يتصورون أن السياسة لعب ذري يقرر أحكامها حمق ساكن المنيهلة ومستشاريه أو بعض المتنطعين من المتعلمنين في أرذل العمر.