ه
عندما أعلن ترومب عن نية مغادرة سوريا توقعت أن فخا ما ينصب إلى تركيا. ولست أقصد خرافة الحلف العربي فهؤلاء لا تأثير لهم ولا قدرة على إزعاج تركيا لو كان الأمر متعلقا بتدخلهم. فلا مصر ولا السعودية ولا الإمارات ولا الأردن لهم القدرة على فعل شيء بل هم سيكونون مجرد حشو “لا يبل ولا يعل”.
وكان من المفروض ألا ترى تركيا في استعمال الأكراد وخاصة علمانييهم أمرا موجها ضدهم وحدهم لأنه يهدد دولتين يسمي أهلها أنفسهم عربا (العراق وسوريا) ويهدد دولتين اخريين يدعي أهلها أنفسهم مسلمين (إيران وتركيا) ويراد من الأكراد أن يكونوا في المعركة الحالية ما كان العرب في الحرب العالمية الأولى التي قضت على الخلافة وفتت جغرافيتها.
والفخ الذي أعنيه هو إذن ما قد ينتج عن “تحمس” تركيا واعتبار نفسها نائبة عن الأقطار الثلاثة الباقية لتصورها أن التهديد متأت من الأكراد وليس من حلف خفي بين إسرائيل وروسيا والنظام السوري وإيران فضلا عن امريكا بالتبعية لإسرائيل وحتى لليمين الأوروبي الذي يتخوف من نهوض تركيا.
خطر الأكراد على تركيا حقيقي لكنه دون الخطر الأكبر الذي قد يترتب على تورطها في حرب تنهكها فتجعله لقمة سائغة لهذا الحلف الذي يتربص بها. وما أظن القيادات التركية غافلة عن هذا الخطر. ذلك أن الامر يتعلق بمستويين من المعركة: الحدود حاليا وتفتيت سوريا بعد ذلك لأنه سيعم الدول الأربع.
والسؤال هو لماذا الدول الثلاث الاخرى غير تركيا لا تنشغل بالمستوى الثاني من المعركة؟
هل تركيا أكثر هشاشة من العراق وسوريا وإيران فتكون أكثر عرضة للتفتيت لو تكونت “دويلة” في سوريا وفي إيران كما تكونت شبه دولية في العراق؟
ما الذي يجعلهم ثلاثتهم مع ذلك يريدون توريط تركيا؟
ومما يزيدني اقتناعا أن من ذكرت يريدون توريط تركيا هو رأي روسيا التي تريد أن يعود ما تحتله أمريكا حاليا إلى النظام. ذلك أن هذا يعني عودته إليها وإلى إيران لأن النظام لم يعد له وجود فعلي عدا كونه مجرد ورقة دبلوماسية لتبرير وجودهما وكأنه ممثل لسلطة شرعية دعتهما إلى سوريا.
فهذا إذا حصل سيجعل تركيا بين حلين لا ثالث لهما: إما أنها ستصبح في كماشة قد تعيد إلى الروس شهوة تحقيق ما لم يحققوه في الحرب العالمية الاولى ولو في شكل استتباع تام. ولما كانت روسيا بدورها ليست خارج سلطان المافيات الصهيونية فهذا معناه إرجاع تركيا إلى ما كانت عليه قبل نظامها الحالي.
أو هي ستحتمي بأمريكا التي تريدها مثل الخليج العربي مجرد محميات تستخدمها هي وإسرائيل لتحقيق الامبراطورية الصهيونية في الإقليم خاصة وإيران في أفول بخلاف ما تزعم أبواقها والعربية منها على وجه الخصوص التي تدعي أن “الممانعة” انتصرت في الحرب على شعبها دون سواه.
لكن لو كانت إسرائيل تعتقد أن “الطبخة” جاهزة لما كانت أول من عارض خروج امريكا من شمال سوريا. ومغير الجاهز بعد هو بالذات من تريد “أكل المشوي” بأصابعه: أي الثورة أنظمة الثورة المضادة التي يخوفونها من الربيع والإسلام السياسي ويحاولون اقناعهم بأن تركيا هي التي تقوده ليمولوا ضربها.
وهذه الطبخة هي رهان جولة وزير الخارجية ومستشار ترومب في الاقليم. وكان من المفروض أن تكون إيران كما يحاولون الإيهام أكثر من يتوجس لكنها مطمئنة لأن الحلف الخفي الذي قصدته لا يستهدفها هي بالذات بل يستهدف تركيا التي تعتبر اليوم عندهم جميعا قائدة الإسلام السياسي.
وسواء كان ذلك صحيحا أو غير صحيح ليس هو المشكل: المشكل هو أن إسرائيل وأمريكا تمكنتا من أقناع الثورة المضادة -السعودية والإمارات ومصر وجل العرب-أن ملجأ الثورة هو اليوم تركيا وأن تركيا تمثل خطرا على محاولة استكمال ما بقيت الحرب العالمية الاولى عاجزة دونه: منع الاستئناف في الإقليم.
وتلك هي العلة التي جعلتني أدعو الاتراك وقياداتهم إلى كل المناورات الممكنة لتجنب الفخ المنصوب لأن أعداء الاستئناف لا يريدون أن تصل تركيا معافاة إلى 2023 لأنهم يعلمون أن تركيا إن بقيت سالمة من هذا الفخ ستصله وهي قد حققت كل ما وعدت به وخططت له فتصبح بمنأى عن الخطر.
لكني لا أدعي علما بالمعطيات الدقيقة فأزعم أني قادر على نصح من هم في صراع يومي معها وأعلم مني بوضع تركيا وخاصة بوضع علاقات أعدائها بعضهم بالبعض وبقوتهم الحقيقية وليس المدعاة. لكن الأعداء مهما كان بينهم من عداء يرتبون العداوات: فمن حالف ستالين يعتبر الإسلام أخطر من النازية.
وإذا كانوا قد حاربوا النازية ليس دفاعا عن القيم بل في إطار معرفة مع السوفيات وتغيير الفلسفة الاجتماعية في اوروبا التي تقاسمها الأمريكان والسوفيات فكيف لا نخشى أن يحاربوا الإسلام الذي يعتبرون السلطان على داره ثروة وموقعا شرطا في بقائهم القوة الاولى في التنافس مع العمالقة الجدد؟
لكنهم يعلمون أن ذلك مستحيل إذا لم يجيشوا كل العملاء في الإقليم ممن صاروا يعتبرون الثورة وارتباطها بالإسلام السياسي العدو الأول الذي يهدد أنظمتهم فلم يبق حلفهم مع إسرائيل سريا بل صار علنيا وما إيران فيه إلى مجرد غطاء يخفي المستهدف الحقيقي أي تركيا وليس إيران. والمطلوب من العرب شيئان لا علاقة لهما بالقوة العسكرية لعلمهم بأن هذه القوة مفقودة إلا في حالة واحدة هي اضطهاد شعوبهم والتنكيل بهم:
- التمويل لأن الحرب الحديثة مكلفة جدا ليس بشريا بل ماليا بعد مكننتها إلى حد كبير.
- بعض شرعية بدعوى أن المسلمين الحقيقيين هم الذين يحاربون ارهاب الإسلام السياسي.
وبذلك فالمطلوب إسرائيليا وأمريكيا وروسيا من العرب لا يختلف عن المطلوب من إيران وإلا لمنعوها من دخول العراق أولا ثم سوريا واليمن حاليا. فهي تفشل الثورة بالمليشيات التي غزت بها سوريا واليمن سواء مليشيات السيف أو مليشيات القلم وهم يفشلونها بالتمويل والخيانة لحركات الشباب المقاوم فيها بالاختراق والاختناق. وهذا الطلبان ساريان في الفخ المنصوب لتركيا وهو بين حتى لمجرد البصر فضلا عن البصيرة.