ه
* الشعب يريد الأولى *
اعتبر استعمال الشعب يريد ليس مجرد حرب على قوى الوطن السياسية بل هو حرب على كل النخب لتأسيس حكم الدهماء المنافية لمصلحة الشعب أي شعب وخاصة إذا انتقلنا من يريد “الحرية والكرامة” بتغيير النظام إلى يريد الانقلاب على الدولة بالنكوص بها إلى شكلها البدائي.
كنت منذ بداية الثورة وخاصة بعد أن كثر الكلام على الحكم المحلي ضد تفتيت سلطة المجتمع السياسي بقيمين يختارهم الشعب للحكم والمعارضة والخلط بينها وبين سلطة المجتمع المدني المباشرة لإنتاج شروط البقاء المادي والروحي للجماعة انتاجا متحررا من الدولة الحاضنة.
وكان لرفضي دافعان لا ينكرهما من يفهم الفرق بين وظائف الدولة ووظائف الجماعة.
وإذن فموقفي يستند إلى مبدئين
مبدأ عام
ومبدأ خاص.
- فأما المبدأ العام فهو رفض تغول المجتمع السياسي على المجتمع المدني والدولة على الجماعة إذ تتحول إلى عسكر مكسيكي يكون فيه الكل جنرالات دون جنود فتتعدد السلط السياسية بتعدد “العمديات” والمعتمديات والولايات والجهات.
- والمبدأ الخاص هو كلفة الدولة في هذه الحالة على الجماعة خاصة ونحن بلد صغير قليل الإمكانات. فالتغول (المبدأ الأول) يجعل كل ما تنتجه الجماعة من ثروة وطنية دون كلفة موظفي الدولة السياسيين والإداريين في الداخل وفي الخارج.
ففي بلد من حجم تونس مهما قللنا من حجم الدولة تبقى كلفتها كبيرة وكبيرة جدا.
وعندما تفتت بمنطق الخلط بين المستويين ستتضاعف كلفة الدولة دون أن يكون ذلك ضروريا.
فمثلا مجرد رحلة لرئيس الدولة إلى أي بلد مهما كان قريبا تكلف ما يقرب نصف مليار أي ما يمكن من حل مشكل مائة شاب.
ونفس الأمر يقال عن فتح سفارة في أي بلد.
فإن كلفتها السنوية يمكن أن تحل مشكل ألف شاب ما يحل مشكل البطالة و”يدور” عجلة الإنتاج والاستهلاك والرفاهية الفعلية للشعب الذي يريد الحرية والكرامة.
وفضلا عن قلة سكان تونس تعتبر المسافة بين العاصمة وأي نقطة شديدة القرب لو حسنا البنية الأساسية للمواصلات لئلا تبقى حاجة لما يدعى من تقريب الإدارة غير الخدماتية المباشرة من المواطن.
والمشاركة الديموقراطية كافية وزيادة لمشاركة الجميع في الوجه السياسي من تسيير شؤون الوطن.
وقد كنت ضد هذه الفكرة التي “طلع” بها المرزوقي وزعم تونس بحاجة إلى حكم على الطريقة السويسرية – المسبع الشهير – وهو قيس في غير محله بين البلدين.
فلسويسرا داعيان للحل الذي تعمل به كلاهما لا وجود له في تونس:
- فسويسرا شعبها متعدد الثقافات ومختلفها إذ بعضها ألماني وبعضها فرنسي وبعضها إيطالي وهي تدين بوجودها لضمانة الدول الأوروبية التي أنشأتها لإنهاء تنافسها عليها.
- وسويسرا تعد مصبا لكل ما يسرق من أموال الأرض التي يحكمها المستبدون والفاسدون ما يجعلها شديدة الثراء ومركز الربا العالمي.
في حين أن تونس بلد ليس مصب بل منبع لما يصب في سويسرا إذ إن جل ثرواتها يسرقها المستعمر كجل بلاد افريقيا مباشرة أو/وبعملائه فيها بصورة غير مباشرة فتضخ خارجها ما يجعل ما يجري فيها استنزاف دائم كما هو بين من عدم دخول أكثر مداخيل السياحة مثلا.
وكلفة الدولة لا تضير سويسرا في إدارة بلد حتى دون حجم تونس لأن الحكم فيها يدير ثروة لصوص العالم وهم أحرص الناس على تجنب سرقة سراق العالم حتى يبقوا على ثقتهم فيتوالى الصب في بنوكهم.
لكن كلفة الدولة على تونس حتى لو بقيت مركزية كما هي حاليا ناهيك عنها إذا تضاعفت بالتوزيع الجهوي تتجاوز إمكاناتها.
ثم هي بعد أشبه بـ”تكية” لتوظيف الوزراء والدواوين حتى بعد مغادرة الحكم وتوظيف أزلامهم وأزلام الاتحاد في الإدارة بحيث تحول التوظيف الذي هو بطالة مقنعة إلى جيش لا تجد له مثيلا حتى في الدول التي عدد سكانها ومقدار ثروتها أضعاف أضعاف ما لتونس منهما.
فإذا أضفنا أن الاكثار من الخصومات حول السلطة السياسية يمكن أن يكون مدعاة لاستعادة التفتيت الاجتماعي في شكل العودة إلى القبلية والعشائرية في كل الوحدات الحالية للنظام الإداري في البلاد فإن كل ولاية ستصبح مسرحا لمعارك قبلية على السلطة المحلية في العمادات والمعتمديات والولايات والجهات.
وبذلك فسننتقل من صراع وحيد حالي بين المناطق إلى ضربها في عدد المحليات وهي لعمري من نكبات التفتيت الذي بدأ بعد يظهر في الإكثار من البلديات والدوائر الانتخابية ومن عدد النواب في بلد عدد سكانه لا يساوي عدد سكان دائرة انتخابية في بلد متوسط الحجم في عصرنا.
فكل شعب تونس دون نصف سكان استنبول او القاهرة أو حتى حوض باريس.
* الشعب يريد الثانية ستكون نكبة أشد وأمر *
أما الآن ونحن نسمع أن فلسفة الرئيس السياسية ومعه “المفكر الماركسي العملاق” الذي يعمل من وراء حجاب فلسفة تتمثل في قلب بناء الدولة رأسا على عقب بجعل الحكم المحلي أصلا والدولة المركزية فرعا فالأمر يبدو لي سيحول جل الشعب إلى عاطلين يسوسون العدم والعطالة ويستمعون لخطبه أو يتفرجون على صلواته واستقباله الشباب المسافر راجلا كحجيج القرون الوسطى والذي يوهمه بالعصا السحرية للخطاب التي لن تزيد الطين إلا بلة.
سيكون شغلهم الشاغل باسم ما يشبه السوفيات ولجان القذافي الشعبية الصراع على لا شيء عدى تقاسم الفقر والعيش على جوسسة الكل على الكل لإرضاء المافية التي تتكلم باسم “الشعب يريد” والتي لن تختلف عن “وزاكة” القذافي ونمكلاتورا ستالين.
وكلنا يعلم أن ذلك هو ما يفسر سقوط النظام الشيوعي وخراب ليبيا في عهد حكم الغوغاء الذي يغطي على حكم الجهل كما يعرضه الكتاب الأخضر بل وخراب كل بلاد العرب التي تبنت نظرية الدولة الحاضنة التي تنتج عن هذه الرؤية حتما حتى يصبح “الزعيم” معبود الجماهير خاصة إذا اخترع صوت التونسيين على مثال صوت العرب والتي أساسها أن يصبح الجميع قواد المافية التي بدعوى تقريب الحكم من الشعب تستبد به ولا يبقى للشعب إلا اجتماعات “معمر” بالدهماء ليخطب فيهم ويقرأ عليهم كتابه الأخضر ورواياته.
وفي حالتنا ستكون فرص لنشر بحوث الرئيس في القانون الدستوري التي حيل دونه ونشرها لما كان استاذا.
ذلك أن هذه الرؤية توجد بين حالتين قصويين وحالتين تتوسطان بينهما وأصلها جميعا هو خرافة إزالة الدولة وردها إلى المجتمع خلطا بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني
في الرؤية الماركسية
أو في الديموقراطية المباشرة.
وكلتاهما تنتهي في النهاية إلى شكلي الفاشية:
- فاشية الغوغاء النقابية حيث يكون العاطلون والفاشلون هم سادة إدارة موارد الرزق كالحال فيها وهم لا “يعملون” إلا يوم الإضراب وباقي الأيام يقضونها في مناورات الابتزاز الذي يسمونه التفاوض بالإعداد للإضرابات التي تنهي الثروة باسم المساواة فيها فيعملون مع مؤسسات الإنتاج ما تعمله صاحبة الدجاجة التي تبيض ذهبا.
- فاشية الغوغاء الحزبية حيث يكون الأقدر على الفساد والاستبداد هم سادة مفاصل الحكم كالحال في الحزب الواحد وهم لا يعلمون بل يستعملون من يعلمون للعيش الرغيد دون عمل.
ويسمون ذلك سياسة.
بحيث إنك تجد بلدا بحجم تونس ما يسمى دولة فيه يلتهم أكثر من نصف الدخل القومي الخام فلا يبقى للشعب ما يجعله قادرا على تجديد شروط بقائه من الادخار الكافي لتمويل الاستثمار الضروري للأجيال المقبلة. - الغوغاء النقابية التي تصبح حزبا عماليا.
وهو ما كان يطمح إليه الاتحاد وبالذات اليساريون والقوميون الذين اخترقوه لجعله أداة سلطة مع المافية التي حكمت تونس في عهد ابن علي لأنهم لا شغل لهم إلى الاجتماعات التنبيرية والعيش على الدفاع عن البطالة المقنعة.
ولما رفض الشعب ذلك واختار غيرهم بالانتخابات الحرة صاروا أعداء الثورة وهدموا ما بقي من بنية اقتصادية على هزالها. - الغوغاء الحزبية التي تصبح نقابة سياسية.
وهو ما حدث إذ إن تضخم الاتحاد خلال الثورة ليس لعلل نقابية بل لعلل سياسية بحثا عن المشاركة في سلطة صارت أقوى من الدولة وفوق القانون.
وقد سعيت ما استطعت للفصل للإقناع بضرورة الفصل بين السياسي والنقابي دون جدوى والدفاع عن التعدد النقابي الذي ينبغي أن يوازي التعدد السياسي.
لكن الجبن السياسي الذي تلا الانتخابات كان عائقا لأن المرحوم الباجي طبق مبدأ التعدد النقابي فلم يقصر الاقتطاع على الاتحاد بحجة أنه أكثر تمثيلية. - الأصل هو الدولة الحاضنة التي ستجعل المافية الحاكمة مسيطرة على الدولة والمجتمع في آن السيطرة بحزب فاشي وبنقابة متحالفة معه أو العكس وهو عين ما عليه جل بلاد العرب. وخاصة البلاد التي سيطر عليها العسكر مثل مصر والعراق وسوريا والجزائر والسودان والأردن أو المليشيات مثل لبنان وإيران واليمن وليبيا حاليا.
الشعب يريد تعني المافية تختار تعميم العبودية والفقر
بدل الشعب يريد أن يعمل وأن تستعيد النخب السياسية والعلمية والاقتصادية والثقافية والرؤيوية دورها في مجتمع ينتج ما يسد حاجاته المادية وحاجاته الروحية.
ويقتصر دور الدولة في قوامة ديموقراطية للمحافظة على شروط الرعاية العادلة والحماية اليقظة في الداخل والخارج.
وأول المبادئ هي احترام الحلول الكونية في علاج شروط الحرية والكرامة التي لا يمكن أن تتحقق في شعب من العاطلين يجعلون المشكل كله في “التناقز” على السلطة حتى لو كانت على العدم والفقر والثرثرة الإيديولوجية لأكثر الناس عجزا عن تحقيق شيء بما في ذلك في مجال اختصاصهم.