**** الحزبية مقوماتها وأفقاها الخلقي والمصلحي الفصل الثاني
بعبارة وجيزة، استنادا إلى ما تقدم في الفصل الأول، لا وجود لأحزاب بعد في بلاد العرب. فنوعا الانظمة العربية الأقصيان هما العسكري والقبلي. وكلاهما فوق القوة السياسية التي يمكن أن يمثلها الحزب الحاكم أو المعارض فيهما، فيكون مجرد أداة يستعمله العسكر أو القبيلة وليس هو القوة السياسية. من ذلك أن حركة البعث والحركات الإسلامية كلتاهما تعسكرت بمجرد أن وصلت إلى الحكم، أو بصورة أدق، لم تصل إلى الحكم إلا بالانقلاب العسكري. ومن ثم، فالحزب فيها لم يعد قوة سياسية أو يستمد فاعليته السياسية من كونه حزبا ذا سلطان، بل من كونه أداة سلطة بيدها القوة العسكرية والأمنية والمخابراتية. فلم يبق “احزابا” إلا ما يبقي عليه هذه الأنواع الاربعة التي تحولت إلى اثنين: • إما عسكر وقبيلة من البداية • أو في الغاية لأن البعث والإسلاميين لم يصلا إلى الحكم بوصفهما حزبين، بل بالمرور بالعسكر (في الهلال) أو بالقبيلة (في الخليج) أو بهما معا في اليمن والسودان. ولذلك فبعد الثورة وجدنا الحالتين: • حركات مسلحة شبه لا متناهية حيث آلت الثورة إلى حرب اهلية (سوريا وليبيا خاصة). • و”احزاب” غير مسلحة لا متناهية حيث لم تقع الثورة بعد في حرب اهلية (تونس). وأقول لم تقع بعد لأن هذه الحزيبات وبعض قادتها ومفكريها يدعون إلى الانقلاب ومن ثم الى تسليح السياسة. مراحل تكوينية الأحزاب خمسة وتسليح السياسة الذي عرفته تكوينية الأحزاب مر بثلاثة نماذج حصلت بعد : 1. الأول هو وصول حركات التحرير إلى الحكم (مثال جبهة التحرير الجزائرية) 2. الانقلابات التي ادعت الثورة على الأنظمة التقليدية (مصر والعراق السودان اليمن) 3. ما يجري حاليا في الحرب الاهلية التي تلت الثورة. ويوجد نموذجان آخران اراهما آتيان لأنهما موجودان بالقوة: 4. أنظمة الخليج بصدد التعسكر التدريجي ما يجعلها معرضة لانقلابات من جنس ما حصل في خمسينات القرن الماضي في مصر والعراق وسوريا وما شابهها بعد ذلك في السودان واليمن بتأثير من الثلاثة الأول. والأخير: 5. هو ما يهدد تونس بالذات. فالأنظمة الخليجية و”الحزيبات” التي لا أمل لها في الوصول إلى الحكم بالطرق السلمية لا يمكنها أن ترضى بالوضع الحالي، خاصة بعد أن انفرط عقد النداء الذي كان يمدهم بأمل استثناء وحتى استئصال من يعتبرونه عدوهم اللدود، أي الإسلاميين. وبهذا المعنى، فحتى حزب النهضة فهو ليس بعد حزبا بالمعنى السياسي لمدلول الحزب، لأن الجمع بين الأساسين أعني الأفقين المرجعيين لم يتحقق بعد: فإذا سلمنا بأن المرجعية الروحية متوفرة، فإن المرجعية المصلحية ليست متوفرة بمعنى أنها لم تختر بعد النموذج التنموي الاقتصادي والثقافي. فلا يمكن الاكتفاء بالأفق المرجعي الروحي أو الحضاري ليتحدد مفهوم الحزب بل لا بد من الافق المصلحي الاقتصادي والثقافي الذي يمثل الوجه الثاني من اللحمة الحزبية: فالمرجعية الروحية أو الحضارية تمثل الامتداد في الماضي والمرجعية المصلحية الاقتصادية والثقافية تمثل الامتداد المستقبلي. ولا يمكن للحزب أن يقف على رجل واحد: الالتفات إلى الامتداد في الماضي مهم، لكنه غير كاف وخاصة إذا بقي الخطاب متعلقا بالمتعاليات الروحية من دون أن يتجلى مفعولها في المصالح الدنيوية التي هي اقتصادية وثقافية بالأساس. ولذلك فخطاب الحركات الإسلامية ما يزال من جنس الوعظ والإرشاد. والأحزاب الحديثة يمكن أن تقوم من دون الأفق المرجعي الروحي المتعالي على الدنيويات فتقتصر على الأفق المرجعي المصلحي الدنيوي إذا كانت مجرد أداة في الاستراتيجيا الانتخابية لكن العكس مستحيل: لا معنى لحزب ليس له أفق مرجعي مصلحي دنيوي يجمع قوة سياسية قادرة على الحكم بالفعل أو بالقوة. وعلامة هذه الاستحالة هي طبيعة المنتسبين للأحزاب: فإذا خلا حزب من النخب الاقتصادية والنخب الثقافية، بمعنى إذا لم يجد هؤلاء مصلحة في الانتساب إلى هذه الأحزاب، فإن جمهورها سيكون من رواد المساجد وقد يكون عددهم كبيرا لكن ليس لهم فاعلية سياسية لأن الانتخابات هي آخر شيء فيها. فقد تكون معك الاغلبية الكمية انتخابيا لكن ليس معك الاغلبية الكيفية انتخابيا، أي إنك لا تستطيع أن تحكم حتى لو نجحت في الانتخابات، لأن وظيفة الحكم لا تتقدم فيها قضايا الحياة الأخرى إلا في الأنظمة الثيوقراطية -إيران مثلا-بل قضايا الحياة الدنيا: سماها ابن خلدون رعاية المصالح العامة. والمصالح العامة نوعان: هما نوعا حاجات الإنسان في قيامه: • المادي • والرمزي. وقيامه الاول رهن الخدمات المادية التابعة للاقتصاد وقيامه الثاني رهن الخدمات الرمزية التابعة للثقافة. فإذا وجد المنتجون لما يسد حاجات الرهانين مصلحة في الانضواء في حزب كان دائما هو الأقدر على الحكم. فالحاجات الرمزية هي التي تحدد القيم التبادلية. وهي أهم شيء في أي الاقتصاد والاستجابة للقيم التبادلية (وهي كلها رمزية) تستتبع القيم الاستعمالية -طبعا النقص فيها يفسد كل شيء لأنه يخسر الحزب الجماهير- ومن ثم فهي تقوي اللحمة الملتفتة إلى المستقبل ويتعلق دائما بالرفاه في حياة البشر. والرمز هنا هو رجال الأعمال -ومنها الثقافة التي هي أحد مجالات الأعمال الاقتصادية المتعلقة بالقيم التبادلية الرمزية- والعمال. فبالقيم الاستعمالية تحصل لحمة العمال وبالتبادلية تحصل لحمة رجال الأعمال فيجمع البعدان الكمي (العمال) والكيفي (رجال الأعمال) فيصبح الحزب قادرا على الحكم.
وهكذا وصلنا إلى ما يساعد على فهم التعريف الخلدوني لوظيفة الحكم في تمييز النظرية السنية على النظرية الشيعية: فهو ليس تابعا للعقيدة كما في التشيع (الإمامة) بل هو رعاية الصالح العام باجتهاد الجماعة (الخلافة). والخلافة هنا ليست خلافة الله (تعم البشر) بل خلافة الجماعة (عقد معهم). فالحزب يتألف ممن يريد تمثيل إرادة بعض الجماعة تمثيلا ترى فيه الجماعة القدرة على رعاية مصالحها العامة. هي إذن بعض من كل يخدم الكل. الحزب هو هذا البعض من الكل الذي له استراتيجية تواصل مع الجماعة وتفاعل مع حاجاتها كقوة قادرة على حكمها برضاها وعلى رعايتها لمصالحها العامة أفضل رعاية. إذن بعدان: 1. الاول هو توفير ما يسد الحاجة المادية والرمزية لقيام الإنسان ورفاهيته في الدنيا وهذه علاقة الإنسان بالطبيعة أي استراتيجية إنتاج الثروة. 2. الثاني هو استراتيجية توزيع الثروة العادل ما يسد الحاجة المادية والرمزية لقيام الإنسان ورفاهيته وهذه علاقة الإنسان بالإنسان. وبإيجاز فالاستراتيجية الاولى تتعلق بالبعد الاقتصادي من السياسي والاستراتيجية الثانية تتعلق بالبعد الاجتماعي من السياسي. والخيارات في هذه الحالة هي التوليف بين هذين العنصرين ما يعطينا 4 + 1 = 5 خمسة حالات: 1. العناية بالبعد الأول دون الثاني 2. العناية بالبعد الثاني دون الأول 3. ثم اكتشاف أن الحل الأول يفشل لعلتين: • الأولى دوافع الانتاج • والثانية نقص الاستهلاك فيأخذ الاقتصادي الاجتماعي في الحسبان. 4. اكتشاف أن الحل الثاني يوزع الفقر لأن المبالغة في الاجتماعي يقتل الانتاج فيأخذ الاجتماعي الاقتصادي في الحسبان. فإذا ترجمنا ذلك بلغة المقابلة بين اليمين واليسار (نظام الجلوس في مجلس نواب الثورة الفرنسية) أو بلغة المقابلة بين الرأسمالية والاشتراكية أمكننا أن نصل إلى: 1. اليمين 2. اليسار 3. يسار اليمين 4. يمين اليسار 5. الوسط الذي يلعب على الحبلين هو الحزب الانتهازي الذي ينحاز للحزب الرابح.
وشيئا فشيئا، يضمر اليمين واليسار فيصبحان أقلية شبه رمزية: • الأولى شعبية • والثانية نخبوية لكنها تفقد القدرة على تجميع قاعدة تمكنها من الحكم. ولا يبقى إلا ثلاثة أحزاب: حزبان كبيران: • هما يسار اليمين • ويمين اليسار يتداولان على الحكم • وقد يحتاجان للوسط الذي هو حزب الانتهاز أو لهامش الطرفين.
تلك هي المعادلة التي تمكننا من فهم تكوينية الاحزاب بالمعنى السياسي للكلمة. وبهذا المعنى فلا يوجد أي حزب عربي إلى الآن. الحزب الإسلامي ليس حزبا، لأن الاعتماد على العامل الديني ليس سياسيا عامة وخاصة في الرؤية السنية. والحزب العلماني ليس حزبا لأن خياراته الثقافية تنفر الشعب منه. وانطلاقا من هذا، نفهم حاجة العلمانيين لصدام الحضارات الداخلي والحكم الإنقلابي والتحالف مع العسكر والقبائل. فالإسلامي يكاد يكتفي بالمرجعية الروحية وغياب المرجعية المصلحية الملتفتة إلى المستقبل. والعلماني يكاد يكتفي بالمرجعية المادية وغياب المرجعية الروحية: صدام بين المرجعيتين.
لا وجود لجدل بين برنامجين اقتصاديين وثقافيين بل صدام بين مرجعيتين. وفي هذه الحالة لن يتقدم العمل السياسي ولن تتحقق ثمرة اقتصادية أو ثقافية، لأن الإسلامي يتحول إلى مرب ديني، والعلماني إلى مرب لا ديني، ونتيجة ذلك معركة بين شعب يحافظ هو على هويته ونخبة منبتة، وتغيب السياسة.