الحزبية، مقوماتها وأفقاها الخلقي والمصلحي – الفصل الأول

**** الحزبية مقوماتها وأفقاها الخلقي والمصلحي الفصل الأول

ليس من اليسير الكلام على “تكوينية” الأحزاب في البلاد العربية، وخاصة بعد ما سمي بالاستقلال الشكلي الذي نقلها من الاستعمار المباشر إلى الاستعمار غير المباشر، ودكتاتورية الحزب الواحد سواء على اساس شرعية حرب “التحرير” أو على شرعية “ثورة التحرر” التي قادها الإنقلابيون عليها.

ويمكن أن نضيف إلى ذلك ما حصل بعد ثورة الشباب بجنسيه، أو ما يسمى بثورة الربيع العربي التي فتحت الباب على مصراعيه لتكوين ما لا يكاد يتناهى من الأحزاب أو من الجماعات المقاومة التي هي بنحو ما كان يمكن أن يكون مشروعات أحزاب لو نجحت الثورة في البلاد التي وقعت في الحرب الاهلية. فتكون التكوينية قابلة لحصر المراحل التي مرت بها إلى حد الآن، إذا انطلقنا مما قبل الحرب العالمية الأولى حيث كانت حركة النهوض والإصلاح بشكل تقليدي لم يصغ بالصورة الحزبية، إلى الشكل الحالي بالشكل الذي لم يستقر على مرجعية يمكن أن تجعلها أحزابا ممثلة لقوى سياسية فعلية قادرة على الحكم.

وهذا المعنى تعريف ضمني لمفهوم الحزب: • نظام لقوة سياسية، • قادرة على الحكم بالقوة عندما تكون كمعارضة قريبة من الوصول إلى الحكم، أي المزاحمة حقا للقوة السياسية التي تحكم بالفعل، مزاحمة سلمية في نظام التداول السلمي عليه، أو عنيفة قبل تجاوز التداول العنيف أي قبل المفهوم الحديث للحزب.

وبهذا المعنى، اعتبرت التعدد في حركة المقاومة السورية أو الفلسطينية أحزابا بالقوة بمعنى أنها في آن جماعات تقاوم على جبهتين: • تقاوم الخصم • وتقاوم من ينافسها في مقاومة الخصم أي إنها تسعى إلى تحقيق اعترافين من شعبها ترشيحا لها، ممثلة له في مقاومته ومن خصمها تركيزا لحربه عليها لتمثيليتها. ومعنى ذلك، أن التعدد الحزبي كما في تونس التي لم تدخل في حرب أهلية، والتعدد الحركي كما في ليبيا أو في سوريا، كلاهما لم يصل بعد لمفهوم الحزب من حيث هو قوة سياسية قادرة على الحكم، إما بالفعل أو بالقوة بمعنى الاستعداد التمثيلي للحصول على الأغلبية سلميا (تونس) أو حربيا (سوريا). ففي حالة الحركات، لا يحصل الانتقال إلى مفهوم الحركة الممثلة إلا بحرب بين الحركات كما يحصل في كل حركات التحرير الشعبية بحيث إن خطة العدو تتمثل في منع الحسم بين الحركات حتى تبقى المعركة الداخلية بين الحركات، مقدمة لديها على المعركة الخارجية معه لأنها شرط الشرعية التمثيلية. والعقل يقتضي التقديم المقابل، لأن الشعب يعطي الشرعية التمثيلية لما يقاوم العدو أكثر من غيره. ولأن العدو يعلم ذلك، فهو يتدخل في ذلك فيحول دون بروز أي حركة، ليبقى التنافس على أشده بين الحركات ويدخل فيها جرثومة الانقسام والتفتت وتبادل التهم بالخيانة والعمالة، وهي حرب لا تتوقف.

ونفس الظاهرة تحدث في حالات التحزب كما في تونس. فالتفتت والتعدد له نفس الغاية ونفس الآلية ونفس التوظيف بين القوى الداخلية والخارجية، والهدف هو عدم السماح بتكون قوى سياسية منظمة قادرة على الحكم الفعلي أو الحكم بالقوة، أي لها قدرة الحصول على الأغلبية لتحقيق التداول السلمي.

فلنحص الآن المراحل التي تقطعها تكوينية الحزب بهذا المعنى لتصبح كقوة سياسية تحكم بالفعل وتعارض معارضة تجعلها مستعدة للحكم في التداول السلمي، أي إنها قوة قريبة من التي تحكم من حيث الوزن والتمثيلية، غاية تصل إليها التكوينية انطلاقا مما حددناه كبداية. فالمراحل هي: 1. نشأة حزب بالمعنى الحديث في عشرينات القرن الماضي في تونس الحزب الحر الدستوري وفي مصر حزب الوفد 2. ثم توالت الأحزاب إلى أن حدثت الانقلابات 3. فألغيت الاحزاب 4. ثم فرض الحزب الواحد 5. ثم سرحت الأحزاب الكرتونية وحصلت الثورة. وعندنا ما قبل البداية وما بعد هذه الغاية.

وسأبدأ بمقارنة البداية بالغاية: فلا شك أن ما قبل تكون الأحزاب الأولى وما بعد الثورة متماثلان. فلا يمكن أن يكون الماقبل عديم التنوع الموقفي. لكنه كان مشدودا بمشروع واحد أفقه وحدة الأمة في حركة الإصلاح بزعامات دينية أو ذات مرجعية دينية مشتركة سواء في إطار الخلافة أو حتى خارجها.

ويمكن إذن أن نقول إن “عدم” التعدد الصريح لا يعني عدم التعدد في اساس وجود القوى السياسية أعني بالأساس الفروق المرجعية والفروق المصلحية بين الفئات والطبقات في الجماعة الواحدة، سواء كانت قطرية أو في الأمة ككل. لكن وجود الأفق الواحد مرتين حال دون الانتقال إلى الظهور الفعلي. كان الأفق المرجعي ذا تعين فعلي لأن الخلافة ما زالت موجودة في الأعيان فتحد من الخلافات المرجعية حتى وإن كانت فاعلية هذا الوجود معطلة، والافق المصلحي يعطل بروزه وجود المحتل في الأعيان وجودا يحول دون بروز الخلافات المصلحية. ولهذه العلة كان ظهور التحزب مقصورا على الوحدة حول موضوعين: • أحدهما يحدده الأفق المرجعي الواحد الموجب في الأعيان (الخلافة ووحدة الامة كما في حركة الافغاني وعبده). • والثاني يحدده الأفق المصلحي الواحد السالب في الأعيان -مقاومة المحتل وحرب التحرير الدبلوماسية التي صارت بالتدريج قتالية: بداية التعدد الحزبي حول أساليب المقاومة والتحرير. والمثال في تونس هو انقسام حزب الثعالبي: فأصبح لدينا الحزب الدستوري القديم والحزب الدستوري الحديث وهما متحدان في الهدف والمحلي ومختلفان في المرجعية والمنهجية. مرجعية إسلامية تجعل القطري في إطار الأمة ومنهجية جامعة بين النخبة التقليدية والفاعلية الشعبية. والتغير مضاعف. التغير المضاعف هو: • البورقيبية جعلت المرجعية تركز على القطر دون إغفال الأمة ولكن بصورة انتهازية وليس مبدئية • والبورقيبية جعلت النخبة القائدة نخبة الثقافة الغربية الحديثة -الصادقيين خاصة مع سند من نخبة فرنسا-دون إهمال النخبة التقليدية التي تنافس نخبة الحزب القديم. ولحسن حظ تونس أن النخبة البديل من التقليدية كانت مدنية ولم تكن عسكرية كما حصل في المشرق العربي ولا من المقاومة المسلحة كما في الجزائر وهو ما جعل تونس والمغرب مثلا مختلفين عن بقية العرب. لكن المحددين المرجعي والمصلحي متماثلان في كل بلاد العرب: تغير النخبة السياسية والاجتماعية. وما ساعد على مدنية الدولة وعدم عسكرتها في تونس والمغرب متعاكس تماما: ففي المغرب وجود المؤسسة الملكية التي اعتبرها الشعب ذات شرعية لأن محمد الخامس كان من المقاومين للاستعمار. لكن تونس فقدت من كان يمكن يناظر محمد الخامس (المنصف باي) فانتقلت إلى الجمهورية بمساندة اتحاد العمال.

التقابل بين تونس والمغرب هو التقابل بين الملكية (من فوق) والعمال (من تحت). ومعنى ذلك أن تونس كان يمكن أن تدخل في حرب أهلية بين بورقيبة وابن يوسف لولا وجود الاتحاد العام التونسي للشغل مع ملاحظة مهمة وهي أن السند الفرنسي للبورقيبية واضح من البداية ويمكن أن أقدم في ذلك شهادة شخصية. فغالبية الشعب التونسي كانت يوسفية بسبب ما في خطابه من تجاوز للقطرية وتمسك بالإسلامية. وهو أمر عشته طفلا لأن أسرتي حاصرها الجيش الفرنسي الذي جاء من أكبر قاعدة للحلف الأطلسي -في مدينة بنزرت- لمدة ثلاثة أيام لينزع أسلحتنا التي كنا نحمي بها أرضنا وحيواناتنا واتهمونا بأننا يوسفيون.

كما أن غالبية الشعب لم تكن راضية على إلغاء الملكية التي كانت في نظر الشعب سلطة ذات علاقة مباشرة بالقداسة الدينية وبالخلافة رغم زوالها. وأذكر وأنا طفل أن عمي الذي هو عم أمي قد فسر لنا علة اسوداد الجو يوم عزل الباي بأنه دليل على غضب الله من العدوان على الحاكم الشرعي والزيتونة. وأكاد أجزم أن الشعب المصري كذلك كان موقفه من النظام الملكي وما كان يسمى ثورة عاشه الشعب كما عاش انقلاب السيسي. وفي المرتين فإن من حقق إزاحة الشعب عن دوره هو “سذاجة” الإخوان. فهم من سمح لعبد الناصر أن يتلاعب بهم، وهم أيضا من سمح للعسكر والسيسي خاصة أن يعيد الكرة. ونفس الدور الذي نتج عن سذاجة الاخوان قام به عندنا الاتحاد العام التونسي للشغل. فهو الذي أوصل حزب فرنسا للحكم في المرة الأولى، وهو الذي أوصله بعد الثورة وهو الذي يحاول الآن محو كل آثار الثورة بنفس الفهم العقيم لخدمة الشعب. قد تكون النوايا حسنة. لكن أرضية جهنم مبلطة بالنوايا الحسنة.

وفي الحالتين -الاخوان في مصر والاتحاد في تونس-لا يمثلان مفهوم الحزب لكنهما يعملان عمله دون شروطه. فما يتأسس على مبدأ مرجعي فحسب سواء كان دينيا أو اجتماعيا لا يمكن أن يكون حزبا بحق لأن الحزبية كما أسأحاول تعريفها لاحقا لا بد لها من أفقين: • مرجعي. • ومصلحي شامل للجماعة كلها. والمرجعي يحدد أفق المنظومة القيمية الروحية والمصلحي يحدد أفق المرجعية القيمية المادية. والحزب لا بد له من الأفقين وخاصة من تحديد العلاقة بينهما في قيام القوة السياسية من حيث هي أداة لتحقيق الافقين في الجماعة ككل لتمثيل إرادتها بغالبيتها وأقليتها شرط التداول على الحكم والمعارضة.

يقوم على الموقع عاصم أشرف خضر مع مجموعة من طلاب الأستاذ ومتابعيه.
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي