**** الحزبية ما طبيعتها؟ وما مقومات مرجعياتها وفعلها السياسي الفصل الثاني
لعل عيب الدكتور المرزوقي التسرع والسعي إلى كرسي الرئاسة دون شروطه القاعدية ما يعلل مآله إلى حاطب ليل سياسيا وهو في ذلك من حيث الاستراتيجية الحزبية لا يختلف عما فعله السبسي ليصل إلى الكرسي. وكلنا يعلم أن جل الخيانات التي حصلت للمرزوقي وابن جعفرعلتها هذا الاحتطاب السريع. وهنا أتكلم على ما أعلم مباشرة وعيانا. فالكثير ممن كنا نتصورهم معنا في الترويكا قبل أن استقيل من المشاركة السياسية المباشرة بمقتضى التزام ادبي سابق وملاحظات عينية لاحقة كانوا في الحقيقة طلاب كراسي إذ سرعان ما تركوا الحزبين وانضموا إلى “فزعة” الكوكتال مولوتوف لعجلة السبسي. وبمجرد أن “فقد” المرزوقي ثقة من يسميهم “شعب النهضة” لم يعد له أدنى حظ في الوصول إلى شيء يعتد به سياسيا. وهذا ما فهمه جماعة الماراتون الأخير.لكنهم قد تراءى لهم أن “قائدا” آخر يمكن أن يمثل أملا لهم في تحقيق هواهم وخاصة إذا وجدوا السند ممن يلمح له لومهم المرزوقي على خيار مناف لهم وما يعلل تحفظاتي على المرزوقي كما بينت سابقا ليس التشكيك في كفاءته وثقافته وأخلاقه بل حصره السياسة في اعتبارها مجرد “سلوم” للوصول إلى الرئاسة أي إنه لا يفهم معنى النضال طويل النفس الذي يبني مؤسسات تجعل السياسة تكوين لحمة مرجعية تحقق قوة سياسية قادرة على وظائف الدولة. ولذلك فالعجلة التي تريد الغاية دون الأسباب الموصلة إليها جمعت في الكيان الذي يسمونه حزبا ليس قوة سياسية بل متعجلين للحكم ما يجعل الجماعة في سباق بين زعماء وليس في بناء كيان له عصبية بداية مرجعية وغاية سياسية.والنتيجة هي بلغة ابن خلدون بعصبية الولاء النفعي لخدم مستعدين للخيانة وهذا هو وجه الشبه بين النداء والحراك: كلاهما بني على عجل دون أساس متين من حيث مرجعية البداية ودون سقف متين من حيث غاية النهاية: فسرعان ما ينهار البناء لأن التواصي بالحق والتواصي بالصبر ليس من قيم جماعة لم يجمعها نضال طويل ومبدئي كما حدث في معركة التحرير وفي معركة التحرر. في معركة التحرير تكون الحزب الحر الدستوري بمرحلتيه القديمة (الثعالبي) والحديثة (بورقيبة) ودام النضال أكثر من ثلاثة عقود كلها كانت بناء ومقاومة حتى تحقق ما أمكن تحقيقه من استقلال. فكون شرعية ولحمة لجماعة ورثنا عنها ما ورثناه من تونس التي ثارت على فشل وعود المرحلة السابقة. وفي معركة التحرر كان الاستئناف الإسلامي في تونس شبه ردة فعل على فشل البورقيبية في تحقيق ما كانت تسعى إليه الحركة الوطنية توليفا حقيقيا بين التأصيل والتحديث دون صراع زائف علته التسرع مرة أخرى: ذلك أن بورقيبة لو صبر وواصل العمل لكان الاستقلال تاما ليس لتونس وحدها بل للمغرب كله وما أخشاه حقا على تونس هو هذا “التناقز والتقافز” الصبياني على السياسة من كل حدب وصوب لمن يريدون تعلم “الحجامة في رؤوس اليتامى” ظنا أن الأحزاب مجرد جهاز يوصل إلى الحكم وليس عينة من إرادة أمة تحددت لتكون ممثلة لما تضرب بعروفها فيه مرجعية (تراثها) ولما تصبو إليه غاية منشودها. وبهذا المعنى فغالب الذين أسمعهم يتكلمون على سياسة تونس ممن لا ماضي لهم في الحركة التحريرية ولا خاصة في صلة أهداف الثورة بها أستطبع أن أقول عنهم -باسثناء المرزوقي الذي كان يمكن أن يكون أحد زعماء تونس لو تحرر من العجلة إلى حد العصاب الرئاسوي-إنهم دمى لا يمثلون إرادة الشعب. ويكفيني دليلا أنهم في نظام عالمي اساسه صراع العماليق يعتبرون تونس يمكن أن تكون دولة ذات سيادة لها شروط الرعاية والحماية في الحدود التي فرضها عليها الاستعمار.تونس ليست أمة بل جزء صغيرمن أمة عظمى تماما كما فهم من هم ألف مرة اكبر منها في أوروبا وأعادوا لحمتها من أجل مقومي السيادة.
الآن وقد بينت طبيعة السياسي وطبيعة علاقته ببداية مرجعية غاية وظيفية مشروطين في تحقيق وظائف الدولة التي هي الرعاية والحامية اللتين من دونهما لوجود لسيادة للفرد ولا للجماعة لأن الإنسان حينها يفقد مقومات وجوده الحر والكريم المتعين في الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود. وبعد بينت علاقة الظرفي بالبنيوي في السياسي التي هي من جنس علاقة مقتضيات النظر الكونية ومقتضيات العمل الخصوصية باعتبار ما يحيط به من أحوال شديد التغير الذي يقتضي التكيف مع المتغيرات في الداخل وفي الخارج لأن الدول من جنس جانوس لها وجهان ملتفت إلى الداخل وملتفت إلى الخارج. يمكنني أن أن اختم المحاولة بالجواب عن سؤالين يحددان طبيعة الأهلية للعمل السياسي الذي يحقق وظائف الدولة بهذا المعنى: 1-جهاز الفعل السياسي الذي تمثله القوة السياسية التي تتولى ملء خانات الدولة المتعلقة بالحكم.2-معيارتحول المشاكل البشرية إلى الإشكال السياسي والقابل للعلاج السياسي. وكلا المشكلين تحدده طبيعة العلاقة بين الظرفي والبنيوي. وسأبد بالثاني رغم كونه الاعسر على التحديد لكونه متعلقا بالبعد اللطيف من السياسي أي بما تستند إليه شرعية أي فعل سياسي والثاني بالبعد العنيف (في إطار القانون طبعا) أي بما يستند إليه شرعية أي حاجة لاستعمال العنف الشرعي. ويمكن القول بصورة أجمالية إن المشكل الأول عالجته الفلسفية السياسية اليونانية وخاصة سقراط وأفلاطون وأرسطو والثاني علاجته الفلسفة السياسة الإسلامية وخاصة الغزالي وابن تيمية وابن خلدون. وفي الحقيقة فإن السياسي من حيث هو سياسي لم يعرف التعريف السوي إلا بعد هذه الأضافة الإسلامية. وهذه الأضافة المتعلقة بضرورة الجمع بين مبدأين أحدهما يمثل الشرعية والثاني يمثل الشوكة في كل دولة ومن ثم فالسياسة طلب دائم للتوازن بين الشرعية التي تغني عن اللجوء إلى الشوكة واللجوء إلى الشوكة عندما لا تكفي الشرعية. وهي قلما تكفي وذلك ما فهمه أصحاب الإضافة. وللحقيقة فإن اليونان كان منهم من يرى أن السياسة شوكة فحسب وأن من ذكرت هم الذين يردوا بنظرية الشرعية وفصلوا بين الامرين معتبرين الأولى دليل فساد الدولة وليس شرطا فيه عندما تكون صالحة. بمعنى أنهم يتصورون تأسيسها على بنية النفس واحترامها يؤدي إلى صلاحها. وتلك هي نظرية المقابلة بين الانظمة الفاضلة والأنظمة الراذلة مطبقة على عدد من بيدهم السلطان وعلى المعادن البشرية وقوى النفس: العقل والغضب والشهوة. فإذا حكم العقل واستعمل الغضب أمكن التحكم في الشهوات وصارت الدولة سليمة لكأن الشوكة للحماية الخارجية فحسب. ونفس هذه الرؤية تعتمد عليها الدولة الثيوقراطية: إذا حكم الإمام المصطفى إلهيا (نظير الفيلسوف المصطفى طبيعيا) بوساطة روحية ووصاية سياسية كان ذلك كافيا خاصة إذا تصور أصحابها أن الخيار الفلسفي مستحيل التطبيق: وهذه الوضعية هي التي ناقشها الغزالي في فضائح الباطنية. ففي حوار متخيل بين سني وباطني أثبت الغزالي أن امتناع الحل الفلسفي المقصور على الحاصل الديكارتي ضربا لمراتب عدد من بيدهم السلطان (واحد أو قلة أو كثرة) في قميتي الفضيلة والرذيلة لا يعني ضرورة الإمام الوصي ومساعديه الوسطاء. الدولة تحتاج إلى الجمع بين الشرعية والشوكة. فلكأنه جمع بين أفلاطون وكاليلكلاس: الاول للشرعية والثاني للقوة أو للشوكة. ويسمي من يتوفر فيه الشرطان من “الاحزاب”أو المجموعات في الجماعة ككل “معتبري الزمان”.ومعتبرالزمان عند الغزالي هو من لها المهابة التي تجعل الشعب يتبعهم لأنه يرى فيهم الشرطين:بداية من رؤيتهم وغاية من مصلحتهم ولأول مرة طبق معيار عجيب وغريب. فمجموعة معتبري الزمان -حزب-هي التي تحصل على الأغلبية الحائلة دون الحرب الأهلية أو القادرة على منعها إن وجدت نوازع تميل إليها. وهذا التعريف الجديد لمفهوم السياسة هو عين المفهوم المطبق في دستور الرسول:السياسة عقد بين قوى سياسية للرعاية والحماية وعلى هذا التعريف الجديد والذي يصلح في وجهي الدولة الداخلي والخارجي باعتبارها شرط التعايش السلمي في الجماعة وبين الجماعات الإنسانية هو الذي أصبح مفهوم السياسة الفلسفي والديني عند ابن تيمية وابن خلدون وهو المفهوم السائد إلى الآن وخاصة بعد أن كرسته الفلسفة السياسية الكلاسيكية. وفيها صار عقدا بهذا المعنى في الداخل فعليا. وصار عقدا في الخارج بالقوة أو منشودا حتى تتحقق مايسمى بالتعايش السلمي بين الجماعات في المعمورة: السياسة توازن بين شروط الشرعية (القانون) وشروط الشوكة (القوة).وبعبارة مماثلة لما سماه الغزالي منع الحرب الاهلية هي توازن القوى مع الشرعية وطبعا كلنا يعلم أن الشرعية مستويات وأن لها حدا إذا نزلت دونه وخاصة إذا فقدت مظاهر الشرعية وتلك هي علة النفاق السياسي في الداخل وخاصة في السياسة الدولة إذ إن مفهوم الشرعية الدولية يغلب عليها الخداع وإخفاء أن المسيطر حقا هو الشوكة وليس الشرعية حتى ما بقي منها في القانون الدولي ومن هنا ينتج الخطآن القاتلان في حركات المقاومة العربية -لا الممانعة-فيتخلون عن التلازم بينهما.فأصحاب ما أخذ بالقوة لا يرد إلا بالقوة يتخلون عن القوة اللطيفة أو دبلوماسية الشرعية.”والواقعيون” يستغنون عن القوة العنيفة بسبب موازين القوى فيكتفون بالدبلوماسية والمفاوضات العبثية والنتيجة الأولى التي تعنيني هي أن ذا الأهلية السياسية هو الذي يدرك هذه العلاقة بين الشرعية والشوكة حتى لا تصبح الدولة التي يختاره الشعب ليكون قيما لحين على إدارتها ضعيفة فتفقد مهابتها ولا قوية فتفقد شرعيتها وذلك شرط تمثيلها لإرادة الجماعة:الشرط هو المستوى السياسي من الإشكالات فذو الأهلية السياسية هو الذي يفهم أنه لا يوجد في الجماعة مشكل حقيقي ومشكل زائف. كل المشاكل التي تخطر على البال حقيقية. لكنها لا تصبح سياسية بذاتها بل بظرفها أو بوزنها في الظرف. فلو اهتمت السياسة بكل ما يخطر على البال لاستحال عملها. هي تعالج ما يعوق وظائف الدولة فعلا أو بالقوة ولاضرب مثال مبادرة رئيس تونس الخرف: هل مشكل المساواة في الأرث ينتسب إلى العلاج السياسي-وهو مشكل حقيقي يخطر على بال بعض النساء وليس زائفا-بمعنى هل وجوده بلغ درجة الحائل دون وظائف الدولة وعلاجه يساعد على تحسينها؟ أم اعتباره كذلك علامة على عدم الاهلية لقيادة الفعل السياسي؟ هذا المشكل اعتبره أرسطو جوهر السياسي: معرفة السنوح أو المناسبة التي تحقق إضافة أو تلغي عائق للفعل السياسي الساعي لتحقيق شروط العيش السلمي في علاج العلاقة العمودية بين الجماعة والطبيعة بشروط القيام المادي والعلاقة الأفقية بينها وبين التاريخ بشروط القيام الروحي حماية ورعاية في ظرف تونس في على أبواب الإفلاس والفوضى السياسية يتحول رئيس الدولة إلى عابث يطرح ما لم يصبح بعد مسألة قابلة للعلاج السياسي ويعطل كل المشال التي أزف علاجها السياسي بل وتأخر. وهذا يدل على أنه ليس أهلا لإدارة دولة بسبب تقديمه مصلحة حزب أو اسرة على مصالح وطن ينهار. وهذا وحده كاف عندي للحكم عليه ولا أحتاج للنظر في فهمه للحل القرآني أو للآثار الانثروبولوجية التي يجهلها هو وفريق خبرائه الأميون ولا أظنهم يعلمونها ويتجاهلونها لأنهم سكارى بما يفرحون به من دعوى التحديث الغبي ظنا أن الحداثة هي القشور التي يحاكونها وليست الجذور التي يجهلونها. واصل الان إلى السؤال الثاني. ولن أطيل الكلام عليه لأني خصصت له محاولة سابقة. فالأحزاب في الجماعات ليست أمرا اعتباطيا وهي لا يمكن أن تكون سوية إلى تجاوزت الخمسة المؤلفة من أصل وأربعة فروع هي طرفان حدان وتفاعلان متبادلان بينهما. فتكون الأحزاب خمسة. فأما الأصل فهو عتمة اغلبية الشعب أو حزب الساكتين الذي قد يخرج منهم حزب الانتهازيين الذين ينضمون لمن يرون له حظوظا في نيل الاغلبية لقيادة الدولة. ثم أربعة أحزاب واضحة المعالم لأنها متحددة ببداية مرجعية وبنهاية غائية تعتبر خياراتها محققة لوظائف الدولة رعاية وحماية. والبداية المرجعية هي إما ذات لون ديني أو تراثي محافظ وغالبا ما يسمى يمينيا (بمعيار الموقع في مجلس نواب الثورة الفرنسية) أو ذات لون لا ديني أو لا تراثي وغير محافظوغالبا ما يسمى يساريا (بنفس المعيار). والغاية هي إما تقديم إنتاج الثورة والاقتصاد على توزيعها والاجتماع أو العكس. وجرت العادة أن يسمى صاحب البداية والغاية الاوليين رأسماليا وأن يسمى صابح البداية والغاية الثانيين اشتراكيا. لكن تبين للأول أن اهمال الشرط الاجتماعي وتوزيع الثروة ضار بالجماعة وحتى بالاقتصاد.وتبين للثاني أن اهمال الشرط الاقتصادي وتركيم الثروية ضار بالجماعة وحتى بالعدل الاجتماعي فاضطر كلا النوعين إلى أخذ ما يتميز به الثاني. فأصبح لنا حزبان آخران: يسار اليمين ويمين اليسار. وهذان الحزبان هما اللذان يحكمان بالفعل والأولان يمثلان الهامش الذي يزدهما قوة خلال التنافس مع دور الانتهازيين الذين يمثلون الصامتين والباحثين عن الفرص التي تجعلهم يسهمون مع صاحب الحظ وهذا يعني أمرين: 1-تجاوز الحزب الذي لا يخدم إلا مصلحة جماعته بل هو يسعى لأن يكون جامعا بتجاوز البدية والغاية الأحادية وهو معنى يسار اليمين الذي تجاوز الرأسمالية ويمين اليسار الذي تجاوز الاشتراكية بمعنى أن الرؤية الجدلية -رأسمال وعمل- دليل عدم فهم علاقة الاقتصاد بالاجتماع. وفي الحقيقة عدم فهم أن الثقافة القائلة بالصراع الجدلي دليل جهل وليست دليل علم لا بالاقتصاد ولا بالاجتماع: فمن دون التوزيع العادل يتوقف الاقتصاد لأن المحرك الأساسي للإنتاج هو الاستهلاك. الاقتصادية عملية مخمسة: 1-علم مطبق 2-مبادة مستثمرة 3-تمويل مغامر 4-عمل منجز 5-طلب استهلاكي. ولما فهمت الاحزاب ذلك صار مدار التنافس بينها هو هذا المخمس:1- تكوين نخبة علمية 2-ونخبة استثمارية 3-ونخبة تمويلية 4-ونخبة تقنية عاملة 5-وسوق استهلاكية لا يمكن تحقيق وظيفتي الدولة أي الرعاية أولا والحماية ثانية. وتلك هي مجالات العلاج السياسي ودور الاحزاب الحقيقية. وكل ذلك شبه غائب في ما يسمى أحزابا عند العرب. ذلك أن العلاج السياسي عندهم مقصور على الصراع على الكراسي والمناورات السياسوية إذا توفرت بعض الحريات الديموقراطية أو التنافس على ضرب البندير والطبل على فتات موائد الاستبداد والفساد العسكري أو القبلي في الحالات الأخرى.