**** الحرية وشروطها دلالة إشكاليتهما الفلسفية والأصولية
لا أحد ممن له اطلاع على كتاباتي لا يعلم موقفي من المقاصد منذ حواري مع المرحوم الشيخ البوطي وحتى بعد ذلك بأكثر من عقد من خلال تعليقي على راي صديق أكبر مختص فيها من علماء المغرب. ولذلك فسأتكلم في موضوع مع التسليم بصحة القول بها لأن موضوعي ليس هي بل أمر آخر.
فقد أشار بعد الأصدقاء إلى مسألة عالجتها في حواري مع المرحوم الشيخ البوطي وهي طبيعة المخمس الضروري في المقاصد وما يزعم من توسيع لها بإضافة المرحوم شيخ التفسير التونسي ابن عاشور مقصد الحرية.صحيح أني تلكمت في فتحه القائمة وهو ما يلغي طابعها الجامع المانع فيفقدها نسقها.
وانشغلت بفتح القائمة ولم أعنى بما أضافه. واليوم أريد أن اتلكم في هذه الإضافة أعني ما سماه الشيخ الطاهر بن عاشور مقصد الحرية. وما كنت لأتكلم في الأمر من أجل هذه القضية وحدها بل الهدف تعريف الحرية فلسفيا لتجاوز مجال إشكالها الكنطي وإشكالها العاشوري: 1-مسألة فلسفية 2-مسألة أصولية.
وأبدأ بالفلسفية. ففيها حسب رأيي مغالطتان كنطيتان:1-توهم الضرورة الطبيعية مطلقة 2-افتراض الحاجة إلى حل يحررالإنسان من هذا الاطلاق مبني على المسلمات الثلاث.والمغالطتان نتجتا عن اعتبارالمعرفة العلمية إما مطابقة بإطلاق أو غير مطابقة بإطلاق فينتج من ثم أن الحل هو قصرها على المظاهر.
وقد بينت في مقارنة سريحة بحل الغزالي وابن تيمية وابن خلدون أن المعرفة الإنسانية رغم أنها ليست محيطة ليست مقصورة على المظاهر بل هي متعلقة بما يتناسب مع مدارك الإنسان من المعرفة. فنتخلص من الشيء في ذاته دون إدعاء الإحاطة والقول بالمطابقة يكفي مهفوم”طور ما وراء العقل” (الإنساني).
وهذا الطور يتفق عليه الغزالي (إذا لم يكن يتوهم أن الكشف يدرك الغيب) وعلى كل فهو ما يقصده ابن تيمية بلا تناهي تجويد التصور دون الوصول إلى الإحاطة وما يقصده ابن خلدون بعدم رد الوجود إلى الإدراك. فنكون بذلك مستغنين عن إطلاق الضرورة ووضع المسلمات الكنطية لتأسيس الأخلاق و العمل.
وما فات كنط وكل الكنطيين-رغم اعجابي به وبهم وخاصة الكنطية المحدثة-هو أن ماقاله عن الأخلاق والعمل كان ينبغي أن يدرك ضرورة قوله من باب أولى عن المعرفة والنظر. ذلك أن عقل الإنسان الذي يعلم وينظر ليس مرآة تعكس بقانون عكس الضوء في البصريات بل هو يقارن بين فرضيات ويختار المناسب منها.
وشروط ذلك هو عين شرط الأخلاق والعمل أي أن يكون فاعله ليس آلة خاضعة للضرورة الطبيعية بل هو في المعرفة والنظر يحتاج إلى نفس المسلمات. والخلاف معه أنها ليست مسلمات بل هي مقومات للإنسان. ومعنى ذلك أنها هي بدورها تعلم نظريا بمنطق التجربة الممكنة وفي حدود علمنا النسبي.
وكان من المفروض لئلا يتناقض أن يعتبر كنط ما يقوله عن العلم والنظر في نقده هو بدوره ليس علما إلا بمظاهر العلم والنظر لأن هذين هما بدورهما ظاهرتان من الطبيعة ولهما قوانين في ذاتهما ومن ثم فالمقابلة مظاهر شيء في ذاته ينبغي أن تنطبق عليهما. فيكون ما يقوله عنهما هو بدروه بعيدا عما هما عليه في ذاتهما.
وتلك هي علة الوصل بين المسألتين الفلسفية والأصولية على الاقل في الإسلام الذي هو كما سبق أن بينت قرآنه هو في آن نظام الديني والفلسفي في آن. ذلك أن مفهوم الحرية المؤسس للأخلاق والعمل وكذلك للمعرفة والنظر هو مفهوم التكليف الذي هو المقوم الأساسي لمعنى الاستخلاف أو لحقيقة الإنسان.
وهو ما حاولت بيانه بشرح بداية سورة الرحمن: “الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان”. وهذه العناصر الخمسة هي آلاء الرب الذي قد يكذببها الكائنان المكلفان (أي المخلوقان للعبادة: وما خلقت الجنس والإنس إلا ليعبدوني) وهو أصل التكليف وفروعه الأربعة هي المعرفة والنظر والأخلاق والعمل.
فـ”علم القرآن” تناظر”علم آدم الأسماء كلها” والتذكير المحمدي ليس شيئا آخر غير التذكير بالقرآن المرسوم في فطرة الإنسان وهو “الأسماء كلها” أي ما يمثل شروط المعرفة والنظر ليقدر على علاج العلاقة العمودية مع الطبيعة والأخلاق والعمل ليقدر على علاج العلاقة الأفقية مع التاريخ.
ولذلك نجد التناظر بين “علم القرآن” و “علمه البيان” وبينهما “خلق الإنسان” ومن ثم فخلقه يتضمن ما في “برنامج كيانه” علم القرآن بمعنى القدرة على التسمية التي هي شرط المعرفة والنظر وشرط الأخلاق والعمل والنوعين المضاعفين هما شرطا تعمير الارض والاستخلاف.
فيكون كيان الإنسان متضمنا شروط تعاليه على الضرورة بما له من قدرة على المعرفة والنظر والأخلاق والعمل أي إن الفطرة فيها شروط حرية الإنسان وخلود النفس والإيمان بالله أو بما يعتبر خالق الطبيعة والتاريخ وآمرهما مباشرة وبتوسط الإنسان الذي له شروط التعمير والاستخلاف.
فلا تكون الحرية نقيضا للضرورة فيكون كل منهما متسثنيا للثاني فتكون القوانين الطبيعية التي هي ثمرة الضرورة حائلة دور السنن التاريخية التي هي ثمرة الحرية بل إن الحرية هي هذه القدرة الإنسانية على المعرفة والنظر وعلى الاخلاق والعمل ومجموعها هو معنى “الإنسان الخليفة” في القرآن.
وما أنا واثق منه هو أن الشيخ الطاهر بن عاشور على فضله وعلمه خالي البال من هذه الإشكالية فيتكلم على الحرية بصورة غامضة دون تمييز بين الدلالة القانونية (حر-عبد) والدلالة “الميتافيزيقية” التي انطلق منها كانط. وكلا التصورين مبني على مغالطة جوهرية: وتلك علة مسلمات كنط وإضافات ابن عاشور.
شرحت مغالطة كنط لاثبت أن فرضيته علتها اطلاق الضرورة الطبيعية والحرية الإنسانية. فالإنسان من حيث هو إنسان له القدرة الطبيعية على التعالي على الطبيعة ليعلمها والتنظير لقوانينها بخيارات غير ممكنة من دون تحرره من مجرد عكسها وكأنه مرآة بل له حرية التعامل بفضل اكتشاف القوانين.
لا يمكن للأخلاق والعمل أن يكونا ممكنين من دون المعرفة والنظر بالقوانين التي تصبح بفضل المعرفة والنظر وما يترتب عليهما من أخلاق وعمل أن يكتشف شيئا آخر مع القوانين الضرورية اي التي ليست من صنع الإنسان السنن التاريخية التي هي من صنعه بمقتضى ما في كيانه من هذه الشروط الخمسة.
فلو لم يكن ذا إرادة وعلم وقدرة وحياة ووجود حتي بالقدر النسبي التي له لاستحال على الإنسان أن يعلو على مجرى الطبائع والشرائع ليسهم فيها اسهاما فيه تكليف وعليه جزاء موجب أو سالب وهو حصيلة معرفته ونظره وأخلاقه وعمله. وبهذا المعنى فالإنسان خليفة بهذه المعاني الاربعة لتحقيق مهمتيه : التعمير والاستخلاف.
نأتي الآن إلى خطأ ابن عاشور. طبعا هو لا يتكلم على على الحرية بعد تعريف فلسفي دقيق بل هو يستعمل معنى سياسي فيه شيء من الانتساب إلى الموضة لأن الشيوخ عادة لا يميزون بين الفلسفي و”الحداثي” بمنطق التوفيق. لو كنت أقول بالمقاصد لاستغنيت عن غير الخمسة الضرورية لأنها نسق مغلق.
وهي بالذات عين الحرية بالمعنى الجامع للديني والفلسفي أي التكليف الذي هو خاصية الخليفة خاصة (وهو أحد الموجودين اللذين خلقا للعبادة) لأنها تتلق بالمقومات وليست المقاصد. فمقاصد الله حتى لو ظنت نسبية إلى الإنسان لا معنى لها لأن الله غني عن التعليل وإلا لكان خلقهما أولى شيء به.
فحصر خلق الجن والإنس في العبادة وكأنها تعليل لا يمكن أن تكون مقصدا ناهيك عن التعليل وإلا لكان ذلك يعني أن الله ليس متغنيا عمن يعبده. لذلك فالأمر لا يتعلق بمقاصد ولا بعلل بل هي شروط العبادة أو مقومات الإنسان الخليفة أعني الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود..وتتعين في معينها.
وهذا المعين هو عناصر البنية التي سميناها المعادلة الوجودية: الله-الطبيعة (الله-الإنسان) التاريخ-الإنسان. وهذه المعادلة ليست أمرا ذهنيا عند الإنسان بل هي عين كيانه. فالملكية صلة بالطبيعة والكرامة صلة بالتاريخ وصلته بهما وبما ورائها أساسها الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود.
والعبد لا يملك. والعبد لايفكر والعبد لا يدين والعبد لا كرامة له والعبد لا يملك حياته وما يترتب عليها. فتكون الملكية حرية والدين حرية والعقل حرية والكرامة حرية والحياة حرية. وهي إذن ليست مقصدا سادسا إن سلمنا بنظرية المقاصد بل هي جوهر المقاصد الـ5 تعينا لـ”معاني الإنسان الخليفة”.
الحرية ليست مقصدا سادسا يضاف إلى المقاصد الخمسة الضرورية -إن قبلنا بنظرية المقاصد- بل هي ملكية للحر وحده ودين للحر وحده وعقل للحر وحده وكرامة للحر وحدة وحياة للحر وحده. من لم يكن حرا بالمعنيين الفقهي (مقابل عبد كمنزلة قانونية) ليس له أي منها ومن ثم فهي عين الحرية بالجمع.
فسواء استعملنا كلمة العبد بالمعنى القانوني كما في تحرير العبيد أي منزلة قانونية أو استعملناها بمعنى خلقي وجودي لا يمكن أن يكون العبد مالكا بل هو مملوك حتى لو حاز شيئا من المملوكات بدليل أنه يصبح عبدا لها وليس سيدا عليها. بالمعنى الخلقي العبد لا يملك حتى لو حاز مملوكات فهو مملوك لا مالك لها.