ه
لو لم أكن قد طلقت السياسة طلاقا بائنا لدخلت السباق الذي كثر حوله الردح المبني على العلاجات “الرعوانية” للوضعية السياسية التونسية ببرنامج يغير اللعبة كلها ويتوجه مباشرة لعلاجها بحلول بسيطة مؤلفة من المراحل التالية:
- أولا لا بد من التسليم بالفشل الذريع لكل القوى السياسية الموجودة في الساحة لأنها لم تخرج من العلاج الوهمي لأدواء لم يقع تشخيصها التشخيص الفعلي لتحديد العلاج الذي لا يداويها تونس بدائها اي بالاستدانة إلى “شوشة الراس”.
- ثانيا اعتبار الأمن الوطني مقصورا على الحماية -أي الدبلوماسية والدفاع- بل هو يشمل الشروط الضرورية للرعاية التي من دونها لا معنى للحماية. والرعاية تعني على الأقل حل مشكلة الجهات المحرومة ومشكلة فاقدي مورد الرزق والحياة الأسرية بسبب البطالة. فلا أمن من دون هذين الشرطين.
- ثالثا تجنب الاعتماد على التسول لتحقيق الرعاية فافكر في حل مشكلات تونس بالتسول ومن ثم فينبغي تجنب الاستدانة من غير الشعب نفسه بحيث ينبغي الاقتصار على التكافل الوطني بحل الـ”طي الجمعي” أي تطبيق الموجود على المفقود لجعله يجود بما يسد حاجة الجماعة بما بينها من أواصر. فالنامي من الجهات هو الذي ينمي غير النامي منها.
- رابعا وبحل الـ”طي الفردي” أي تطبيق العامل من السكان على العاطل منهم فيكون اقتراض الأساس من الأول بفائدة محترمة لتمويل الاستثمار الذي يستعمل الثاني لمدة معينة حتى إذا دارت عجلة الانتاج أمكن سداد الدين والفائدة للقرض الداخلي والذاتي للجماعة.
- وأخيرا تحرير المجتمع من الدولة الحاضنة حتى يصبح هو المنتج وتتفرغ الدولة لأساسيات الأمن والحماية أعني كل ما ينبغي ان يكون راعيا للمجتمع الاهلي المنتج لما يسد حاجاته الاقتصادية والثقافية بذاته وليس بدولة حاضنة لم يعد لها ضرورة فضلا عن كونها أعجز من أن تؤدي هذه الوظائف وإذا أدتها فهي تصبح موزعة للفقر وحائلة دون الحريات والكرامة.
فما هو التشخيص والعلاج؟
حيثما التفت اليوم في تونس وجدت “مرمات” مفتوحة في معركة ديكة حول الانتخابات المقبلة في نهاية هذه السنة والكل يحلم بان المعجزات ستحصل على يديه وأنه “سينقذ” تونس من ا لانهيار الذي ينتهي إليه في تشخيص الحالة ويتهم خصومه بالمسؤولية عنها ولا أحد يفهمنا علة ما حدث فأدى إلى هذه الوضعية.
ذلك أن مجمل ما يروج له في التشخيص هو أن الوضعية الحالية هي بنت سنوات ما بعد الثورة أو الانقلاب أو المؤامرة لا يهم الاسم الذي يمكن أن يعطى لهذه السنوات الثمانية العجاف إذا كان ما قبلها عهد السنوات السمان. ولن أحاول العودة إلى الماضي وسأقبل بهذا التشخيص فرضية عمل للإصلاح المنتظر.
وطبعا لا يمكن أن نعتبر التشخيص الذي يعتمد على تبادل التهم بين القوى السياسية -تسليما بوجودها لأن ما يسمى أحزابا ليس له منها الاسم بما في ذلك الحزبان الحاكمان منذ الثورة إلى الآن إذ بعد الترويكا صار الحكم بنحو ما محصورا في حزبين هما الحاكمان حاليا-في غياب برامج للمستقبل.
فالبرامج كلها سلبية إذا ما استثنينا ما يجري حاليا منها أعني برامج الارتهان للاستدانة والتبعية المطلقة للمساعدات ورقابة البنك أصحابها لأن تونس اليوم عادت إلى ما يشبه الكوميسيون المالي الذي أعدها إلى الحماية وهي ما تزال موجودة بل يمكن القول إنها أشد من السابقة وإن كانت أخفى منها.
وهي أشد ليس لأن الاستعمار كان أرحم بل لأن الاستعمار كان حينها شبه مقصور على “الدولة” ولم يكن له تأثير كبير على الشعب لأن الدولة نفسها لم تكن ذات تأثير عليه لأنه لم يعرف بعد الدولة الحاضنة التي هي غول يسيطر على كل شيء ويتقاسم كل شيء مع غول ثان هو نقابتا العمال والأعراف ومافياتهما.
في مرحلة الكوميسيون المالي كان اخترق “الدولة” التي لم تكن مخترقة للمجتمع الذي كان شبه مستقل ماديا وثقافيا عنها لكنه اليوم مخترق المجتمع كله مع الدولة التي تخترق كل حياته المادية والثقافية وتتقاسم مافياتها ومافيات النقابتين معه كل موارد تونس المادية والثقافية مع كثرة المخترقين.
فالـ 216 حزبا تمثل هذه الاختراقات لأنها في الحقيقة لا تمثل قوى سياسية ذات وجود فعلي وقاعدة شعبية بل هي “دكاكين” ومقرات الاختراق المتعدد وهو المتعدد الوحيد في تونس لأن الفكر متكلس ومحنط وجامد سواء كان إسلاميا أو كما يسمون أنفسهم “حداثيا” و”ديموقراطيا” يدعو إلى “البيان الأول”.
فتجد فيهم عملاء فرنسا ثم عملاء إيران ثم عملاء إسرائيل ثم عملاء تركيا ثم عملاء قطر ثم عملاء الإمارات ثم عملاء السعودية ثم عملاء أمريكا وعملاء روسيا ثم عملاء المافيات الدولية وأخيرا العالفين من تبن كل هؤلاء والعارضين أنفسهم في سوق النخاسة: إذ كيف اصدق كل هذه الغيرة على الوطن؟
وعندما أسمع نواحهم ونديبهم على تونس وخاصة المعروفين منهم منذ العهد السابق والمشاركين في اغراقه في كل ما يعانيه اليوم لا أستطيع أن اتوقع خيرا من الانتخابات المقبلة. فهي لن تقدم حلا لأي مشكل. فاليسار والقوميين لا يمكن أن يمثلوا حلا إذ هم يصفقون للسيسي وبشار وحفتر والإمارات والسعودية.
والنداء والنهضة أفلست كل مناوراتهما والشعب نبذهم كما بينت الانتخابات البلدية. وكل الاحزاب الجديدة التي تكونت الآن أو التي يعد أصحابها بالجري لإنقاذ تونس هي فقاعات لا تمثل شيئا لأن حظوظ رئيس الحكومة الحالية أشبه بحظوظ الصفر فاصل المعهود بمجرد أن يفقد السلطة وهو سيفقدها.
لكن على فرض بقائه وبقاء الحلف بينه وبين النهضة فإن المنتظر أن يتواصل برنامجهما الحالي وهو فاشل من الآن ولن يتغير. ومن يمولهم سيفرض شروط جديدة تتجاوز الاعتراف بإسرائيل وبتغيير قيم المجتمع وبقاء الحال في استغلال فرنسا لثروات البلاد وسلطان مافية الاقتصاد الموازي والنقابتين.
سيعاب علي ثلاثة أمور:
- أني استثني نفسي مما أنسبه إلى غيري
- أني أبالغ في قتامة الوضع
- وأني اتهم جميع الأحزاب بالإفلاس الفكري والبرنامجي.
والمعلوم أنه يعاب علي كذلك أمرين آخرين: - نفي إمكانية التحرر من التبعية بالحجم الحالي
- تغيير الحجم لأن عصر العماليق لا تعيش فيه الأقزام.
لكن هذين الأمرين الأخيرين عالجتهما سابقا وليس هذا محلهما. سأكتفي بالثلاثة لأجيب باقتضاب: - لا أستثني نفسي لأني لست سياسيا وهذا اللوم كان يمكن أن يصح علي لو أني لم أخرج نهائيا من السياسة.
- الوضع أكثر قتامة مما وصفت والكل يعلم ذل.
- إفلاس الأحزاب حقيقة بينتها الانتخابات وتوهم الحجم مسألة ثانوية.
هل معنى ذلك أني يائس من إمكانية إنقاذ الوضعية؟
لا أبدا.
لكن ذلك يقتضي أمرين كلاهما غير متوفر لدى القوى السياسية التي هي ليس لها من القوى السياسية إلا الاسم: - الاتفاق بين “الثعالبي وبورقيبة” على برنامج جبهة إنقاذ يجعل المجتمع معتمدا بالتدريج على نفسه وليس على دولة حاضنة بلا حضن.
- وأن يعمل الفكر السياسي المبدع فيعالج قضايا العطالة الحالية في الخمس سنوات المقبلة هما:
• حل مشكلي الجهات المحرومة خلال السنتين سنة الماضية
• حل مشكلي العاطلين الذي أنتجهم نظام التعليم الفاشل الذي لم يعطهم أدنى تكوين خارج ما يؤهلهم للبطالة المقنعة أي التوظيف في الدولة وشركاتها.
فما هما مشكلا الجهات المحرومة؟ - القاعدة الأساسية أي شروط المواصلات والاتصالات الحديثة.
- الاستثمار في ما تختص به من شروط التنمية بحسب ما فيها من ثروات طبيعية.
وما هما مشكلا العاطلين: - تيسير الحياة العضوية أي بحل مورد الرزق والسكنى
- تيسير حياة أسرية أي بحل مشكل الزواج ماديا وقانونيا.
والإبداع السياسي يمكن أن يحل ذلك بيسر إذا اعتمدنا على الموجود دون استدانة.
فالحل السياسي المبدع إذا تحقق الحلف بين القوتين السياسيتين الأكبرين وأقصد بهما الثعالبي رمزا لحركة التأصيل وبورقيبة رمزا لحركة التحديث ما يقتضي الصلح بين الحركتين سيمكن من تطبيق العلاج بـ”الطي”. - نأخذ خارطة تونس فنطوي الجهات المحظوظة على الجهات المحرومة لتكون الأولى قاطرة للثانية.
- ونأخذ السكان الذين لهم مورد رزق في تقسيم العمل في تونس حاليا ونطويهم على العاطلين معتبرين إياهم مصدر الادخار والاقتراض لبداية مهمة تحقق انطلاق محترم لتمويل الاستثمار الوطني المتحرر من التبعية. فهو سيوفر مواقع العمل المنتج للعاطلين فنطلب منهم خلال السنوات الخمس ادخار نسبة معينة من دخلهم.
ويكون ذلك بفائدة معقولـة ومشجعة لادخارهم مساهمة منهم في حل مشكل العاطلين الذي يمكن تبسيطه إذا اعتبرنا طبيعته التي هي ضمان شروط الحياة الغذائية والجنسية وهما سر كل استقرار في المجتمعات البشرية فإن الحل ينزل بعددهم إلى النصف: نصف مليون عاطل.
كيف حسبت نصف مليون؟
وما مقدار مساهمة العاملين في تمويل استعمال العاطلين؟
طبعا هم لن يمولوا كل الاستعمال بل بعضه أي بعض ما كانت الدولة ستستعيره من الخارج بالعملة الصعبة والباقي من الميزانية. أما كيف حسبتهم نصف مليون فالعلة أني اعتبر مشكلهم الاول هو تكوين أسرة بمورد رزق ومسكن.
ولما كان عددهم الحالي مليون فتكوين الأسرة إذا اعتبرنا عدد الذكور وعدد الإناث متقاربين وسهلنا الزواج بمورد الرزق والمسكن صار كل زوجين بحاجة إلى عمل واحد مؤقتا حتى تدور عجلة الانتاج فيعمل شريكه وقد يكون الواحد الذي يعمل الزوج أو الزوجة لا يهم.
وإذا دارت العجلة أصبح بالوسع استخدام أحد الزوجين الثاني. فتزول البطالة بالتدريج لكلا الجنسين. وهذا الحل ليس له مفعول رجعي بمعنى أنه لا ينطبق على الأزواج الذين يعملون الآن فليس الحل مفيدا أن القصد كل أسرة يعمل منها أحد الزوجين بل معناه هو حل مؤقت للعاطلين حتى نتجاوز أزمة البطالة بالمتوفر حاليا من مواقع العمل وهي قليلة.
أما العمل الذي يفتح فهو في المجالات الخمسة التي تحتاج إليها تونس: - تعويض المتقاعدين من العاملين بعد التخلص من البطالة المقنعة أو الزائد عن الحاجة بين موظفي الدولة وشركاتها.
- وبناء القاعدة الأساسية للمواصلات والاتصالات
- والزراعة
- والصناعة
- والخدمات التابعة لهما وهي كلها سريعة التأثير في التنمية.
لو حسبنا: فسيكون المطلوب من مليونين يعملون حاليا ونصف المليون الذي سيخرج من البطالة أن يدخروا نسبة محددة من أجورهم لمدة خمس سنوات بفائدة محترمة يستردونها بعد خمس سنوات لا تتجاوز اثنين ونصفا ويدخر أرباب العمل ضعف ما يدخره العمال والبقية على الدولة كان ذلك كافيا لمورد رزق العاطلين.
ولو سالت العاطلين حاليا لكان مشكلهم الأساسي هو ما سميته مشكل المائدة والسرير: حل مشكل الاسرة يعني في حالة مجتمع فاقد للاستقلال في مصدري الحياة أي الأكل والجنس لا يمكن أن يستعيد هذا الاستقلال قبل البدء بهما شرطا للسلم المدنية والاستقرار المادي والنفسي للتفرغ للعمل المنتج.
وإذا كان الشعب بحق يريد أن يكون شعب أحرار مستقلين عن مد اليد الذي هو أصل كل تبعية فإن حل الطي هو الحل الوحيد: الجهات المحظوظة تعمل قاطرات للجهات المحرومة. والعاملون يساعدون العاطلين. والمساعدة ليست بدون مقابل لذلك فهي تعتبر ادخارا بفائدة محترمة. واصحاب العمل أقدر على المساعدة.
وحينها يكون الشعب مدينا لنفسه وليس لغيره. وهذا هو الحل الذي يكون في آن تحريرا من الضرورات الطبيعية اي التبعية للحاجات المادية ببناء الأسر شرط الاستقرار المادي والروحي للشباب (الأكل والجنس) ومن الضرورات السياسية اي التبعية للحاجات الروحية وهي تتعين في الحرية والسيادة: شرطي العزة والكرامة.