الحرية الفردية أو العلاقة بين القانون الطبيعي والقانون الخلقي – الفصل الثاني

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله الحرية الفردية أو العلاقة بين القانون الطبيعي والقانون الخلقي

حددنا خمس مسائل حول الحريات الفردية في الفصل الأول وتلكمنا في الأولى التي هي أساس البقية “ملكية الذات لذاتها”. فلنمر الآن إلى شروط تعينها في وجود الجماعة أعني “ملكية ما تملكه الذات من الأشياء” أو بصورة عامة الملكية. وهي في الرؤية القرآنية ثاني معيار لحرية الإنسان ذكرا وأنثى. فالاعتراف للمرأة بالملكية هو أساس الحرية وأساس الطابع التعاقدي للزواج في الإسلام. فالعبد لا يملك شيئا ولا يتعاقد والمتعاقد لا يفقد ما يملك بعد التعاقد ولذلك فالمرأة تبقى سيدة ملكها بعد الزواج وهي المتصرفة الوحيدة فيها ومن بين هذا الحق قابلية التفريط الطوعي شرط موضوعية الذاتية. فالموضوعي من الذاتي هو ما يصدر عن مقومات الذات أي الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود. وكلها تصبح موضوعية بفضل التصرف في الملكية ملكية الإرادة وملكية العلم وملكية القدرة وملكية الحياة وملكية الوجود أي رؤاه. والتبادل في الجماعة هو “السوق” التي تتجلى فيها موضوعية الذات. والآن ما مصدر هذا الحق أو الحرية الفردية؟ هل هو بسبب كونه “ثمرة” فعل الفرد كفرد؟ أم هو مثل ما رأينا مستوى متجاوز لكيانه العضوي إلى حقيقة ليست فردية في شيء. فما يملكه الإنسان نوعان: 1. متعين في كيانه (الكفاءات والملكات). 2. متعين في ثمراتها كيانه (الأشياء المملوكة القارة والمنقولة). هل يوجد شيء منها يمكن بحق أن نقول إنه فردي؟ من البين أن نفي الفردية على المتعين خارج الذات لا يحتاج لكثير من الكلام فهو دائما ثمرة عمل جماعي بمادته وبصورته (بيت سيارة تأثيث إلخ.. أو حتى ملكية أرض) لكن الشك يدور حول الكفاءات والملكات الشخصية. فهي تبدو فردية بإطلاق. وغالبا ما يعتبر ذلك من إبداع الفرد وليس للجماعة فيه دخل. فيدعي “صاحبه” أنه حر في إبداعه يفعل به ما يريد. ونفي ذلك يعاب على أفلاطون مثلا لأنه يعتبر أول من أسس “للمراقبة” الرسمية للإبداع الفني خاصة. يعاب على الأديان كذلك ويعاب على القوانين التي تحد من “الحرية” الفكرية. وطبعا فوراء هذا الموقف الموجب والسالب القائل بالمراقبة والنافي لها مضمرات لا بد من جعلها صريحة حتى نصل فيها إلى تحديد ما يترتب على طبيعتها من حيث هي حريات خلقية من جنس التي درسناها في الفصل الاول. ونبدأ بالقائل بالحرية الفردية المطلقة أو حق حرية التعبير التي هي التعبير عن الحرية. ولرفض المراقبة حجتان قويتان جدا: 1. معايير تحديد شرعية من له حق المراقبة. 2. ومعايير الرقابة وخاصة في مجال الإبداع الذوقي. لكن حتى الإبداع العلمي فإنه قد أصبح في مأزق المعايير الخلقية المتعلقة بشروط حماية الحياة والعالم مما قد يترتب عليه من ضرر بهما قد يهدد وجودهما. لكن ما يعنيني شخصيا قبل البحث في ذلك هو: هل صحيح أن كفاءة الإنسان وملكاته أمر فردي لصاحبهما حق الملكية المطلق عليهما؟ أم إن التراث الرمزي امر جماعي وإنساني كوني (بمنظور الحضارة والتاريخ) وله ما يناظر الارث العضوي الذي هو أمر جماعي وعضوي كوني (بمنظور الحياة والطبيعة)؟ وسآخذ المستوى الأدنى من الإبداع الرمزي: لنفرض أن جماعة ما تركت الحرية المطلقة للكتابة دون احترام قواعد لغة التواصل فيها. فماذا سيحصل؟ فما رأيناه في علاقة ذات الفرد بأصوله (الحيوان المنوي والبويضة) وبفروعه (الوراثة العضوية) سنرى مثله في علاقته بالتراث الثقافي وبأدوات التواصل. والمعلوم أن المراقبة اللسانية في الجماعة جماعية وهي تشبه العقاب اللامحدد لمن يلحن مثلا في العربية: فهو يشعر بعقدة نقص إزاء المتمكنين من اللغة فضلا عن كونه لا يستطيع تبليغ مقاصده في التواصل. فتكون الرقابة من جنس الرقابة الخلقية في السلوك المتعلق بمسألة ملكية البدن التي رأينا. وما قلناه عن التعبير اللساني يقال عن كل فن من الفنون التي لها نظام من أجناس القول وأساليبه هي “أخلاق” ذلك الفن وقواعده ومن يخالفها “يعاقب” بالازدراء وعدم النجاح وفي ذلك دون شك “مراقبة” ضمنية مثل مراقبة تعامل الإنسان مع بدنه في الجماعة حشمة ووقاحة وآدابا وعقودا خلقية (كالزواج). وما يصح على “حرية” التعبير التي هي تعبير عن الحرية والتي تظن أمرا ذاتيا بإطلاق وتمثل حقا فردا لا جدال فيه هو من باب أولى يصح على “حرية” ملكية الاشياء. وذلك لعلتين: 1. فهي مثل الفكر والبدن ثمرة عمل جماعي موروث عن الاصول ومورث للفروع 2. وهو الأهم لأن تعينها يتحقق في الفضاء العام لو قال شخص أنا حر في بيتي أو في حديقتي أفعل ما أريد كأن اخرج عاريا أو أحدث ما أريد من ضجيج فهذه الحرية التي تبدون تصرفا في ملكية شخصية محدودة بكونها مندرجة في ملكية عمومية هي الفضاء العام من حول بيتك أو من حول حديقتك. هل يحق لك أن تعد مسبحا في حديقتك دون احترام أجوارك؟ وإذا أنت لم تحترم هذه الآداب بـ”رقابة ذاتية” هل ينبغي أن توجد رقابة أم لا توجد؟ ثم هل هذه الرقابة الذاتية والعامة واحدة في كل المجتمعات أم هي نسبية إلى الثقافات المختلفة. والأهم هل يحق لأقلية أن تفرض معايير ثقافة مستعمرها على شعبها بدعوى أن مستعمرها أكثر تقدما وعلينا تقليده؟ ثم أليس من يدعو لتنحية معايير ثقافة باسم معايير ثقافة هو الذي يقوم بـ”الرقابة” على الأولى من منطلق الثانية؟ كيف يحق لزيد أن يرفض مراقبة عمرو وتعويضها بمراقبة من يحاكيه زيد؟ مثال ذلك أن من يعارض زي المرأة المحتشم باسم زي يعتبر غير محتشم في ثقافتها أليس هو “سنسور” لغيره؟ ما الذي يجعل العري يعتبر حرية فردية والستر عدم حرية فردية؟ وما الذي يجعل التسيب الجنسي حرية فردية والعفة عدم حرية فردية؟ وفي النهاية السؤال هو ما الذي يجعل عادات شعب غالب قيما عالية وعادات شعب مغلوب قميا دانية؟ أليس هو دليل استعمار ذهني وروحي لا أكثر ولا أقل؟ لكن الأهم من ذلك ما علاقة هذه العادات بالتقدم والتأخر المتعلق بشروط القيام المستقل وغير التابع أعني القدرة على اعالة الذات وحمايتها؟ هل النخب التي تدعي الحداثة ستجعل بلادنا بما تحاكيه أقدر على سد حاجات رعاية شعبها وحمايته أم هي ستزيده تبعية فيهما لأنها نتائج دون مقدمات؟ هل إذا “عشنا” مثل الأوروبيين سنصبح متقدمين مثلهم في الإبداع العلمي والتقني والتنمية الاقتصادية والعلمية والثقافية أم إن ذلك سيزيد من الاستهلاك دون الانتاج فيمتنع على البلاد تكوين النسيجي الاقتصادي المتطور بكلفة نقدر عليها حتى نتمكن من تأسيس شروط التحرر؟ هل لو فعل نمور آسيا مثل العرب فبدأوا بمحاكاة نمط العيش الغربي بدل شروطه أعني ما فعله الأوروبيين في بداية نهضتهم -الثورة العلمية والتقنية وتنظيم العمل- كان كانت تحقق ما عجز عنه العرب الذين بدأوا قبلهم بأكثر من قرن ونصف؟ وأقول هذا عن معايشة: كيف يعلم الصينيون والمالويون والهنود. أما أدعياء الحداثة من العرب فأقل شيء يهتمون به هو العمل والإنتاج. يريدون الدولة الحاضنة والتوظيف والعزوف عن القطاعات المنتجة ويطالبون بحقوق نقابية لم تتحقق في الغرب إلى بعد أربعة قرون من الانتاج ومن استعمار العالم ونهب ثرواته. لذلك تفشل النهضة العربية فضلا عن تفتيت جغرافيتهم. كلما حاولت أن أفهم ما يجري في عقول هذه النخب وصلت إلى طريق مسدودة. ولا يمكن أن أفسر ذلك تفسيرا عرقيا ولا حتى ثقافيا لأن الأتراك والمالاويين وحتى الهنود ليست ثقافتهم مختلفة عن ثقافتنا. فما السر إذن في هذا العقم الفكري والفساد الخلقي عند نخب العرب بأصنافها الخمسة؟ ما الذي يجعل نخبة الإرادة (الساسة) ونخبة المعرفة (الجامعيون) ونخبة القدرة (الاقتصاديون) ونخبة الحياة (الفنانون) ونخبة الوجود (أصحاب الرؤى) كلهم يجمعون على فهم كل شيء بالمقلوب؟ كيف يمكن ألا يفهموا أن النهضة اجتهاد وجهاد مرير وأن لها شروطا موضوعية أهمها الحجم في عصر العولمة؟

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي