الحرية الفردية أو العلاقة بين القانون الطبيعي والقانون الخلقي – الفصل الثالث

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله الحرية الفردية أو العلاقة بين القانون الطبيعي والقانون الخلقي

وصلنا الآن إلى المسألة الثالثة في علاج قضية الحريات الفردية مسألة “الحرية الشخصية والمسؤولية” وهي حصيلة المسألتين المتقدمتين عليها أي “ملكية الذات” و”ملكية الأشياء سواء كان في الذات أو خارج الذات” وأصل المسألتين المواليتين لها أي “حرية الضمير” و”حرية المعتقد”. عبارة “الحرية الشخصية والمسؤولية” مفهوم واحد له وجهان أولهما هو كيان الإنسان منظورا إليه بوصفه علاقة بذاته ككيان قائم بذاته والثاني بوصفه علاقة بغيره ككيان قائم بذاته. والاول يمكن اعتباره حق له وواجب على غيره والثاني واجب عليه وحق لغيره. فيكون هذان الوجهان عين وجوده الخلقي. وكما رأينا فهذا الغير مثله مثل الذات ليس لحظة من الحياة إلا من حيث التعين الإني الآن وهنا لكن المتعين الآن وهنا لحظة في سلسة عضوية (لحظة من الحياة) وفي سلسة تعاونية (لحظة من عمل الجماعة) نتجت عن الحياة الجماعية في القائمين العضويين والمتعاونين والمتواصلين الثقافيين: أنائي وأنا غيري. وكلاهما واحد وكثير. فهو واحد من منظوره لنفسه في علاقة بكثرة من منظوره لغيره وكل واحد ممن هم غيره واحد من كثير بنفس المعنى. وهذه الشبكة من “الأناءات” الواحدة في علاقة بالآناءات الكثيرة هو نسيج الجماعة ليس كلحظة حالية بل كلحظة ذات التفاتين إلى حدث الماضي وحديثه وحديث المستقبل وحدثه. وللنسيج الحاصل مستويان عضوي ناتج عن التزاوج الداخلي وروحي ناتج عن الترامز الداخلي. ولما كان التزواج الداخلي مشروطا بالترامز الداخلي فإن التمييز بين العضوي والروحي في الجماعة فعل تجريدي ناتجا عن توهم الترامز مقصورا على المكتسب من الروحي أو الثقافي وليس ذا أصل فطري في العضوي. فالتجاذب بين الحي وشروط قيامه الطبيعية (الغذاء) وشروط تناسله (الجنس) فيه الكثير من المكتسب المتعلق بخصوصيات الذوق المكتسبة (تفضيل نوع من الغذاء ونوع من صفات الجنس المقابل) لكن الجاذبية الغذائية والجنسية من حيث الطبيعة سابقة عن تعينه بأسلوب الاكتساب الظرفي المتاح الذي يصبح عادة. وينطبق هذا القانون خاصة على أدوات التواصل وعادات التبادل في الجماعة. فالإنسان كإنسان له بالفطرة القدرة التواصلية وخاصة المباشر بالإشارة من ذاته المعبرة عن ذاتها أو عن علاقة بغيرها وبالإشارة إلى الأشياء التي يدور حولها التواصل وغير المباشرة بأصوات تسميها أو علامات تميزها. فينشأ نظام ترميز تواصلي في العلاقات بين الأناءات التي يتكون منها نسيج الجماعة. وهذا النسيج هو إذن في آن عوضي ورمزي فطري ومكتسب والمكتسب هو نفسه يصبح بالعادة وكأنه طبيعة ثانية في الجماعة الواحدة ثم تتقارب سمات الأفراد العضوية والثقافية تناسبا مع التزاوج والتثاقف الداخليين. ونظام الترميز التواصلي المباشر وغير المباشر هو الذي يجعله ممكنا ليس في المتساوق من الوجود الجمعي فحسب -أي المتعاصرين الآن وهنا-بل بينهم وبين الأجيال السابقة أحداثهم أحاديثهم (ذكر الماضي ببعديه) وبينهم وبين الأجيال اللاحقة حديثهم وأحداثهم (توقع المستقبل ببعديه): حي الحاضر الجمعي. وهذا هو الإطار الذي تتحدد فيه مسألة “الحرية الشخصية والمسؤولية” التي هي قلب المعادلة في مسائلنا الخمس التي تتعلق بالحريات الفردية. فالفرد ليس فردا إلا كمعنى خلقي. فهو عضويا وثقافيا نقطة في شبكة النسيج الجمعي شديد التعقيد لحمته وسداه عضويتان ورمزيتان لا شيء فيهما يمكن وصفه بالفردية. ولو اكتفينا بالعلم والفلسفة لاستحال القول بالفردية. الفرد-ما لا يقبل القسمة أو الكيان الابسط Individu لا يقابله في الفلسفة الرواقية إلا مفهوم الجوهر الفرد “الاتوم” الذي لا يقبل القسمة (باليونانية)-معنى مجرد هدفه إيقاف سلسلة القسمة منعا للتسلسل لكن لا شيء يثبت تناهيه ليتم إيقافه. فلو أخذنا بدن الإنسان أو أي جزء منه مثلا المخ لوجدنا أنه مؤلف من ملايين بل وملايين ملايين الخلايا. وكل منها لسنا ندري مما يتألف حتى وإن كنا الآن نعتقد أننا قد وصلنا إلى المكونات الأساسية التي نعتبرها نهائية بمنظور أدوات قيسنا وإدراكنا للموجود: الفرد معنى مجرد أو تصور رمزي لذاتنا. وهذا المعنى المجرد أو الرمز التصوري لا يعترف به إلا الدين. فهو الذي يضع ذاتا قائمة بذاتها ويعتبرها خالدة وينسب إليها حياتين دنيوية وأخروية ومكلفة ومسؤولة عن أفعالها فتكون هذه المعاني مترتبة على هذه العقيدة التي هي شرط نفس المعاني في الدنيا: الحرية الشخصية والمسؤولية معنى ديني. لست غافلا عن كون أدعياء الحداثة يعتبرون المطالبة بالحريات الفردية ثورة على الدين وأعلم أنهم يجهلون أنهم يطالبون بما لا وجود له من دون الدين. والعلة أنهم يخلطون بين الدين ومن صاروا وسطاء فيه أوالسلطة الدينية في الجماعة لكأن الدين هو هيئة النهي عن المنكر والأمر بالمعروف السعودية. وفي الحقيقة هذا الخلط ملازم لكل دين يسمح بالوساطة بين المؤمن وربه في دنياه وأخراه والوصاية بين المؤمن وشأنه في دنياه وفي أخراه. فالوساطة في التربية والوصاية في الحكم كلتاهما تحريف للديني على الأقل في الإسلام الذي ألغى الوساطة (لا كنسية) وألغى الوصاية (الأمر أمر الجماعة). ومن غرائب الامور هو أن أدعياء الحداثة الذين يتصورون أنفسهم مستنيرين وثائرين على ما عرفته الكاثولكية والتشيع وما بالتدريج صار له ما يناظره عند السنة من جنس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وخرافة أولياء الامر هم في الحقيقة يقولون بالوساطة والوصاية المعلمنتين. فما كانت الكنيسة والحكم بالحق الإلهي ينسبانه إلى ذاتيهما من سلطان على الأرواح في التربية وعلى الأبدان في الحكم على أساس ما بعد طبيعي أصبح العلمانيون عامة والاميون منهم أي العلمانيون العرب خاصة ينسبوه إلى ما يجانسهما من سلطان في التربية والحكم للدولة على اساس طبيعي. ولذلك فهم يسمونها “الحقوق الطبيعية للإنسان”. لكننا رأينا أن الحق الطبيعي الوحيد لما هو طبيعي في الإنسان هو علاقات القوة والضرورة سواء كانت عضوية أو حتى رمزية. فلو اعتبرنا الحقوق والواجبات مبنية على الطبيعي في الإنسان بمقتضى قانون الطبيعة لقلنا بما يقول به كاليكلاس لا سقراط. وفي الحقيقة الحداثيون العرب لا يقولون إلا بما يقول به كاليكلاس ولذلك فهو يحالفون الحكام المستبدين والفاسدين وحماتهم الاجانب ليغيروا قيم شعوبهم بقوة الاجهزة التي بيد هؤلاء الحكام ومن يحميهم من شعوبهم أي مافيات العالم التي تستغل بتوسطهم ثروات شعوبهم بل وعمل شعوبهم عبيدا صاغرين. فإذا ترجمنا ما يسمونه حريات فردية بدلالتها الفعلية فإن القصد يقبل الصوغ على النحو التالي: نحن نعوض النخبة الاستعمارية التي كانت تحكم مباشرة فصارت تحكم بتوسطنا. علينا إذن أن نعيش مثلهم بقيمهم وليس بقيم الأنديجان الذين عليهم أن يقبلوا بأخلاقنا لأن أخلاقهم ظلامية ولا قيمة لها. وهذا نفس ما يؤمن به أتاتورك وبورقيبة ومراهق السعودية والإمارات وكل ادعياء الحداثة العرب ممن يتصورون أن “المثقف” هو من تغرب وكلفه الغرب تغريب ثقافة شعبه الذي لم يعد يعترف به كشعب بل هو “انديجان” عليه أن يطبق عليه سياسة “مهمة التحضير العنيف” بفرض قيم الغرب “التنويرية”. ولا تعجب من كونه لا يأخذ من قيم الغرب إلا نتائجها دون مقدماتها. فهو يستطيع أن يستورد النتائج لأنها جاهزة ويكفي فيها المحاكاة ولو كانت بلا ذوق. لكن المقدمات لا تحاكى. أولا لأنها عندما كانت جهدا قبل أن تنتج لم تعد موجودة إلا في الشرق الاقصى حيث العمل والجد والبحث العلمي المبدع. هذه المقدمات لا تعني المثقف العربي الحداثي لأنها أولا مكلفة وهو أعجز من أن يبذل الجهد اجتهادا في الفكر وجهادا في العمل لينتج ماديا ورمزيا شرطي الرعاية والحماية فضلا عن الفكر الاستراتيجي الذي يعلم أن تحقيق ذلك كان ممكنا لدول ذات امبراطوريات استعمارية وأصحبت ذات وحدات عالمية. لكنه هو يريد “دولة” قطرية بحجم “محمية “استعمارية تمكنه من “فترينة” حداثية للنخبة الحاكمة وطباليها أما الشعب فهو “انديجان” لم يخلق إلا ليهان حتى تتمتع لجان حقوق الإنسان برضا السيد الذي يحميهم ويحمي مستعمليهم من المستبدين والفاسدين والذين لا يؤمنون بالإنسان كرامته وحريته آخر همهم فتفهم حينئذ لماذا يكون السيسي وبشار وحفتر وغر السعودية وبليد الإمارات وكل مستبد وفاسد صديقهم ويعتبرون عدوا لهم أردوغان وحكم الاخوان والسعي لاسترداد كرامة الإنسان فتسمعهم يتكلمون على التنوير وهم أعدى أعداء شروطه التي هي أولا التعمير وليس التزمير شعار التقدم الذي هو جوهر التخلف. فإذا بينت العلاقة الوطيدة بين الحجوم الجغرافية وثمرتها المادية والتاريخية وثمرتها الرمزية ووحدة المرجعية اساسا للاستئناف التاريخي تصوروك غير وطني في حين أن الجميع يعلم أن “وطنيتهم” هي توطيد حكم نواب الاستعمار لكل الديار التي يخربونها ليملؤوا بنوك سويسرا ويجوعوا “الانديجان”.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي