لما اكتفيت ببداية الهجوم على الوطية كنت اعلم أن النتيجة مؤكدة فلم أنتظرها لأعود للتغريد.
فكيف اعتبرت البداية كافية؟
ذلك أنها كانت ستضمن شرط سقوطها بمنطق يعلم أي دارس للحروب أن القلاع أو القواعد المحصنة لا يسقطها الهجوم بحد ذاته بل غايته التي هي الحصار الخانق للوجيستيك العدو مع تدرج التضييق والتصيد.
فالمعلوم أن الدفاع إذا كان متحصنا أيسر بكثير من الهجوم في الحروب.
وغالبا ما تكون الحرب بالمحاصرة والحرب النفسية والتصيد والقضم المتدرج مع ترك ثغرة لمن يستسلمون أن يفروا حتى يحصل التخاذل بين المحاصرين وعندها يبدأ الهجوم بعد التأكد من بداية نفاد المؤن الغذائية والمؤن الدفاعية واستحالة المدد.
ولما كان سلاح الطيران بيد القوة المهاجمة وكانت القوة المحاصرة عاجزة عن تجديد المؤن الغذائية والتسليحية لتوقف المدد فإن مدة الحصار لن تطول والتضييق المتدرج على المحاصرين يحد من تحركهم حتى في المكان المحاصر لأن رصدهم بالطيران يسهل منع الحركة وييسر التصيد وتحديد مراكز القرار في القاعدة فيسهل ضربها.
لكن إذا كانت القوة المحاصرة تناور لأنها تنتظر المدد الخارجي جوا فإن مشكل الحصار يتعلق بشروط منع ذلك أي السيطرة على الجو الليبي سيطرة كاملة وعدم الاطمئنان للأجوار بسبب علاقتهم المريبة بفرنسا والثورة المضادة. فإذا كان ذلك مضمونا فإن النصر حتمي.
واعتقد أنه مضمون وأنه في حالة الشك في ضمانه ينبغي ضرب قواعد العدو الأخرى التي قد يأتي منها المدد وخاصة المطارات التي يسيطر عليها.
واعتقد أن صبر المهاجمين في هذه الحالة ليس دليل خطأ في الخطة أو عجز دون الاقتحام العنيف بل هو قابل للتفسير بأحد أمرين أو كليهما مستثنيا من العملية العجز عن دك القاعدة بالطيران.
• فالأول هو ربما وجود صيد ثمين يفضل المهاجمون اسره حيا.
• والثاني هو وجود ممثلين للقبائل والمدن الليبية التي يراد حقن دماء أبنائها لتيسير الصلح لاحقا واعادة توحيد ليبيا.
وإذا كان للحكومة الشرعية ما يكفي من القوة الدفاعية فإن المناورة والخداع الحربي تقتضي تعديد بؤر المعارك حتى لا يعلم العدو خياراتها التكتيكية لأن المفاجأة ضرورية في مثل هذه الحالات فيكون توجيه اهتمام العدو إلى بؤرة “أ” للخداع الحربي في حين أن القصد غيرها البؤرة “ب”: مثلا بين بؤرة الوطية وبؤرة طرهونة.
لكن ما لا يمكن الابقاء عليه هو ما لم أفهمه إلى الآن وهو وجود بؤر حول العاصمة فتجعلها محاصرة لأن وجود مثل هذه البؤر تجعل العدو قادرا على استرجاع معنوياته ولو بالرماية في عماية لأنه يمكن أن يناور فيركز عليها ويحول دون الحسم إذ إن العاصمة ينبغي أن تستعيد حرية الحركة من خلال إزالة الفجوة بين الهجوم والدفاع.
والحل في مثل هذه الحالة هو عدم الاكتفاء بالمعركة في المنطقة التي بيد الحكومة بل لا بد من نقل المعركة إلى المنطقة التي بيد المرتزق الخارج على الشرعية ومليشياته.
فما ظل مطمئنا في منطقته فهو يعد المهاجم وليس المدافع. المعركة لن تصبح متكافئة ما لم تنقل الحكومة المعركة إلى “أرضـ”ـه. والطيران يمكن من ذلك بيسر لأن التفوق فيه بات في صفها.
وإذا كانت الحكومة كما هو بين مسيطرة على سماء ليبيا ولو نسبيا فإن ضرب القواعد التي ينطلق منها هجوم المعتوه ومليشياته ولو بين الحين والحين “سيلخبط” كل استراتيجيته واستراتيجية داعميه. وهو أمر في متناول الطيران حتى الخفيف دون طيارين مع السيطرة على ممرات المدد الغذائي والحربي لتعطيل اللوجيستيك.
واعتقادي أن فرصة كورونا يمكن أن تجعل ذلك في المتناول.
فالقوى الغربية التي يمكن أن تحد من دور تركيا ليست قادرة حاليا على التورط في معركة ليست مستعدة لها فضلا عن كونها ليست متأكدة من دور أمريكا وفهم سكوتها المحير بل ورفض الهدنة التي طالب بها قعيد قرطاج مع فرنسا وعسر تحديد مدى ما يمكن أن تذهب إليه تركيا في الالتزام بمساندة الحكومة الشرعية الدفاعي.
وعدم وضوح الرؤية الفرنسية في تأويل الموقف الأمريكي والالتزام التركي يجعل الفسحة في المناورة لصالح الحكومة الليبية لأن إطالة المعركة خاصة إذا كان قصديا يمكن أن يكون مناسبة لإفقاد حفتر المصداقية بتراكم هزايمة المتوالية ودفع قبائل ليبيا وكبريات مدنها إلى التخلي المتدرج عنه كل ذلك قد يساعد في توحيد ليبيا ويعجل به دون معارك دامية.
ولا أشك في أن تفاوضا ما جار حاليا بين صفي المعركة المباشرين والمساندين لهما. وفيه طبعا مناورة من الجانبين. حفتر يريد استرجاع أنفاسه ومثله مساندوه والحكومة تريد “نتف ريشه” ومثلها مساندوها وذلك بتفريغ صفه من تأييد بعض قبائل ليبيا ونخبها في المناطق التي توجد تحت سيطرته لأن كل ضربة تناله تفقده المؤيدين إذ تجعلهم يفضلون الصف الرابح: فتحول الحكومة دون الحرب الاهلية في ليبيا.
وبين أن الدعم الذي يأتي لحفتر فهو خاضع لنفس المنطق. فلا يمكن لمصر أن تخوض حربا دون مقابل ناجز ثم إن الحذر المصري ليس لعجز عسكري في المقام الاول بل لخوف السيسي من الانقلاب عليه إذ هو يعلم أن الجيش في الحروب يعسر السيطرة عليه كما في السلم. ولذلك فهو لن يغامر بالتدخل لنجدة حفتر وقد يفكر داعموه البحث عن بديل: مثل ابن القذافي.
ومعنى ذلك أن خصوم الحكومة الشرعية يساعدونها حتى بمناوراتهم لأن بحثهم عن بديل يضعف صف حفتر. والبديل هو نفسه يحتاج إلى تصليب عوده فيحاول أن يلعب لعبة دبلوماسية ولا يكون ذلك ممكنا ما لم يكن بوسعه اغراء من بدأوا يتخلون عن حفتر والقبول به باعتباره الصف الرابح الممكن إذا لم يروا أن الشرعية بصدد ربح المعارك ولو بالتدريج فينحازوا إليها.
وبهذا المعنى فإن كورونا والجبهة الدبلوماسية والجبهة العسكرية كلها لفائدة الحكومة الشرعية وتلك هي علة قولي إني غني عن انتظار النتيجة وتكفيني بداية معركة القاعدة لأعتبر المسألة قد حسمت.
ولا أعتقد أن نهاية كورونا ستغير من الأمر شيئا لأن التصدي للأزمة الاقتصادية سيضاعف انشغال الأعداء بهمومهم ولن يستطيعوا أيقاف المسار خاصة والمسألة اساسية لمنع حصار تركيا البحري بعد الارض (العلاقة بسوريا والعلاقة بليبيا هذان أهدافهما)
فإذا اضفنا ما يقرب من افلاس باعة زيت الحجر وعجزهم عن دفع الارز لبلحة ولتاجر الجمال وخوف روسيا من تأييد أمريكا المضمر في سكوتها على التدخل التركي فإن دعم حفتر سيتبخر ومن ثم فالحكومة لها ما يكفي من الوقت للشروع في ترضية كل الذين انشقوا على حفتر في الجنوب وفي الشمال ما قد يغنيها عن استعمال السلاح للتوحيد: فلا بد من تقديم مشروع سياسي مغر.
لا بد أن تعجل الحكومة الشرعية بالدعوة لمؤتمر سياسي هدفه الاتفاق بين القوى السياسية المعتبرة في ليبيا على حل وسط بين الدولة المركزية التي كانت موجودة في عهد القذافي والدولة الفدرالية التي كان فيها الاعتراف بوحدة المتعدد.
ولا بأس من اقتراح مثيل للدستور الامريكي الحالي في ليبيا ما يجعل الوحدة المركزية في الرعاية والحماية والتنوع في ما دونهما.
فالكلام على تجاوز البنية القبلية والاختلاف بين المناطق إيديولوجي وهو ليس واقعيا وهو عقيم لأن ربط الخروج من الازمة بتعيير لواحكم الشعب الليبي سخف سياسي ولأن ترضية الطموح السياسي للنخب المختلفة في شكلها الراهن من شروط السلم الأهلية وهو الذي يغني عن الحرب الأهلية حول سلطة مركزية تصبح علة للتدمير بدل التعمير في حين أن ليبيا بلد كبير وغني بالإمكانات بشعب صغير ومتدين.
واختياري الدستور الامريكي ليس بالصدفة بل لأنه أقرب الدساتير الغربية للدستور الإسلامي من حيث عدم تغول الدولة المركزية في ما عدا رعاية الأمة وحماية البلاد شرطي السيادة وترك المبادرة في ما عداهما للشعب المتنوع لأن الولايات فيها أشبه بالولايات في عهد الخلافة لما كان لها القدرة عل الرعاية والحماية.
ومن غباء الكثير من النخب العربية عدم فهم معنى القوى السياسية التي تختلف من ثقافة إلى ثقافة ومن عصر إلى عصر في نفس الثقافة. فشكلها ليس بالضرورة شكل الأحزاب بل هي يمكن أن تكون القبائل إذا كانت بعدد قليل وليست مفتتة كالحال في اليمن أو في الجاهلية العربية (قانون خلدوني).
والقبائل الكبيرة في ليبيا ليست عديدة ويمكن اعتبار كل قبيلة موحدة لمنطقة قوة سياسية فاعلة ولاحمة للشعب.
فالعبرة ليست بالأسماء بل بالمسميات. طبيعة “العصبية” اللاحمة في القوة السياسية هي العنصر المعتبر في بناء الأمم وليس كونها حزبا أو قبيلة. أما انتظار نهاية القبلية وتكوين فسيفساء حزبية كالحال في تونس مثلا فالنهاية هي أن تونس صار فيها 220 حزيبا كلها أصول تجارية لبيع الذمم واهمال الوطن وجعل دمه يذهب بين سيوف المافيات: فالقبيلة ما يزال لها شيء من الولاء الروحي لثقافتها بخلاف الاحزاب المافياوية التي لا يوحد بين المنتسبين إليها إلا الاخلاد إلى الأرض..
واختم بمفهوم أبدعه أبو حامد الغزالي في كتاب فضائح الباطنية. فالقوى السياسية تحتاج إلى من يسميهم “معتبري الزمان” الذين تميل الجماهير حيث يميلوا لعسر توحيد الأهواء والإرادات من دون قيادات ذات تأثير. في ليبيا حاليا ما يزال هؤلاء المعتبرون مؤلفين من خمسة أصناف الثلاثة الأولى منها هي الغالبة:
- شيوخ القبائل وكبارها
- علماء الدين ورموزهم
- نخب حديثة اصيلة لم تصبح عملاء للأعداء وتفهم ثقافة شعبها.
- نخب حداثية مستلبة وتعاني من عقد نقص المغلوب الخاضع للغالب وهم توابع النخبة الخامسة وطبالوهم طلبا لرضا المستعمر.
- وقلة من العملاء الصرحاء وهم في الغالب مجنسون وبهذه القلة يحكم الاستعمار غير المباشر مستعمراته القديمة: وحفتر واحد منهم.
والقوى الثلاثة الأولى هي التي تمثل “معتبري الزمان” في ليبيا وحتى في تونس وهم احفاد حرب التحرير ويمكن أن يقودوا حرب التحرر واستكمال حرب التحرير. وهم يمثلون الأغلبية الكبرى في بلاد العرب كلها. وهم أمل ليبيا في استعادة الوحدة إذا وجدوا دورا يعاملهم بهذه الصفة فلا يحلم بالدولة المركزية القذافية التي أنهت “معتبري الزمان” لئلا تبقي إلا على الزعيم البهبار واللجان الشعبية الديماغوجية التي أهانت الشعب.
ومن لا يفهم انثروبولوجيا القوى السياسية في مجتمعاتنا لا يفهم ما يجري حاليا وصمود الثورة رغم قلة الامكانات وتكالب العالم كله عليها. فإذا أعادت الحكومة الشرعية لمعتبري الزمان الليبيين دورهم وكرامتهم فإنها ستنجح بسرعة البرق في إعادة البناء السليم والسوي ولن يستطيع النوعان الأخيران وخاصة النوع الأخير إلا فضح نفسه لأن رمزهم هو حفتر العميل بكل معاني الكلمة ونحن في تونس لنا منهم كثرة لن ينجو الوطن قبل افتضاحهم مع كل الحكام ونخبهم عملاء أعداء الامة من الداخل والخارج.
وإذا كانت ثورة الإسلام السياسي الساعي لاستكمال تحرير الأوطان خلال ثورة تحرر الإنسان قد بدأت في الجزائر في ا لعقد الأخير من القرن الماضي وقمعت ثم استُأنفت في تونس في العقد الثاني من القرن الحالي وهي الآن تقاوم لأنها الهدف الراهن لفرنسا وإيران وإذا كانت ليبيا هي الوحيدة هي الاولى التي بدأت مقاومتها المسلحة تحقق نجاحا معتبرا بفضل صمود شبابها وسند تركيا فإن المطالبة بالدولة المركزية قد يعلل تأجيل النصر ويحول دون الحاسم.
وما أقوله عن ليبيا يقال عن سوريا خاصة. فدولة سوريا لا يمكن انتظار عودتها إلى ما كانت تبدو عليه وكأنها دولة مركزية وهي في الحقيقة دولة مافية طائفية وليست دولة الشعب السوري.
والشعب المتنوع يحتاج إلى دولة يقتصر المركزي فيها على وظيفتي الرعاية والحماية شرطي السيادة والبقية هي حيوية الجماعة المتنوعة.
وأختم بالقول إن ما جعل الشعب السوري والليبي يصمدان في مقارعة الاستبداد والفساد هو التنوع في الارياف واعتماد أهلها على أنفسهم في قيامهم العضوي وارتباطهم بقيم ثقافتهم الأصيلة. أما لأبناء المدن فليس لهم شروط الصمود أعني الاستقلال في الضروريات المعيشية عن هيمنة الدولة: الغذاء والتعود على خشونة الحياة هما سر صمود الشعبين السوري والليبي واليمني وعدم هشاشتهم.