الحرب الاهلية علتها الحمق والمناورة المتذاكية

تكلمت مرارا على ضرورة تقديم الصلح على المحاسبة فظن الكثير أن ذلك ليس ثوريا. لكأني لا أعلم ذلك. لكن المحتجين على قولي لو سألتهم من يمثل الثورة في رأيهم لصمتوا لأن جلهم صار عدوا لها مباشرة بعد الانتخابات ولا يمكن أن تقاد ثورة من أعدائها. ولا أيضا من أصدقائها إذا لم يفهموا ذلك. فسياسة شعارها الصلح قبل المحاسبة يطمئن الخائفين ليس لأنهم مذنبون بل لأن مافية المذنبين تخوفهم فتجعلهم يعتقدون أن المحاسبة ستشملهم فيصطفوا مع المغرمين فيقووا صفهم. ذلك أنه لا يوجد من ليس له بعض ذنب حتى من بين من يدعون الطهرية. الشعار كان سيعزل المجرمين الكبار وهم هدف المحاسبة. أما لو تابعت كل من له بضع ذنب فستحاسب الجميع أو تكاد ولا شيء يثبت أنك بريء أولا وأنك قادر على محاسبة الجميع. ومن هذا الباب موقفي شديد الاحتراز من سياسة هيئة الحقيقة والكرامة دون تشخيص لأن اتكلم على القانون الذي أسسها وقد أسسها على “التنكر للعدل” وليس العكس كما يتوهم الكثير. ولست أعني أن إنصاف المظلومين فيه تنكر للعدل لأن الإنصاف وارجاع الحقوق المسلوبة ستتكفل به الدولة والمجموعة الوطنية خاصة إذا كان المجرمون موتى أو كانت الجريمة لا تتعلق بالمال بل بكرامة الإنسان نفسه لأنك لن تستعمل قانون القصاص فتعذب من عذب أو تقتل من قتل. عن أي ظلم أتكلم إذن؟ عن ظلم المدعى عليه وليس ظلم المدعي. وما كنت لأتكلم في هذه القضية لو لم يكن القانون جعل سلطان الهيئة يمتد إلى1956. فجل المدعى عليهم ومنه بورقيبة في ذمة الله. ومن شروط العدل في المحاكمات أن يسمع القاضي الخصمين. وهو قصدي بأن الموت يجب ما قبله في الدنيا. ولا يعني ذلك أنه الميت لا يحاسب بعد موته بالقضاء الدنيوي ويترك للقضاء الاخروي حيث يبعث ويمكن أن يدافع عن نفسه وغالبا ما لا يقبل منه لعلتين في منظور الإسلام: الكتبة الشهود منزهون عن زيف الشهادة وجوارحه تعترف وتشهد عليه. أما في الدنيا فالأمر يقتصر على المدني لا الجنائي. ذلك أن المدني حجته الوثائق وليس المدعى عليه ويمكن لورثته أن يطعنوا فيها بوثائق ربما تدحض الاولى والتقدير للقضاة. ثم قلت كلمة أخرى هي أن الاشتراك في الخضوع لسطوة الظالم الذي جمع المظلومين وظالمهم كما في حالة ابن علي الذي ظلم الإسلاميين وظلم بورقيبة أكثر منهم فهذا يجب العداوة معه. لكن الجب الثاني ليس قانونيا بل هو خلقي وخاصة سياسي. فإذا كان الإسلاميون قد أصبحوا أصحاب السلطة فمن المفروض أن يحرصوا على انصاف بورقيبة قبل أنفسهم وهذا من حسن التدبير والحكمة السياسية. تلك هي العلل التي تجعلني ضد ما في قانون الهيئة من نكأ للجروح بدل إندمالها وليس ضد الهيئة. أعتقد أن الخطأ الاساسي هو جعل معرفة الحقيقة والإعلان عن معرفتها. فالأول هو شرط التصحيح لكن الثاني هو شرط نكأ الجروح ولا يضمن التصحيح. فمن شروط العمل السياسي الكتمان في الاستراتيجيات التي يمكن أن تزعزع الاستقرار الهش وخاصة بعد الثورات أو ما يشبهها من الهزات الكبرى. سيقال: أننت منافق لا تريد إظهار الحقيقة؟ وهذا هو الخلط إظهار الحقيقة ليست اعلانها. ذلك أني أعلم أن اعلانها يمكن أن يؤجج العداوات فيحول دون تحقيق ما ظهر منها في صلح هادئ تتكفل به الدولة بعد سماع القضاء بشرط أن يكون مستقلا ومحايدا. وسياسة المصالحة ليس من الامور اليسيرة. لا بد لها من استراتيجية سياسية طويلة النفس ولطيفة المسارات وبطيئته حتى يكون المسار القضائي عاملا في تبريد العواطف مع تعويض تقوم به الدولة بصورة جميلة تمكن من “تصبير” المظلومين الذين فقدوا شروط حايتهم الكريمة أو أضاعوا أعمالهم والعناية بأسرهم. نكئ الجروح يحول دون العلاج. وواضح ان واضعي قانون الهيئة في مناخ المزايدات الثوروية كما في قانون المحاسبة أو العزل الذي كاد يمر كان يغلب عليهم التأثر بجنوب افريقيا وبالمغرب. وهي سذاجة دالة على امرين لا يتوفران للربيع: الأول هو الحضانة الأوروبية والامريكية لهما والثاني هو ما في العمليتين من خداع أو مسرح. صحيح أن السياسة تحتاج للمسرح لكنها تحتاج للكوميديا وليس للتراجيديا. ما حدث في جنوب افريقيا وفي المغرب مسرحية كوميدية وما يحاوله التونسيون تحول إلى تراجيديا أولا لأنه صار ينبش في كل التاريخ لكأننا يوم البعث وهذا مناف للسياسة وثانيا لأن العلنية تجعله تشهيرا وليس تحقيق للعدالة وقد كتبت هذا استكمالا لما كتبت في كلامي على عقوق البورقيبيين لأنهم بجعله رمزا لما يتنافى تماما معه بسبب كون الراجعين إلى الحكم اليوم ليسوا بورقيبيين بل هم عملاء من سجن بورقيبة وأهانه أكثر من الاستعمار. ولذلك فهم من سعى إلى ما حدث بل وهم من أعاد مشكل الهوية والحرب على ثوابت الإسلام. وعندما اقول ثوابت الاسلام فليس معنى ذلك أن الاجتهاد الديني الذي قد يبين أنها ثوابت في المعتقد الشعبي الذي هو عادات عقدية وليس عقديات دينية لكن في السياسة الأولى أقوى أثرا من الثانية وأوليات المرحلة من المفروض أن تغنينا عن ذلك. والعلة: فحتى ابن علي لم يفعلها لسيطرته على اليسار. حزب النداء انقلبت فيه العلاقة بين ابن علي واليسار: كان ابن علي يسيطر على تابعيه منهم فصاروا هم بعد الثورة المسيطرين عليه بقايا حزبه الذي استرجع الحكم بمناوراتهم وبالاعتماد على مناورات الاتحاد الذي صار من أدوات اليسار والقوميين السياسية. وهؤلاء مشكلهم مع الهوية والإسلام. ولهذه العلة صار دور السياسيين في تونس ليس البحث عن الحلول للمشاكل التي هي من مهام السياسة بل البحث عن المشاكل التي ليس من مهامهم. فسخافة الكلام على الميراث مثلا ليست سخافة لذاتها بل لاعتباره أولية في مرحلة البلاد لا تحتاج اليوم لمثلها خاصة من غير اهلها. فالسياسي فيها استبدادي. ذلك أن قضايا القيم حتى لو لم تكن دينية لا تحسم بمجرد الحكم السياسي المباشر بل هي من جنس قضايا الدساتير لا تحسم إلا شعبيا أي بالاستفتاء وليس بقوة الدولة التي كلنا يعلم أنها ليست شرعية أصلا لأنها تعتمد على أمرين ينافيان معنى الشرعية: فهي عودة من ثار عليهم الشعب ويحميها الاستعمار. فإذا أضفنا أن إثارة هذه القضايا ليست مطلوبة لغاية سياسية مهمة للحزب الحاكم بل الهدف منها دفع الإسلاميين للخطأ السياسي حتى يسهل من يدفعهم لهذه المناورات-كما تبين الحملات الإعلامية المجندة لها منذ الثورة-الانقلاب على التوازن الهش في البلاد أو على الأقل افقادهم قواعدهم الغاضبة.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي