الحرابة الذاتية أو حامي الأمة حراميها

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله الحرابة الذاتية أو حامي الأمة حراميها

يخطئ من يعتقد أن الساسة وحدهم هم من حول علاج مصالح الأمة إلى مسرحيات تحاول محاكاة الاخراج الديموقراطي الظاهر وهم يعلمون ألا أحد يصدقهم عدى من هو بحاجة لإضفاء مصداقية عليهم أمام شعبه الذي يضيق ضرعا بهذه المسرحيات هو حاميهم حتى يسمى انقلاب السيسي مثلا تحولا ديموقراطيا.

كذلك تفعل كل الانظمة الغربية التي تحمي أدواتها في مستعمراتها من حكام العرب سواء كانوا فرضتهم ممثلين للمحميات القبلية التي تدعي تمثيل الإسلام والاصالة أو ممثلين للعسكرية والتي تدعي تمثيل القومية والحداثة في بلاد العرب. وما يصح على الحكام يصح على المعارضين الذين يستعدون لنفس الدور.

وتلك هي العلة التي جعلت الشعوب تفقد كل ثقة في الساسة بنوعيهم. وقد اتضح ذلك خاصة بعد الثورة عندما التعدد الجنوني لمتاجر الساسة في أحزاب قاعدتها الوحيدة هي هيئة الحزب لنيل الرخصة. ويكفي أن ترى تسابقهم في إرضاء مافية التمويل الداخلية والخارجية وارتياد السفارات ومعابد أسيادهم.

كل ذلك صار معلوما ولا يحتاج مني لتعليق. ما قد يبدو غائبا عن الاذهان هو أن نفس هذا الداء الذي ساد على نخبة الإرادة أو الساسة عم بقية النخب الاربع التالية بنفس المنطق: نخب العلم أو المثقفين ونخب القدرة أو الاقتصاديين ونخب الحياة أو الفنانين ونخب الوجود أو اصحاب الرؤى.

كنت اتصور أن نخب المعرفة (علمية كانت أو حتى أدبية) أو المثقفين وظيفتها طلب الحقيقة سواء لذاتها أو لتكون هادية للعمل على علم في أي مجال تعلق به العمل. لكن ما اراه يحصل سواء في الجامعات أو في الندوات التي تسمى علمية أو تمسى تحليلات استراتيجية وتشوفية للمستقبل هو العكس تماما.

لا أحد يجهل أن موضوعية المعرفة نسبية. والكل يعلم أن فاعليتها تكون بقدر ما يرتفع طلب تحريرها من النسبية الممكن وخاصة من الأدلجة التي تجعلها البحوث التي تسمى علمية هي بدروها مسرحية لأن النتيجة تكون مسبقة وما يبدو بحثا تكون وظيفة تبريرها وليس طلب حقيقة هي شرط تسديد العمل المزمع.

فصرت أشعر بأني كالمغفل بين تجار الدراسات التبريرية لأجندات خفية غالبا ما يكون المشرفون عليها قد نالوا عضوية هي التي تجعلهم يردون الجميل بخدمة أصحاب هذه الاجندة. ولما كانت الاجندة السياسية هي كما وصفنا مسرحية فإن هذه الأعمال التي تسمى بحوثا استراتيجية عندنا هي مسرحية تمرير المسرحية.

ويكفي ان تعلم من تختارهم الانظمة لمثل هذه المهام أي للسيطرة على ما يسمى جامعات وما يسمى مراكز بحوث وما يسمى مراكز أعلام وتحليل استراتيجي ليس هدفه البحث العلمي الذي يمثل ذخيرة من الحقائق التي من دونها لا يكون العمل على علم بل هي تأتي لتبرر المسرحيتين السياسية والمعرفية.

ولما كان ما يسمى اقتصادا هو بيد من بيدهم إدارة المحميات التي تسمى دولة وليس بيد اقتصاديين فعليين لهم روح المبادرة والإبداع فإن ما يسمى بنخبة القدرة التي تمكن من الحماية والرعاية لا وجود لها بل الموجود هو من يسميهم ابن خلدون باهل الجاه ممن يتقاسمون ثروة البلاد مع الحكام وحماتهم.

وبذلك فلا وجود لإنتاج مادي أو رمزي بل الجميع يتحول إلى سماسرة لبيع الثروات الطبيعية والمناخ والبحر وآثار الحضارات المتعاقبة على البلاد (السياحة) للمحافظة على المحميات التي يتمشون منها ويستتبعونها لحامي النخب الحاكمة والعالمة والقادرة على المهازل المسرحية وزيادة التبعية الدائمة.

إذا وصلنا إلى نخبة الحياة والذوق أو الفنانين وجدت مهرجي النخب الاربع السابقة وخاصة الثالثة والاولى لأن الثانية هي بدورها من المهرجين وخاصة من تفنن منها في التحليل الاستراتيجي والتخصص في دراسة “إرهاب” الجماعات الإسلامية بإرهاب الجماعات التقليدية واليسارية والقومية والليبرالية.

فتشعر أن الجميع ينتسب إلى الظاهرة التي وصفها ابن خلدون عند كلامه على الحرابة: فهو يعتبرها سرقة مسلحة لا يمكن أن تحصل إلا بسبب غياب دور الدولة لفساد يجعل الدولة نفسها ترعي الحرابة صراحة وهو معنى الاستبداد (عنف السياسة ونخبها) والفساد (فساد السياسة ونخبها): حاميها حراميها.

ولا أخفي أن هذا السرطان الذي فشى في بدن كل المحميات العربية بلغ درجة الميتاستاز الذي لم يبق للعلاج مكانا. لذلك فكلما سمعت كلاما على مقاومة الفساد تأكدت أن قائلها كاذب وأن ذلك مستحيل لأنه صار بأشكال مختلفة البنية العامة في هذه المحميات لغاية في نفس حماتها وعملائهم.

فلا يوجد بلد عربي -حتى وإن كان عاجزا عن أن يكون ذا سيادة تامة-ليس له إن أحسنت إدارة موارده القدرة على سد الحاجات الاولية لأن الله من علينا بما لا يحصى من الثروات في أرض شاسعة تكاد تكون أقل بلدان العالم كثافة سكانية -ولا يحتجن أحد علي بالصحراء: فهي أيضا ذات ثروة طاقية لا تفنى.

ولست أفهم كيف يمكن للجزائر وليبيا في المغرب وللعراق وجل دول الخليج في المشرق أن يبقوا في آخر ركب الدول التي تداركت تخلفها وليس لها لهم من الثروات. فلا يمكن أن نفهم هذه الحالة من دون الإحالة إلى الاستبداد والفساد أو الحرابة الذاتية للدول التي يكون فيها حاميها حراميها.

عندما تكلمت على النخب الخمس اكتفيت بالكلام على مسرحيات الأربع الاولى أي نخبة الإرادة أو الساسة الذين لا إرادة لهم غير خدمة حماتهم ونخبة العلم الذين لا علم لهم إلا كاريكاتور الحداثة أو ايديولوجيتها ونخبة القدرة الذين لا قدرة لهم إلا على نهب الجماعة ونخبة الحياة الذين لا حياة لهم.

فالحياة والذوق عندهم مهازل لا تتجاوز مسرحيات اللهو دون إبداع جمالي أو جلالي لأن أقصى ما تجده عندهم ذروتها سخافات السينما المصرية ومحاكاة الوعي المزيف بما يسمونه واقعا أعني قشور ما يعبده المخلدون إلى الأرض في غياب الوعي بالمتعاليات التي تبني الأمم والحضارات.

وحان الآن الكلام في النخبة الوجودية التي تبدع رؤى العالم رؤاه المؤطرة لما يلهم طموح الشباب فيحدد المشروعات التي بها تكون الامم أمما فتسهم في توسيع آفاق البشرية. لكن كاريكاتور الأصالة وكاريكاتور الحداثة ليس رؤى للعالم ولا تصورا للوجود يرفع من منزلة الإنسان بل هي مضغ لقشور جفت.

فنخبة الوجود التي تحدد رؤى العالم تنقسم إلى صنفين توابع الانظمة القبلية وتوابع الانظمة العسكرية. والاولى اعتبرها ممثلة لكاريكاتور من الاصالة والفكر الديني والثانية ممثلة لكاريكاتور من الحداثة والفكر الفلسفي. والفرق الوحيد بينهما هو ما يقلدونه كمحفوظات دون إبداع أو فكر.

وكلما حاول أحدهما نقد الثاني كان نقده مبنيا على توهمه ممثلا لما يدعيه. وهو من ثم تعليق كاريكاتوري على كاريكاتور. ولا يمكن حينها انتظار دور ملهم للشباب. ولولا تحرر الشباب من هذين الكاريكاتورين لما بقي شيء يحول دوني واليأس من الاستئناف.

الحمد لله فالشباب تحرر منهما بفطرته السوية.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي