لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالحداثي العربي لغز الألغاز والاستثناء الكوني
خمسة ألغاز يثيرها سلوك حداثيي العرب يصعب أن يجد الإنسان سبيلا إلى فهمها وعلى كل فإني أول الباحثين عن فهمها واعترف بعجزي دون ذلك: فلا يوجد حداثي لا يؤمن بقيمة حرية الإرادة وبقيمة صدق العلم وبقيمة خيرية القدرة وبقيمة جمال الحياة وبقيمة جلال الوجود إلا إذا كان من حداثيي العرب. وطبعا يمكن أن يقال أكثر عن أصاليي العرب. لكن الآن ليس هذا موضوعي أولا لأن جل ما كتبته في مسألة علوم الملة هم موضوعه وقد نالوا حظهم وكفاية. مشكلتي الآن هي كيف يمكن أن يؤمن الإنسان حقا بحرية الإرادة ويحالف المستبدين والفاسدين الذين يستبيحون شعوبهم وكل حر فيها؟ ويصعب أن يقبل المستبدون حلفاء من النخب ما لم يكونوا كذابين لأن العلم الصادق لا يقبل التخلي عن أساسه الاول أي حرية الإرادة إذ من دونها لا يمكن الانحياز إلى المعرفة الصادقة لأن طلب الحقيقة يقتضي أخلاقها وأولها الصدق. ومن كان كذلك لا بد وأن يكون مطلبه القدرة الشريرة حتما. والقدرة الشريرة تتمثل أولا في محالفة المستبدين والفاسدين للحصول عليها والانتساب إلى جوقة الطبالين كشعراء المديح من الكدائين لأن تلك حاجة المستبد والفاسد إليهم ومن كانت حياته بهذه الصفات فلا يمكن أن تكون حياته طيبة بل هي قبيحة لأن صاحبها معبوده دنياه ودليله هواه وهو كالكلب لهاثا. ولذلك فلا يكون وجوده ذا جلال بل صاحب الحياة القبيحة والقدرة الشريرة والإرادة التابعة للمستبدين والفاسدين لا يمكن ألا يكون ذليلا أمام ربه الذي هو المستبد أو بصورة أدق الذي غرائزه ونزواته التي تجعله بضحي من أجلها بحرية الإرادة وصدق العلم وخيرية القدرة وجمال الحياة وجلال الوجود. قبل انقلاب “الخسيسي” كنت في القاهرة مشاركا في ندوة نظمتها دار العلوم وجامعة برلين الحرة ودار كلام كثير بيني وبين بعض النخب المصرية التي تدعي الحداثة ممن يدعون الليبرالية أو اليساروية أو القومية أو العلمانية عامة وكذلك في مناسبات أخرى عديدة فلم أجد إلا من يتصف بما ذكرت. لكن سأفترض أنهم بخلاف ما وصفت وأن ما يتحججون به صحيح أي أن خطر الإسلاميين في الحكم أدهى وأمر من خطر الفاشية العسكرية واستبدادها وفسادها وأسأل السؤال الدامغ: هل كان الإسلاميون مهما قيل عما ينسب إليهم من تزمت ديني سيمنعونهم من غير هذه الرذائل التي هي مشتركهم مع المستبدين؟ هل كان الإسلاميون يستطيعون منعهم من التعبير عن حرية الإرادة وصدق العلم وخيرية القدرة وجمالية الحياة وجلال الوجود لو كانت بحق هذه صفاتهم لكنهم انحازوا إلى العسر بمنطق اختيار أقل الشرين أم إنهم لم ينعموا بفرصة تمكنهم من ذلك لو كان ذلك هو مطلبهم من الحياة؟ ولكن حتى لو فرضنا أن الإسلاميين كانوا في البداية ضعافا فلم يمنعوا الحريات وهبهم صاروا أقوياء إلى حد منع الفضائل التي هي حرية الإرادة وصدق العلم وخيرية القدرة وجمال الحياة وجلال الوجود أما كان الحداثي يكون في وضع أفضل مناضلا من أجل هذه القيم بدلا من الدفاع عن نقائضها؟ ثم هل كان المنحازون للعسكر ضامنين ان العسكر كما يتحججون لم يتدخل من أجل إعادة الاستبداد والفساد بل لإصلاح ما يسمونه انحراف الثورة التي تأخونت ويوهمون أن هذه الحجج يمكن أن يصدقها أحد بمن في ذلك هم أنفسهم لأنهم ليسوا أغبياء حتى لا يعلمون أنه لا يوجد عسكر في الدنيا يؤمن بهذه القيم. وهكذا يتبين أن ما يجعلهم ينحازون للاستبداد والفساد وحكم العسكر ليس الخوف على القيم بل الاشتراك مع العسكر في نفس القيم: اعتبار الشعب مجموعة من الأنعام التي ينبغي استعبادها وحلبها ولكن مع العلم بأنهم لن ينالوا من ذلك إلا بعض فتات موائد العسكر هذا لمن يسلم منهم بعد تركيزه لسلطانه. ولذلك فلن أبحث عن دوافع أخرى تتجاوز فهمهم المقلوب للإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود عامة بل سأبحث عن فهمهم لمعنى الفهم اصلا. كثيرا ما أتساءل عن سلامة عقول زعمائهم ونجومهم وهم في العادة كثيري الحضور في جهازي المستبدين القمعيين: 1. الدعائي والبروباغاندي. 2. والأمني المخابراتي. وهذا هو النوع الثاني المشترك مع المستبدين والفاسدين: فمنهم من هو بعد في هذين الجهازين ومن هو منافس لهم بالتطبيل للانضمام إليهما لأنهما يمثلان مشاركة ولو دنيا في السلطة وما توفره من مزايا هي الآن جوهر معنى الدولة في الأنظمة المستبدة: هي “مغيثة” الحجام لامتصاص دم الشعوب. فيكونوا بذلك مشاركين في الاستبداد والفساد الداخلي وفي الاستبداد والفساد الخارجي الذي يدعمه. ولذلك فأنت تجدهم جلهم في تعامل ما مع الاستبداد الخارجي الدولي ومع استبداد ذراعيه في الاقليم إذ بعضهم يدين بدوره إلى العمالة لإسرائيل وبعضهم يدين به إلى العمالة لإيران. ولعل ذلك وضح وضوح الشمس في القيلولة بالنسبة إلى حالتي سوريا (عمالة لإيران) ومصر (عمالة لإسرائيل) وقد اتضح ذلك منذ أصبح اللعب بالمكشوف بعد الربيع العربي. ولم يبق مقصورا على هذين القطرين بل فشا في كل أقطار بلاد العرب من الخليج إلى المحيط. فمهما حاولت الفهم لا يمكن أن أفهم سوريا ينحاز إلى إيران التي تحتل وطنه باسم وهم الممانعة ولا مصريا ينحاز إلى إسرائيل التي تحكم وطنه بتوسط ابن بنتهم. وما لا أفهمه أكثر هو من يسمون ليبراليين في السعودية. فهؤلاء حتى لو ادعوا الدراسة في أمريكا فإن ذلك مجرد طلاء لا يخفي جلافة البداوة. وحتى هذه مفهومة لكن من يحاول أن يغير شعب الحرمين فيفقدهم أهم منحتين منحهما الله لهم لا يمكن أن يكون ذا عقل فضلا عن أن يدعي الليبرالية التي لا يمكن أن تناسب أكثر أنظمة العالم رجعية ليس لانه ديني بل لأنه لا ديني لكونه أكثر الأنظمة تحريفا للإسلام الذي جعله قشورا تعبدية. والغريب أنهم يدعون تقليد الحداثة الغربية. ورغم أن العلم بالحداثة الغربية حتى في خصائصها العامة في متناول أي نصف مثقف فإن هؤلاء يثبتون كل يوم أنهم يجهلونها: فما سمعت في الحداثة الغربية أن كبار المفكرين فيها كانوا في حرب على الدين فضلا عن أن يكونوا ملحدين. فكل مفكري اوروبا من بداية النهضة لم يكن منهم بهذه الصفات إلا الاقل وزنا والأتفه. والشيء المشابه لما يحلمون به هو تفاهتهم المشتركة مع من لا يعتد بهم في بناء الحداثة الغربية. أما الكبار فكونهم الاصلاح التربوي السابق على الإصلاح الديني فكبار الفلاسفة والعلماء تخرجوا من المدارس الدينية. ولو كان حداثيو السعودية وليبراليوها بحق مصلحين ويريدون محاكاة نهضة اوروبا بالفعل لكانوا مثل النماذج الحقيقية التي بنت فلسفة أوروبا وعلومها شرطي الحداثة وأصلحت مؤسساتها التربوية وعلى الأقل الوجه الإداري من الحياة السياسية وليسوا مثلهم مشاركين في فسادهما وترديهما. أما القلة من زنادقة أوروبا فلا أحد يذكر له أثرا علميا أو فلسفيا يعتد به: فديكارت ولايبنتز ولسنج وهردر وكنط وفشت وشلنج وهولدرلن وهيجل كلهم خريجوا مدارس دينية ولم يعرف عن أحد منهم أنه كان يحارب المسيحية بل يسعى لإصلاح مؤسساتها بقناعة وليس بنفاق مثل أدعياء الحداثة العرب. لذلك فقد أفهم أن يصبح الحداثي العربي بعثيا أو ناصريا أي مؤمنا بأفسد ما أنتجت أوروبا بين الحربية أعين الفاشية القومية والفاشية الشيوعية لكن أن يتحول من هذين الموقفين إلى دعوى الليبرالية فهذا لا يصدقه من يعرف أن الإنسان قلما يتغير من الشر إلى الخير والتغير المقابل هو الأرجح. وعلى كل فقد بدأت بالإشارة إلى أن حداثيي العرب من الألغاز: فهم لا يؤمنون بحرية الإرادة وبصدق العلم وبخيرية القدرة وبجمال الحياة وبجلال الوجود بل يعتبرون ذلك لا يصلح إلى لشيء واحد هو دور الرداء الذي يخفي أضدادهما بل هم يسخرون ممن يؤمن بها لأنهم عندهم مثاليات “لا تشرب كونياك”.