الجناسة (الجندر) ودورها السرمدي- أبو يعرب المرزوقي



لتحميل المقال أو قراءته في صيغة و-ن-م pdf إضغط على العنوان أو الرابط أسفل النص



تمهيد

لمسألة الجناسة (الجندر) حدان متقابلان بداية وغاية وكلاهما يمثل السر العميق في كل إشكاليات الدين والفلسفة في كل ما نعلم من تراث الإنسانية المكتوب سواء كان اسطوريا أو متجاوزا للسرد الأسطوري (الميتوس: منطق الخيال) في سعيه للطرد العلمي (اللوغوس: منطق العقل).
والمنطقان متلازمان تلازم الدماغ العميق وقشرته.
فهي تبدأ بحد يتصل بالرابطة الإنسانية الأساسية المتمحضة للعلاقة بين المرأة والرجل في وحدة العمران الدنيا أو الأسرة (الجنس والجمال) وتنتهي بحد يتصل بالرابطة الإنسانية المتمحضة للوسيلة من العلاقة بين البشر في وحدة العمران القصوى أو الدولة (السلطة والمال).
لكن علاجها الحديث حصرها في عرضيات الحدين فجعلها تدور حول منزلة المرأة في التمثيل السياسي ( في الخطاب الحداثي ) من حيث الوجود وحول دورها من حيث التعبير عن الوجود وخاصة في التعبير الأدبي ( في الخطاب ما بعد الحداثي ).
والمعلوم أن هذا الوجه الثاني أشمل من ذاك الوجه الأول لكنهما يعودان إلى عرضيات البعدين الأولين. فالتعبير يميل إلى رد أول الحدين إلى ثانيها والتنزيل يميل إلى رد ثانيها إلى أولهما.
وما يجري في التاريخ الفعلي هو كلا الردين واختلاط الجنس والحب والسلطة والمال في نسيج العلاقات البشرية الفعلية والتعبيرية.
لكن العلاج المتطرف لمسألة الجناسة يتردد بين:

  • منظور مثالي يحاول أن يحرر مقومي الحد الأول مما يتسلط عليهما من مقومي الحد الثاني : تخليص الحب والجنس من مؤسسة الزواج التي هي مؤسسة سلطة ومال.
  • ومنظور ذريعي يحاول أن يحرر مقومي الحد الثاني من تأثير مقومي الحد الأول اللذين يصبحان مجرد أداتين لديهما : تخليص الحب والجنس من السلطة والمال اللذين يستعملانهما في السلطة وخاصة في الدعاية والجوسسة.

فالجندر لفظة انجليزية تعني في دلالتها الأولى جنس الكلمات في نظرية طبائع المفردات وما يترتب عليها في الإعراب مقابلة بين المذكر والمؤنث (وفي بعض اللغات الغربية يوجد ما لا جنس له كما أن العربية تعتبر ما لاجنس له يقبل التأنيث والتذكير).
ثم أصبحت لها دلالة ثانية في وقائع ما ينتج من اختلال يصيب معادلة العلاقات بين المرأة والرجل ودلالاتها كما تعبر عنها معركة تحقيق التوازن بين حدي المسألة الجنسية المشار إليهما أعني بمجاليها العرضيين اللذين يفسدان مجاليها الجوهريين:

  1. المجال السياسي والاجتماعي في حقائق المنزلة.
  2. والمجال الادبي والثقافي في دلالـة المنزلة.

وبين أنه ليس من اليسير علاج هذه المسألة من دون اللجوء إلى تحليل قد يعتبره القارئ مغرقا في التجريد والتنظير.
لكن ذلك مما ليس منه بد إذا أردنا للقارئ العربي أن يفهم القضايا من منظور مستقل يخلصه من الكلام السطحي الممجوج الذي تؤول إليه قضاياه بمجرد عرضها من خلال الممضوغ من الموضات الغربية.
لذلك فسنبدأ بعرض مقدمتين يخلو منهما الكلام العام الذي يشيع بين المثقفين العرب لما يغلب عليهم من ترديد الشعارات دون تنزيلها في محدداتها الظرفية ومقوماتها الحضارية ومحاولة تطبيق ثمراتها المشوهة دون فهم حاجات الحضارة العربية الإسلامية.
مسألة الجناسة جزء ضئيل من مسألة الذوق والجنس من حيث صلتهما بمسألة أعم هي طبيعة التوازن بين كل الطاقات التي يتقوم بها العمران البشري وكيفياتها أولا ثم بالأشكال التي يصرفها بها الإنسان أو بلغة عبد الرحمن ابن خلدون بين مادة العمران بفرعيها أي الاقتصاد والثقافة (ومنهما يتألف المجتمع المدني) وصورته بفرعيها أي الدولة والتربية (ومنهما يتألف المجتمع السياسي).
وهذه المقدمة ستساعدنا في الجواب عن السؤالين التاليين:

  • لماذا يقع الفصل بين أجزاء المسألة العامة فتعالج علاجا فصاميا يجعل حل معضلات الواحدة تعضيلا للباقي منها في المجتمعات الإنسانية بالرغم من أن التحليل العميق يبين أن الغرب نفسه يسعى إلى التخلص من هذا الفصام سعيا إلى تحقيق تناسق الحلول التي يقترحها في منظومة ثقافته ومجتمعه؟
  • وهل مسألة الجنس بالمعنى الذي شرحنا مسألة قابلة للعلاج بمجرد قيس منزلة المرأة في مجتمعاتنا بمنزلتها في المجتمعات الغربية والاقتصار على محاكاة الحلول الممارسة هناك لعلاج المشاكل المطروحة هنا دون مراعاة أمرين ضرورين:
    • أولهما تاريخي يخص مرحلة النضوج الحضاري واختلاف السياقات الحضارية.
    • والثاني فلسفي يخص الكلي في المسألة ومثاله الأعلى لا يمكن أن يكون ما توصل إليه المجتمع الغربـي.

المقدمة الأولى

ولنبدأ بالمقدمة الأولى.
يتألف العمران البشري -مادة وصورة- من خمس طاقات تتميز بالانبجاس السيال الذي يعسر تأطيره والتحكم فيه.
وهذه الطاقات هي مادة أصناف التقويم التي ينحصر فيها فعل العقل البشري بحسب أدواته (الحواس) مأخوذة واحدة واحدة أو مؤلفة مثنى أوثلاثى أورباعى أوخماسى:

1- طاقة الجنس

طاقة الجنس ومنها ينبع التقويم الذوقي لذة وألما بمعناهما المادي والمعنوي (ومنه كل الفنون ومعاييرها).
وللجنس يعود المنبع بسبب التطابق بين طبيعة القيم الجمالية والخاصية الجوهرية للجنس.
فالقيم الجمالية تنتج عن صفات خاصة في التطابق بين الحس والمحسوس تطابقا يحرك في الذات المتحدة نفسا وجسدا خلال صلتها بـالكائنات الحية (الحيوان والإنسان) من الوجود انفعالات وافعال مولدة للذة والألم في الحال الحقيقي أو الوهمي أو بتذكرهما بنوعيهما الحقيقي والوهمي من الماضي أو بتوقعهما في المستقبل.
وكلما اجتمعت هذه الصفات بالتقاء إدراكين فأكثر كانت اللذة أكبر.
والمعلوم أن الجنس تلتقي فيه الحواس الخمس (الذوق والشم والبصر والسمع وخاصة اللمس) فتجتمع الصفات المشار إليها عند بلوغ فعل الجنس غايته:
ففيه يلتقي الحس البصري والسمعي والشمي والذوقي إلى أن يحصل اللمس التام أو الجماع الذي يلغي المسافة بين الحاس والمحسوس إذ يكون كلا الشخصين حاسا ومحسوسا وبه تعود وحدة النفس الواحدة التي خلقنا الله منها (النساء 1).
لذلك فهو أسمى اللذات بمقتضى نص القرآن الكريم الذي جعل من أسمى متع الجنة -لا أسمى منه إلا رؤية وجه الله- رمزا عند من يقصر البعث على الروح وفعلا عند من يقول بالبعث الجسدي.

2- طاقة الرزق

وطاقة الرزق ومنها ينبع التقويم الرزقي شبعا وجوعا بمعناهما المادي والمعنوي (ومن كل الثروات ومعاييرها).
فالقيم الرزقية تنتج عن صفات خاصة في التطابق بين الآكل والمأكول تطابقا يحرك في انفعالات الذات المتحدة نفسا وجسدا في صلتها بالكائنات الحية (الحيوان والنبات) من الوجود معينا للذة والألم في نفس ظروف المثال السابق.

3- طاقة النظر

وطاقة النظر أو الإدراك الفاهم والواعي تميزا وتقويما لكل ما يجري في الذات وحولها ومنها تقويم التقويم المعرفي حيرة وفهما بمعناهما المادي والمعنوي ( ومنه كل النظريات ومعاييرها).

4- طاقة العمل

وطاقة العمل ومنها تقويم التقويم العملي آمرية ومأمورية بمعناها المادي والرمزي ( ومنه كل مؤسسات الحكم والنفوذ ومعاييرها ).

5- طاقة القيام الذاتي

وطاقة الحصانة الذاتية أو القيام المستقل ومنها ينبع التقويم الوجودي (ومنه كل متعاليات الوحي والعقل ومعاييرها).

ملاحظة الطاقات الخمس

لكن ملاحظة هذه الطاقات وما ينبع منها من أصناف التقويم يبين أن الطاقتين الأولى والثانية هما أكثر مباشرة من الطاقتين الرابعة والخامسة اللتين تبدوان مستندتين إليهما في الترتيب الوجودي سندين لهما في الترتيب العقلي وأن الثالثة فيها شيء من الأوليين وشيء من الأخيرتين فتكون مشروطة وشارطة لها جميعا.
ومعنى ذلك أن كل أصناف القيم لا بد فيها من شيء من خاصية الإنسان النوعية التي هي الإدراك العقلي وأن الصنف الثالث الذي يتعين فيه جوهر الوجود الإنساني يتضمنها جميعا شرطا لقيامه المادي (الأوليين) وشرطا لقيامه الروحي (الأخيرتين).
فطاقة العمل أو طاقة القيم العملية تبدو مصدرا لنوع من القيم هو في الحقيقة قيم قيم الطاقة الرزقية لأنها منها تستمد سلطانها وبها تحكم إذ هي أفضل أدواتها.
وطاقة القيام الذاتي أو طاقة القيم الوجودية تبدو مصدرا لنوع من القيم هو في الحقيقة قيم قيم الطاقة الذوقية أو الجنسية أو هي منها تستمد سلطانها وبها تحكم إذ هي أفضل أدواتها.
وتلك هي العلة العميقة للعلاقة الوطيدة بين الدين والفلسفة من جهة والذوق الذي يعتبر الجنس أهم ذروة تعيناته الفعلية من جهة ثانية.

  • فالفلسفة نجد فيها هذه العلاقة حتى في اسمها: حب الحكمة.
  • والدين نجدها فيه من خلال دور العلاقة بين آدم وحواء بداية للوجود الدنيوي نفسه وغاية منه ودور الحب في العبادة.

لذلك فإن المسألة الجنسية ليست بنت اليوم بل هي ملازمة للعمران البشري وللتعبير الشامل على تجاربه قصدت الفنون الجميلة وفنون التساكن للتآنس بمصطلح ابن خلدون والمعرفة والسياسة والدين والفلسفة.
وتلك هي علة الحاجة إلى المقدمة الثانية التي نوردها حيننا هذا.
ولنقتصر على دراسة علاقة المسألة الجنسية من خلال هذا النسيج من العلائق.
فرغم أن جوهرها جنسي من حيث القيم الذوقية بمقتضى كون الجنس هو أقوى اللذات في المفهوم القرآني بصورة صريحة وفي المفهوم الفلسفي بصورة كنائية من خلال الحديث عن الحب سبيلا إلى المعرفة التي هي قيمتها الأسمى فإن ما يعتريها من صيغ إشكالية يتعلق بعلائقها بالقيم الأخرى أكثر من صلتها المباشرة بمقتضى جوهرها.
فهي ذات صلة بالنوع الثاني من خلال دور المال الذي هو رمزها وذات صلة بالنوع الثالث من خلال دور السؤال الذي هو رمزها وذات صلة بالنوع الرابع من خلال دور الجلال الذي هو رمزها وذات صلة بالنوع الأخير من خلال دور المتعال الذي هو رمزها.
والعلة في ذلك علة مضاعفة:

  • النفاق الاجتماعي الذي لا يريد أن يعلن أن مسألة المرأة الرئيسية هي ما يترتب على وجوب المساواة الجنسية بينها وبين الرجل المساواة التي جعلها المجتمع مستحيلة لما بنى عليه من علاقة بين النسب ودور المرأة في الإنجاب.
  • وتراكب أصناف الطاقات بعضها على بعض المؤدي إلى تبادلها الأدوار إلى حد التعاوض.
    فيمكن أن تحصل اللذة الذوقية بأي منها وأن تحصل اللذة الغذائية بأي منها واللذة النظرية بأي منها واللذة العلمية بأي منها واللذة الوجودية بأي منها.

وكذلك الألم:
فالإنسان يمكن أن يجد أي نوع منها في أي نوع منها لكونها جميعا قابلة للتعاوض أو للقيام مقام بعضها البعض.
وذلك هو السر في عسر ضبط النظام في العمران الإنساني.
لكن أهم قاعدة اكتشفها ابن خلدون هي

  • وصف الطاقتين المركبتين أو المشتقتين بصفة مقومي صورة العمران أي التربية والدولة:

النظر والعمل أداتي السلطان على الذوق والرزق إنتاجا وتوزيعا وتبادلا وحفظا ورعاية وتعبيرين عنهما.

  • أما الطاقتان البسيطتان أو الأصليتان فهو يصفهما بكونها مقومي مادة العمران أي الثقافة والاقتصاد: الذوق والرزق.

وما تتحد فيه صورة العمران ومادته ومن ثم المقومات الأربعة هو الجنس الخامس من الطاقة أو طاقة القيام التي هي معين قيم الوجود.

المقدمة الثانية

جدلية العلاقة بين مقومي صورة الحضارات (الحكم والتربية) ومقومي مادتها (الاقتصاد والثقافة) هي التي تتعلق بها الشرائع الوضعية أو المنزلة بهدف تحقيق التناسق بين الطاقات الخمس التي درسناها في المقدمة الأولى للوصول إلى شريعة تراعي كل الطاقات وما بينها من تناسق هو عين القيمة الخامسة أو القيام والحصانة الروحية للأمة.
ويمكن أن نستنتج ذلك من سورة النساء فنجيب عن سؤالين آخرين يوازيان السؤالين السابقين اللذين أجابت عنهما المقدمة الأولى:

  • كيف يمكن تحديد العلاج غير الفصامي لئلا نعضل المشكلات المترابطة فنحافظ على التناسق القيمي في المجتمع الإسلامي؟
  • وهل يمكن تحرير المسلمين من الخلط بين قيم القرآن الكريم في مسألة المرأة وما ألصق بها من تقاليد بدوية ليس للإسلام بها صلة؟

إن دراسة المقدمة الثانية تنتسب إلى النظام الخلقي وترجمته القانونية مع ما يترتب على عطالة الصراع القيمي والمصلحي في الجماعات البشرية.

وهذه المقدمة إذن مرتبطة بمسألتين تحددان منزلة المرأة والجنس في الجماعة في مستويات خمسة يعسر التوفيق بينها من دون وصل الأمر كله بأساس الوجود الإنساني من حيث هو وجودي عضوي سام يجمع بين خصائص الكائن الحي والكائن المتسامي على الحياة إلى ما يضفي عليها المعنى والقيمة:

  • مستويان أولان هما السياسي والقانوني (سلم المنازل والتراتب في الجماعة) ويخضعان إلى آليات السلطة المادية ومعايير توازن القوة وللمال فيها الدور الأول.
  • ومستويان ثانيان هما العضوي والخلقي (مسألة الجنس والنسل) ويخضعان إلى آليات السلطة الرمزية أو المعنوية ومعايير توازن المهابة وللكرامة فيها الدور الأول.

لكن هذه المستويات الأربعة يشدها بالكيان الحي المدرك عامل عسير التحديد هو عامل الذوق الذي يمكن أن يقلب كل هذه الأصناف من السلطة وهو من الأسرار التي لم يجد لها الفكر الفلسفي والفكر الديني أي حل بل ردها في الأخير إلى تحكم القلب والشعور.
وقد حاولت البحث في المسألة عندما بحثت ألغاز الوجود الإنساني ومحابسه الوجودية. وهو بحث شديد التعقيد ولا يمكن الكلام عليه هنا ومن أراد النظر فيه فليقدم.



يرجى تثبيت الخطوط
أندلس Andalus و أحد SC_OUHOUD
ونوال MO_Nawel ودبي SC_DUBAI
واليرموك SC_ALYERMOOK وشرجح SC_SHARJAH
وصقال مجلة Sakkal Majalla وعربي تقليدي Traditional Arabic بالإمكان التوجه إلى موقع تحميل الخطوط العربية
http://www.arfonts.net/


نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي