تمهيد:
هذا بحث في شروط النجاح للانتقال السلمي نحو الديموقراطية السوية. وهو في آن رسالة إلى النخبة السياسية في الجمهورية الثانية عامة وإلى رئيس الحكومة المعين ورئيس الدولة المنتخب لهما مباشرة أو لمن ائتمناه على مهمة إعلامهم بما يمكن أن يفيدهم من قد دراسات تساعدهم في اجتهادهم. ولا بأس إذا كانت الرسالة مطولة بعض الشيء فالمعلوم أن غالب الساسة العرب لا يقرأون حتى لو كان العمل قصيرا. فالفكر هو آخر شيء يفكرون فيه فضلا عن اعتقادهم أن الفلسفة “تفلفس” لا طائل من ورائه. لكني أعرض التفكير حتى لمجرد التذكير. وهو خال من النكير على أصحاب التدبير. أقدمه بعد اعتزال العمل السياسي المباشر اعتزالا نهائيا دون التخلي عن السهم غير المباشر في الشأن العام.
التشخيص بين الواقع والواجب
يكاد الإجماع يحصل حول التحديات التي تنتظر أول حكومة في الجمهورية الثانية. وقد حصرت شروط نجاحها المباشرة في تحقيق هدفي الأمن والتنمية خاصة بأداتي تحقيقهما أعني ردع ما يوصف بالإرهاب وتشجيع ما يوصف بالتشغيل والاستثمار في المناطق المهمشة لتيسير شروط الحياة الكريمة. ولست أنوي المجادلة في هذا التشخيص للمهمة المنتظرة من الحكومة المقبلة. إنها حقا أمام تحديات لا قبل لها بها إلا بما يشبه المعجزات. وأولى هذه المعجزات ارتقاء النخب السياسية إلى مستوى المسؤولية القيادية العليا. لذلك كان سعيي الدائب لرد الشعبوية والثوروية لتيسير عملية الانتقال الديموقراطي بكلفة مقبولة.
لذلك فعندي أن هذا التشخيص مقبول في الجملة. لكن التيسير العملي لا يوجب عدم التوضيح الصارم للعسر لبيان العسر من الوجه النظري حتى لا يتحول الأول إلى تياسر فإهمال : فمن وجهة نظر البحث عن العلل الحقيقية للداء والدواء يعد هذا التشخيص مقصورا على علاج الأعرض بدلا من التصدي إلى المرض الذي جعلها تعرض والذي لم يرد ذكره خوفا من عبئه أو جهلا بحقيقته. ذلك ما أريد تقديمه في هذه المحاولة.
فهذا التشخيص الهادف إلى علاج الأعراض لا يقتصر على تونس وحدها ولا حتى على أقطار الربيع العربي دون بقية أقطار الوطن والأمة. ذلك أن الدول التي تعارض الثورة رغم خلوها شبه التام من الظاهرتين تعاني مع ذلك من نفس الداء : الصراع الناتج عن الانحطاطين الموروث عن ماضينا والموروث عن الحقبة الاستعمارية وما خلفته من ذهنية التعامل مع الشعوب بوصفها أنديجان. فهذا الصراع جعلها تخشى من العدوى التي نتجت عن ثورة متدحرجة علتها أن شباب الأمة بجنسية لم يعد يحتمل المعاملة بوصفه أنديجان بل يريد شروط الحرية والكرامة.
لذلك فموقف الثورة المضادة في الإقليم بسند من الاستعمار موقفهما من الثورة وتحولهما إلى داعم تام للثورة المضادة لا يمكن فهمه إلا بالوعي الدقيق بأن الداء واحد وهو وراء الأعراض وخوفهم من الموجة الثانية منها إذا لم يسبقوا فيخادعوا بكل الصور لمنع ذهاب الثورة إلى غايتها: قيام المواطن بدوره وتحمل مسؤوليته في علاج أمراض المجتمع التي تحول دونه وتحقيق شروط المناعة حماية ورعاية للتخلص من التبعية المادية والروحية التبعية الناتجة عن الانحطاطين وما نتج عنهما من أخلاق عامة تتصف بسلوك الاستبداد والفساد العامين.
طبيعة التشخيص المقترح وحدوده
وبين أن التشخيص -حتى عند عدم الذهاب إلى هذه الأعماق- فإنه ليس تشخيصا قاصرا بسبب هذا التوجه إلى الأعراض دون الداء فحسب بل هو كذلك تشخيص متناقض بالجوهر لأن العلاج فيه خاضع للدور أو لما يسمى بالحلقة المفرغة :
فإذا كان الاستثمار مشروطا باستتباب الأمن
وكان استتباب الأمن مشروطا بالاستثمار
فمن البين أننا أمام دور يعسر قطع التسلسل في مفاعيله الجهنمية. ذلك أن الاستثمار لن يأتي لسد الحاجات فيموله الناس من دون استتباب الأمن. والأمن لن يحصل فيأمن الناس من دون تمويل الاستثمار لسد الحاجات. والقيام بهما معا شبه مستحيل وتقديم أحدهما على الأخر ممتنع بسبب الحاجة إلى صبر أيوب انتظارا للثاني : والشعوب لا تصبر وتضحي إلا إذا أشركت في فهم الأمور على وجهها الصحيح وتبين لها الهدف والطريق والعدل وما يقبل التصديق.
ويعني ذلك أن الحل ينبغي أن يتمثل في اقناع الشعب بتضحيات المرحلة الوسطى التي ينبغي أن يتم فيها إما تمويل الاستثمار من دون ضمان استتباب أمن أو استتباب الأمن من دون ضمان تمويل الاستثمار لامتناع الجمع بين الوجهين في غالب الأحيان طيلة مراحل عدم الاطمئنان. وتحديد طبيعة المرحلة الوسطى وبيان أنها لا تكون ممكنة إلا إذا كانت الجماعة قد وثقت بذاتها وعزمت على تحقيق مشروع جماعي يؤمن الجميع بأنه شرط التخلص من هذا الدور.
وسنكتفي هنا بالكلام على وجه القطري من هذا الجهد بداية لأن وجهه المتجاوز للأقطار ليس بعد في المتناول رغم أننا بينا أنه يقتضي التخلص من تفتيت المكان علة التبعية المادية والعجز على أداء ظائف الحماية والرعاية وتشتيت الزمان علة التبعية الرمزية والعجز على أداء وظايف الرعاية والحماية. والوجه القطري يتعلق بمرحلة الإجماع الوطني على التشخيص السليم الذي يقتضي تحييد الخلافات الثانوية بين النخب السياسية من أجل حسم الشروط التي تؤجلها بوصف التأجيل شرط تحسين الموجود بعد إيجاده خلال الصبر على ما يعارض المنشود بوصفه مؤقتا يقبل به الجميع ويتصدون له تصديهم لمرض تمر به الجماعة وتتعاون على علاجه كما يحصل في حالات الأوبئة التي لا يسلم منها أحد إذا أراد أن يحمل غيره المسؤولية دون أن يلزم نفسه بما يترتب على سهمه فيها.
فالإرهاب والفقر عرضين يقبلان العلاج الشافي إذا ردا إلى الوباء الذي اصاب الأمة بسبب الانحطاطين الذي هو داء الكل مسؤول عنه وخاصة من يتصور نفسه بمنأى عن العرضين. فما يحول التنافس السياسي السوي إلى مرض وجودي هو صدام الحضارات الداخلي المدعوم بصراع الحضارات الخارجي والذي هو حرب أهلية لم تتوقف منذ قرنين بين ثقافتين أولاهما تمثل الانحطاط الذاتي والثانية الانحطاط الموروث عن الاستعمار. والدعم الاستعماري ليس حبا في من يدعم ولا رغبة في تحديثنا التحديث المفيد بل هو يهدف إلى جعل الأمة تأكل بعضها بعضا فتعيش حربا أهلية لصالحه فيحاربنا بما يحدثه لدينا من صراع التهديم الذاتي.
وهذه الوحدة الوطنية هي علة الدعوة إلى المصالحة لتأسيس حكم الوحدة الوطنية الصادق وليس الكاريكاتور المخادع الذي حذرت منه في محاولاتي السابقة. فلو لم يطبق الرسول الأكرم هذه السياسة لما وجدت الحضارة الأسلامية وامبراطوريتها التي هي قاعدتها المادية أصلا وهي كذلك شرط استئنافها إذا كنا حقا نسعى لتحقيق شروط الحرية والكرامة. وكل من يعتقدهما ممكنين من دون هذا الشرط لم يفهم معنى العولمة واستبداد أقطابها على الكيانات الهزيلة في عصر العماليق.
وهذه المحاولة هي لبيان شروط المصالحة على الأقل في كل قطر من أقطار الوطن العربي شرطا للحكم بمنطق الوحدة الوطنية الصادق الذي يعالج الداء ولا يقتصر على أعراضه. والمعلوم أن المصالحة كما رددت منذ بداية الثورة ليست بديلا عن المحاسبة بل هي شرطها لكونها المناخ الروحي الذي يجعل الحساب يجري في مناخ من العدل لا من الانتقام لتحقيق الاندمال السوي للجراج وليس نكأ لها.
وآمل أن يكون للقراء الصبر الكافي لمتابعة التحليل الذي أقدمه حتى يتحقق في الرأي العام شروط تجاوز الدور أو الحلقة المفرغة التي قد نقع فيها خلال مجاولة التصدي للتحديات فتفشل التجربة ونكتفي بتبادل التهم كل يحمل مسؤولية الفشل للآخر بحيث يصبح من حكم ستين سنة أقل مسؤولية ممن حكم سنتين لأن الهدف ليس خدمة البلاد بل تصفية الخصم من أجل غايات حزبية تكون غايتها في النهاية هي مزيد من التبعية وفقدان شروط الحرية والكرامة.
عسر التأويل لفهم سياسة الحكم الجديد
ليس خافيا على أحد أن موقفي من الأستاذ الباجي قائد السبسي سلبي في الجملة وأن ذلك مع ذلك لا يعني أني سأعمم الحكم على المستقبل حتى وإن حافظت على موقف الشك. فقد كتبت في ذلك الكثير منذ أولت قصة التارزي التي بدأ بها حكمه في أول يوم لتعيينه قبل الانتخابات الأولى. لكني مع ذلك ومن باب الموضوعية أحسب للرجل سعيه الموفق إلى حد كبير سعيه الذي انتهى-وإن بغير قصد منه لأنه لا يقول بما يمكن أن يؤول به ما حصل بسبب جهده في تكوين النداء.
فهذا الجهد أدى بغير قصد من صاحبه إلى تحقيق التوازن بين فرعي الدستور المقدم للأصالة وصلا بفكر الثعالبي (النهضة) والمقدم للحداثة وصلا بفكر بورقيبة (النداء). والمعلوم أن السبسي لم ينزل جهده في هذا السياق. ومعنى ذلك أن السياق كما اعرضه هو سياق قراءتي للأحداث بصرف النظر عن نوايا السبسي وحزبه-لأن التاريخ يتجاوز نوايا المسهمين فيه عادة. فالنداء يسوق سعيه في الداخل والخارج على أنه صد للظلامية الإسلامية ودفاع عن الديموقراطية ضد الفاشية.
لذلك فإنه يمكن القول إن الخطوتين اللتين تمتا إلى حد الآن بعد الانتخابات الرئاسية-في مجلس النواب وفي ترشيح رئيس الحكومة- لا تكفيان لفهم القصود البعيدة لسياسة الحكم الجديد. فهما قابلتان لفهمين متناقضين أحدهما موجب والثاني سالب. ولا يمكن الحسم بتقديم هذا أو ذاك من الفهمين إلا بالاستناد إلى ما سيتلوهما من الخطوات التي قد تغلب أحدهما على الآخر فتكون الحصيلة إيجابية أو سلبية:
فمن موقف إيجابي لا يحاكم النوايا يمكن القول إن أول رئيس للجمهورية الثانية قد اتعض بدروس الماضي وفهم أن الحرب الأهلية بين التأصيليين والتحديثين ينبغي أن تتوقف وأن تونس لن تستقر من دون صلح بين :
- التيار الأكبر من الإسلاميين غير المعادين للحداثة : الجزء الدستوري من النهضة أو الثعالبية المحدثة,
- والتيار الأكبر من الحداثيين غير المعادين للإسلام : الجزء الدستوري من النداء : أو البورقيبية المحدثة,
حتى تتحرر نخب تونس من الصدام الحضاري لتحصر التنافس بينهما في علاج القضايا السياسية والاجتماعية فيحصل التقدم الحقيقي كما حدث في البلاد الإسلامية التي كانت في مستوى التحدي التاريخي للأمة لأن الأحزاب الهامشية الأخرى ستصبح تابعة أو معدلة لهما دون أن تكون محددة للمسار الجملي لحركة الشعب (ماليزيا وتركيا وبنحو ما اندونيسيا). وإذا ذلك كذلك فإن تجربة تونس ستكون بحق نموذجا يحتذى في كل بلاد الإسلام. وتكون تونس بذلك هي أم الثورة الحقيقية ليس من حيث إنها مجرد نقطة الانطلاق بل من حيث كونها كذلك نقطة المنعرج المحدد لشرط نجاحها : فما تقدم على الآتي كان مجرد مقدمات غير بينة التوجه وهي لا تصبح كذلك إلا بغايتها أعني بنجاح التأسيس المتين للديموقراطية التي هي غاية الثورة الحقيقية.
لكن الموقف السلبي الذي يحاكم النوايا ليس اعتباطا بل قيسا للمستقبل على الماضي ما لم يكذب بالأفعال لا بالأقوال طرد الماضي على المستقبل بعودة النظام القديم عاداته وسلوكاته. فلعله يصل مجريات الأحداث بما يسيطر اقليميا ودوليا فيجعل هاتين الخطوتين فخا ينفذ استراتيجية ذات دهاء خبيث يهدف إلى الخداع السياسي المداور. فالأستاذ السبسي يعلم أكثر من غيره أن التحقيق المباشر للقضاء على الإسلام السياسي الذي يريده الوضع الإقليمي والدولي ممتنع لذاته ولظروف تونس الامنية والاقتصادية ولظروف السبسي الشخصية (السن والصحة). لذلك فهذه السياسية الإغرائية للإسلاميين قد تكون علتها مجرد بديل عن تعذر معركة الحسم السريع للعلم كلفته من خلال التجربتين السابقتين البورقيبة والابنعلوية ومن خلال ما يجري في مصر والشام وليبيا والعراق واليمن وما سبق أن جرى مثله في الجزائر.
معيار حسم الخيار بين الفهمين
لذلك فنحن لم نصل بعد إلى دلائل ثابتة تمكن من الفصل بين هذين الفهمين للخطوتين رغم كونهما على الأقل في الظاهر موجبتين إلى حد كبير. فتعيين رئيس مجلس النواب ونائبه الأول كلاهما اختيار موفق جمعا بين فرعي الدستور حتى بالعلامات الخارجية بين الموقفين وبين الجنسين : الزي التقليدي والزي الحديث مع إمرأة. ويبدو لي أن اختيار رئيس الحكومة علامة توفيق حقيقية. ففضلا عن كونها التزمت عدم تحزيب رئاسة الحكومة اختارت شخصية لها المزايا المنتظرة من رجل توفيق يجمع بين القدرة على الروية وعلى الحسم شرطي كل فعل سياسي مؤثر بحق على مجريات الأمور خلقيا وفنيا:
فخلقيا لم أر من الأستاذ الصيد- إذا صح ما خبرته لم منه خلال عشرة شبه يومية دامت سنة كاملة -فضلا عن أن الصدف شاءت أن نكون دائما جارين في مجلس الوزراء- إلا دماثة الخلق ورجاحة العقل وروية العلاج وخاصة في المهام التي كلف بها إضافة إلى دوره مستشارا أمنيا أعني ما تعلق منها بنظامة تونس المادية (لتقاعس البلديات) وكلها صفات تليق برئيس حكومة توافقية تحقق الصلح بين الأصالة الحداثة في لحظة حرجة من تاريخ الأمة.
وفنيا يعد اختيار الأستاذ الصيد إن صح فهمي للوضع الأمني في البلاد اختيارا حكيما لأنه الاختيار المناسب بمعنيين نظرا إلى ما للمؤسسة الأمنية من دور أساسي لعلاج الوضع. فهذا الدور يقتضي أولا أن يكون رئيس الحكومة على صلة وثيقة برجالها ونسائها من الأمنيين وأن يكون ثانيا على علم دقيق بجهازها وبقواعد عملها وحتى بعلاقات القوة بين أجنحتها. فالسيطرة اللطيفة على أدوات الفعل الأمني مشروطة في كل مسعى لتحقيقه باقل كلفه سياسية مع احترام حقوق الإنسان.
لذلك فإني أعتقد أن الخطوتين الأوليين إذا تواصلتا بما يجعل تصرف السلطتين التشريعية والتنفيذية بتكوينهما وبسلوكهما تشريعا وتنفيذا يمكن أن تمثلا المعيار الحاسم في قضية الخيار بين الموقفين من الحكم الجديد في تونس وكذلك في الشرط الحقيقي لفلاح الثورة ونجاحها في الشروع الفعلي لتحقيق الأهداف. وفي ضوئهما يمكن أن نحدد استراتيجية التوافق الذي قد يوجب على الإسلاميين-بخلاف ما تقتضيه الحسابات السياسية والاستعداد للانتخابات- تحمل مسؤولية المشاركة في الحكم بعكس غيرها في المرحلة السابقة لتدعيم بدايات العهد الجديد والمشاركة في تأسيس الجمهورية الثانيةالتأسيس الفعلي ليس في النصوص فحسب بل في الواقع وذلك مشاركة إيجابية في الحكم أو في المعارضة إذا تحققت الشروط التي تؤيد الموقف الأول.
لكن المشاركة السلبية واردة كذلك إذا كان ولا بد منها أعني المعارضة الرافضة لما يورطها في ما يفصلها عن قاعدتها فيزداد التشرذم ولا تسترد شبابها الغاضب وهو ما قد يلغي دور الإسلام السياسي بقدر معتبر في الانتخابات المقبلة التي قد لا تنتظر نهاية الدورة إذا استعملت حيلة حل المجلس لإعادة التشريعيات. فمنع تحقق الشروط التي تؤيد الموقف الثاني سيتبين من العلامات التي سأصف : وكلها تعود إلى الفصل بين :
ما إذا كانت الحكومة حكومة وحدة وطنية حقيقية يكون فيها تحمل المسؤولية بقدر الدور فيها وليس شلكيا لأن ما ستقدم عليه الحكومة من إجراءات كلنا لا يمكن أن ينكر أنها ستكون بحق أليمة للجميع وخاصة للطبقات الدنيا والوسطى.
أم هي كاريكاتور حكومة وطنية أعني خدعة للقضاء على الإسلام السياسي الذي سيحمل كل ما قد ينجر عن توظيف الحكم لتوتير الوضع للفصل بين القيادات والقاعدة توريطا للثانية في ما ييسر تهمة الإرهاب وللأولى في ما ييسر تهمة خيانة القاعدة.
تصنيف مراحل الانتقال إلى الديموقراطية
سأكتفي بتقديم مقترحات أعتبر تحقيقها هو العلامات المساعدة على الحسم بين الاتجاهين في فهم الاستراتيجية المتبعة في المرحلة الثانية من تأسيس الجمهورية الثانية. وحتى نفهم لم هي ثانية فلنصنف المراحل من الثورة إلى نهاية الانتخابات الأخيرة. فالمرحلة الأولى انتهت بالانتخابات الأخيرة. ونهاية الجهورية الأولى كانت مرحلتها الثانية الانتخابات الأولى. ومعنى ذلك أن المرحلة الانتقالية تألفت خمس مراحل :
1 و2-مرحلتين أنهتا الجمهورية الأولى بفضل القصبتين.
4 و5- مرحلتين تؤسسان للجمهورية الثانية بفضل المرحلة الوسطى.
3- المرحلة الوسطى قلب للمراحل كلها مرحلة القطيعة الفعلية مع الماضي.
وقد مثلت هذه المرحلة الوسطى تجربة فريدة النوع مرلحة حددت بوضوح طبيعة ما يعاني منه المجتمع التونسي من صراع حضاري بين ثقافتين تعيشان حربا أهلية فعلية في مصر كبرى البلاد العربية وكادت تصل إلى الحرب الدامية في تونس. لذلك فهي نموذج وعينة من الوضع السائد في كل المجتمعات العربية : وضع الصراع المزدوج الحضاري بين ثقافتين والسياسي بين موقفين سبق لي تحليلهما وبيان خطر الخلط بينهما.
مرحلتا ختم الجمهورية الأولى وكلتاهما تقدمتا على حكم الترويكا
فما قبل الانتخابات الأولى فترة ليست طولية لكنها مرت بمرحلتين بينتي المعالم وسبق لي أن حللتهما:
1-المرحلة الأولى حاولت فيها الدولة العميقة الابقاء على النظام القديم من خلال المحافظة على الدستور. وهذه المرحلة قصيرة جدا وتمثلها حكومتا الغنوشي.
2-المرحلة الثانية حاولت فيها الدولة العميقة تنظيم السعي لتأسيس النظام الجديد تأسيسا تكون هي المحكمة في مفرداته ومعادلاته بإعادة التأسيس على شكل رمز إليه المشرف عليه بدور التارزي الذي خاط كسوة خروتشاف وهي المرحلة التي أعدت إلى الانتخبات الأولى : وهذه المرحلة أطول لكنها دون السنة. إنها حكومة السبسي التي بدأت بقرار التخلي عن النظام القديم والسعي لتأسيس النظام الجديد بصورة تحقق أهداف الثورة في الظاهر وتحافظ على مصالح النظام القديم في الباطن.
مرحلتا تأسيس الجمهورية الثانية وكلتاهما تأخرتا عن حكم الترويكا :
4-المرحلة الرابعة هي الخروج من تعثير الترويكا لاستكمال التأسيس الدستوري للجمهورية الثانية كما يريدها النظام القديم في الغاية : الانتخابات الثانية.
5-المرحلة الأخيرة هي التي بدأت بعد الانتخابات الرئاسية والتي يتنظر منها تنفيذ الدستور بفضل تشكيل القوى السياسية الجديد الذي افرزته الانتخابات الثانية.
مرحلة النقلة من المرحلتين الأوليين إلى المرحلتين الأخيرتين :
3-لكن المرحلة الأساسية رغم كل ما يعاب عليها هي مرحلة ما بين المرحلتين الأوليين (1 و2 ) والمرحلتين الأخيرتين (4 و 5). إنها المرحلة الحرجة التي تصادمت فيها كل القوى السياسية والاجتماعية لتفرز الوضع الحقيقي للمسرح السياسي التونسي بقواه الفعلية وهي التي بمآلها حدثت النكسة في مصر والحمد لله أنها مرت بسلام في تونس ربما لأن الرؤية الاستراتيجية كانت أوضح لدى إسلاميي تونس -ويمكن بكل تواضع أن أنسب لنفسي بعض الدور في ذلك- وربما كذلك لأن الخوف من المآل المصري ساعد في تدعيم هذه الرؤية وزادها وضوحا وقابلية للتنفيذ خاصة ووزن تونس الجيواستراتيجي لم يكن بالضررورة دافعا لأن يحصل فيها ما حصل في مصر: وتلك هي تجربة الترويكا وما أدت إليه من تحقيق الفرز الحقيقي للقوى السياسية في البلا.
فهذه المرحلة بينت جوهر الإشكال في الوضعية التونسية نموذجا لكل الوضعيات العربية والإسلامية وعينة منها. ذلك أن غلبة الصدام الحضاري وتوظيفه في النزاعين السياسي والاجتماعي جعله الحائل دون التنافس السياسي السوي فأدى إلى فقدان الزعماء السياسيين البوصلة. فكان ذلك علة للقضاء على أغلب الأحزاب لكون قادتها لم يميزوا بين هذه المستويات المختلفة : لم يبق ذا وجود مؤثر بحق من الأحزاب المعارضة قبل الثورة إلا حزب النهضة لأن الأحزاب الأخرى كلها إما ذابت في النداء أو عادت إلى حجم لا يزن في المعترك السياسي إلا بالتبعية للنداء أو للنهضة بما في ذلك الأحزاب التي نشأت بعد الثورة.
العلامات الدالة على حسن النوايا وصدق الطوايا
ومن ثم فلا بد من تجاوز هذه الوضعية للتأسيس السوي لحياة سياسية ديموقراطية حقيقية قد يسترد من خلالها بعض الأحزاب دورها بمعيار سياسي واجتماعي بعد أن يحسم أمر تحييد الصراع الحضاري وتركه للتطور الاجتماعي المدني المديد الذي ليس له نفس إبقاع المعارك السياسية. وشرط ذلك أن يتحقق التوازن بين ممثلي الثقافتين -التأصيلية والتحديثية-ومن ثم التوافق بين قوتين سياسيتين (النهضة والنداء) وقوتين الاجتماعيتين (العمال ورجال الأعمال) لتحقيق الانتقال السلمي من الجمهورة الأولى المبنية على الاستئصال الحضاري الحائل دون التوافق السياسي إلى الجمهورية الثانية المبنية على التوافق السياسي المحرر من الاستئصال الحضاري.
ويبقى اليسار من جنس الملح الذي لا بد منه في كل طعام لكن الإفراط فيه يفسده. والطعام هنا من جنس أول يخص الموقف من مسألة الأساس الحضاري للأمة ومن جنس ثان يخص الموقف من المسألة الاجتماعية للجماعة. وتطرف اليسار في هاتين المسألتين الحضارية والاجتماعية هو المصدر الأساسي للنزعة الاستئصالية عند قياديه الذين يشبهون المرضى النفسيين لأن مواقفهم لا تفهم إلا بانفصام مرضي يجعل صاحبه يسعى إلى فرض تصوره الساعي إلى قود الجماعة إلى جنته بالسلاسل فضلا عن فقدان مبدأ الواقع والعيش في يتوبيا العدل المطلق التوزيع مع غياب شرط الفاعلية لأنتاج ما يريد توزيعه.
لكن الوزن الشعبي لمثل هذه الأفكار يلغي دورها السياسي ولا يبقي إلا على دورها الفكري الذي تحتاجه الأمة مهمازا للضمير الذي غالبا ما يقع في سبات لدى الأغلبيات السياسية فتحتاج إلى شيء من المراهقة الشبابية التي يمثلها الفكر اليساري-عندما يكون أصحابه صادقين والحال ليس كذلك لأن يسارنا العربي هو يسار الكافيار بعد المرور بمرحلة الخدمة لدى المخابرات والوصول إلى الحلف مع الاستبداد والفساد- لكنه مع ذلك بتطرف خطابه اليتوبي على الأقل لدى بعض شبابه وفي شباب قياداته يمثل رغم عدم جديته السياسية ثقلا معنويا وخلقيا لا ينبغي الاستهانة به.
ونظرا للمقام فإني لن أطول القول في العلامات التي تمكن من حسم الحكم في الخيارين اللذين أشرت إليهما لتأويل سياسة المرحلة الثانية من تأسيس الجمهورية الثانية. سأكتفي بخمس علامات إذا تحققت كان الفهم الاول هو الأرجح وعندها يصبح من واجب الإسلاميين القبول بالمشاركة الإيجابية حكما أو معارضة وإذا غابت كان الفهم الثاني هو الأرجح وعندئذ يصبح من واجب الإسلاميين التصدي السلمي لمحاولات العودة إلى النظام القديم بمنطق ما يسود على السياسة الإقليمية والدولة من حرب على استئناف المسلمين لدورهم التاريخي في العالم.
العلامة الأولى : بنية الحكم الفاعل والتمثل العادل
لن أطيل الكلام على الدستور الذي عندي الكثير من الاعتراضات خاصة حول بينة النظام السياسي وحول توزيع السلط بين التشريعي والتنفيذي والقضائي وكذلك حول كيفية انتخاب المنتخب منها وعدم انتخاب عدم المنتخب منها. وما يعنيني هو شروط فاعلية الحكم وأدائه لوظائفه وخاصة شروط انتخاب القيمين عليه. لذلك فما يعيني بالأساس هو القانون الانتخابي الذي بمقتضاه يتم ملء الوظائف التشريعية والتنفيذية خاص.
لذلك فعندي أن أول مهمة ينبغي القيام بها قبل الانتخابات البلدية والجهوية هو تعديل قانون الانتخاب حتى يصبح مزدوجا نصفه بالأسماء والثاني بالنسب. فالنوع الأول هو شرط الفاعلية الناجعة. والنوع الثاني هو شرط التمثيلية العادلة. وكان يمكن أن أتكلم على أول إصلاح دستوري بنبغي البدء به لو كان ذلك ممكنا بمقتضى الدستور نفسه : فلا بد من وجود غرفتين واحدة بالتمثيل الشخصي لفاعلية الحكم والثانية بالتمثيل النسبي المطلق لعدالة التمثيل للجميع. وتكون الأولى للتشريع الذي يقتضيه عمل السلطة التنفيذية عملها الناجع. وتىكون الثانية للنقد والاقتراح حتى يكون العمل على علم وحاصلا على ثقة غلبية الرأي العام المتجاوز للغالبية النيابية.
العلامة الثانية : التنفيذ العامل على علم
ما دمنا لم نصل بعد إلى تداول الأغلبيات على الحكم والأقليات على المعارضة وما دمنا ما نزال بحاجة إلى الحكم التوافقي الذي يقل فيه دور المعارضة فإن ذلك قد يفسد شرط الديموقراطية الأساسي أعني وجود القوة الناقدة والمراقبة التي يمثلها منطق المعارضة ما قد يعيدنا إلى سياسة الوحدة الوطنية المخادعة التي تعني في الحقيقة سياسة الحزب الواحد حتى وإن كان ذلك تحت مسمى التوافق بين الأحزاب لأن الحزب الواحد عندئذ يصبح الجماعة التي جلست على كرسي الحكم وتقاسمت السلطان مع تهميش الأقليات والمعارضات التي لم تحصل على ما يجعلها مؤثرة في مجريات الأمور.
لذلك فرايي أن الحاجة إلى مجالس تعديلية من جنس ما سبق أن اقترحته على رئيس أول حكومتي الترويكا أعني تكوين مجلس استشاري سياسي لرؤساء الحكومات والجمهورية السابقين ومجلس استشاري معرفي وقيمي مؤلف من النخب الثقافية والفكرية والتقنية يكون من جنس مراكز التفكير والتخطيط الاستراتيجي في البلاد المتقدمة (الولايات المتحدة) يستأنس الحكم التوافقي بآرائها وبتصوراتها دون أن يكون ذلك ملزما لكن له ثقلا معنويا يساعد في التخفيف من الراي الواحد لحكومة التوافق الخاضعة للإكراهات السياسية وغير القادرة على التحرر من الحسابات الانتخابية والمصلحية.
العلامة الثالثة : دور المجتمع المدني : المصلحي والقيمي
ليس من شك في أن للمجتمع المدني الدور الأساسي في الحد من تغول المجتمع السياسي بمعنيين : فهو مساعد يخفف على الدولة عبء التمويل في الكثير من المجالات وهو مانع يدافع عن مصالح المواطن ضد تغول الدولة. فتغول الحكم السياسي على معركتي القيم والمصالح والحد المميت لحريتهما يحول دون شرط كل حركية حضارية مبدعة. ودور المجتمع المدني يتمثل في رفض إما سلبا بالتصدي له أو إيحابا بتعويض الدولة في مجالات تحريرها من إشراف الدولة عليها يحد من تغولها عليه. فالمساعدة تحد من سلطان الحكم لأنها تجعلها من مجالات اختصاص المجتمع المدني فتحد من تدخل الحكم بفرض سلطانه مثل تشجيع الإبداع والبحث العلمي بفضل الأوقاف. فالأوقات مساعدة للدولة ومانعة من تدخلها. والمنع المباشر يكون بالدفاع عن مصالح الفئات والطبقات وهو دور الوجه النقابي بخلاف دور الوجه الوقفي والديني.
لكن هذا البعد هو الذي قد يتسيس فيتحول إلى اقطاعيات ذات سلوك إرهابي رمزيا وحتى ماديا خاصة إذا اختلط بسلطان الأوهام اليساروية التي سبق فوصفت لأن فرض القيم وتعطيل العمل إرهاب أخطر حتى مما يسمى إرهابا لأنه يعوق الصالح العام بالعنف الرمزي أو المادي فيمنع الإصلاح الذي قد يتعارض مع مصالح الاقطاعيات.
وهذا يصح على نوعي العمل النقابي عند العمال والموظفين أو عند الأعراف ورجال الأعمال : ذلك أن الحقوق التي لا تقابلها واجبات الاستثمار الذي لا يقابله سداد ينخر مالية الدولة فلا يكون في الحقيقة إلا حلبا لإمكانات المجموعة بدلا من أن يكون مشاركة في تنميتها. وهو إذن لا يمكن أن يعتبر مساهمة في بناء اقتصاد منتج ومبدع وقابل لسد الحاجات : فالمؤسسات الاقتصادية -والدولة هي بدورها من هذا المنظور مجموعة من المؤسسات التي لا بد لها من اعتبار البعد الاقتصادي لوظائفها-لا تكون منتجة إلا ما كانت مبدعة بمعيار ما يقتضيه التنافس الدولي وما يقتضي مسؤوليات كبرى لرجال الأعمال وأخلاق جديدة للعمل النقابي.
وإذا لم تتغير هذه الأخلاق بصورة تناسب الوضع الحالي للسوق العالمية ولشروط التنافس فإن الدولة تصبح رهينة مصالح إقطاعية وتعجز عن أداء وظائفها الإصلاحية والتكيفية مع الظرف الدولي فتفقد شروط الحرية وتصبح تابعة للمساعدة الدولية. وقد يصبح ذلك من أهم أسباب التجمد ومنع الإصلاح والتطوير اللذين يقتضيهما العدل في الداخل والفاعلية التنافسية في الخارج. ويتبين ذلك خاصة في مجال التعليم والبحث العلمي وفي مجال إصلاح المؤسسات الاقتصادية أو في مجال النزعة الحمائية التي تلغي الحرص على الجودة والانتاجية فتقتل جهاز الإنتاج.
لذلك فلا بد من وضع دور المجتمع المدني بهذا المعنى خاصة على محك البحث والاستشارة الوطنية للحد من تدخله في وظائف الدولة التي هي التوفيق بين المصالح والقيم للحد من تكون الإقطاعيات التي تفسد وظائف الدولة حماية ورعاية. وأتكلم في هذا الأمر استنادا إلى تجربة التغول المرضي للبعد النقابي في التعليم الذي بات شبه كسيح وغير قابل للإصلاح بسبب تغول البعد النقابي : وما لم يقع الحد من هذا التغول فلن تستطيع الجمهورية الثانية القيام بالإصلاحات الهيكلية لجل أدوات الإنتاج وأهمها الإدارة والشركات الوطنية وسياسية البنية الأساسية المادية (المواصلات والاتصالات) والرمزية (البحث العلمي والتربية والثقافة) : فهذه جميعا أفلست لعدة أسباب وأهمها الثقافة النقابية المتخلفة التي تعاني منها تونس والتي ورثناها عن فرنسا (قارن مثلا مع الثقافة النقابية في ألمانيا).
تلك هي الشروط الأساسية لعلاج الداء بدل الاكتفاء بمهدئات الأعراض (الإرهاب الذي ما كان ليوجد لولا المرض والاستثمار الذي ما كان ليعدم لولا المرض) وكان ينبغي أن أضيف شروطا تتعلق بالسلطة القضائية وبالسلطة الإعلامية. ولما كان المجال لا يسمح بأكثر من هذا الحجم وكانت الإصلاحات فيهما من توابع الإصلاحات في ما تقدم فإني سأتكفي بملاحظتين.
العلامة الرابعة : إصلاح السلطة القضائية
فإصلاح دور السلطة القضائية كما هو معلوم رهن طبيعة علاقتها بأداتيها المستمدتين أولاهما من السلطة التشريعية وثانيتهما من السلطة التنفيذية : فمن الأولى تستمد السلطة التشريعية أوداتها النصية (القوانين) التي تحكم في ضوئها ومن الثانية تستمد أدواتها التنفيذية (الشرطة). فإذا أصلحنا الأولى (القوانين) والثانية (الشرطة) لم يبق إلا شرطان :
أولهما يخص تحرير السلطة القضائية من تدخل السلطة التنفيذية حتى يكون دورها نزيها وموضوعيا : فتدخل التنفيذي المباشرفي القضائي يجعله خاضعا لأومره فيفقد استقلاله الفعلي فقدانا تاما.
والثاني يخص تحرير السلطة القضائية من تدخل السلطة التشريعية-وهو في الحقيقة تدخل تنفيذي غير مباشر- حتى يكون دورها دستوريا فلا تغير القوانين بحسب الأغلبيات فيفقد استقلاله المعنوي الحقيقي.
والتدخل الثاني لا يقل خطورة عن التدخل الثاني لأنه يتخفى بشرعية ظاهرية يضفيها التشريعي على إرادة التنفيذي ويصبح القانون معبرا عن ميزان قوى وليس على القيم الخلقية للجماعة. لذلك فإنه لا بد من سلطة قضائية فوق السلطة التشريعية مرجعها الدستور والقضاء في دستورية القوانين حتى لا تصبح الأغلبيات المتوالية سيدة التشريع بإطلاق. ولا شك أنه توجد سلطة مرجعية أسمى حتى من السلطة الدستورية هي أخلاق الجماعة لكن هذه الأخلاق تتدخل في الانتخابات من خلال عملية تعيين من تعتبره الجماعة معبرا عن إرادتها في ضوء قيمها ومصالحها رغم أن هذه العملية أصبحت بالتدريج تقدم المصالح على القيم بتوسط المال عامة والفاسد منه خاصة.
العلامة الخامسة : إصلاح السلطة الإعلامية
وهذه العلامة هي التي تعيد كل العلامات السابقة في مستوى السلطان الرمزي المناسب لأخلاق الثورة التي يريد شعبها تجاوز الخلافات العقيمة ليحقق شروط الاختلاف والتنوعي الثري وهي رهن أمرين:
- الأول هو حيوية المجتمع المدني التي ذكرنا ومن ثم فإصلاحها تابع لإصلاحه وقد اطلنا فيه الكلام قبل قليل.
- والثاني وهو الأهم دور جهازي الاستعلام والإعلام الذي يمثل إرادة الجماعة أعني الاستعلام والإعلام بصنفيه.
فالاستعلام والسياسي التابع لوظائف الحماية والمتبوع منها كذلك هو عين الدولة التي ترى بها الشؤون العامة ومواقف المواطنين منها والتي بفضلها يمكن أن تدير وظائف الحماية الأربع أي القضاء والأمن داخليا والدبلوماسية والدفاع خارجيا لتكون قادرة على حماية الأمة.
والاستعلام والإعلام الذي يمثل عقل الجماعة أعني الاستعلام والإعلام المعرفي التابع لوظائف الرعاية والمتبوع منها كذلك لأنه عقلها الذي تعالج به مشاكلها مع الطبيعة لسد الحاجات ومع الجتمع لتنظم التعايش بين المواطنين.
وكل جماعة ليس لها نظام استعلام واعلام سياسي يمكن من الحكم الرشيد ليس أمة راشدة. وكل أمة ليس لها نظام استعلام وإعلام معرفي يمكن بالعلم والتقنية من سد الحاجات وتحقيق التعايش تكون تابعة وفاقدة لشروط التشريع الذاتي لأنها تابعة :
في شروط الحماية : لا تستطيع حماية نفسها بأدوات الحماية المناسبة للعصر فتصبح محمية.
وفي شروط الرعاية : لا تستطيع سد حاجياتها بأدوات سدها المناسبة للعصر فتصبح سائلة تنتظر المعونات ككل العاجزين والعيال.
خاتمة ضرورية
لا بد من ختم هذه المحاولة بما يجعل القارئ ينظر إلى ما أقوله بتجريد حكمه له أو عليه من كل وصل بين ما قد ينسب إلى دوافع ذاتية لعله يعتبرها من جنس المنافع الشخصية : فالمتكلم هنا هو الشخص الذي اعتزل السياسة المباشرة نهائيا للتفرغ لعمله الفكري ومنه التفكير في المسألة السياسية لأنه فهم -تأسيا بابن خلدون-أنه أفيد للأمة بمحاولة الإسهام فيه أكثر من المشاركة المباشرة فيها ولأنه حتى ماديا فضلا عن السن يجد في العمل الفكري ما يغنيه عن الطمع في الجاه والربح المادي المحرك للكثير.
لذلك فالمحرك الوحيد لما أكتبه معرفي مع التزام عملي بالمشاركة في التقدم القيمي للأمة. ويمكن بتواضع اعتباره محاولة تواصل جهد ابن خلدون لفهم العلاقة بين الخلقي والقانوني في السياسة بمعاييير التوليف بين القانون الطبيعي (علاقات القوة في الجماعة وبين الجماعات) والقانون الخلقي (علاقات الشرعية في الجماعة وبين الجماعات) من أجل تكوين الإنسان تكوينا يخلصه من طغيان الحيوان على الإنسان فيه وكلاهما مقوم ذاتي لكيانه.
وليس في هذا الخطاب كلام على المستقبل يمكن اعتباره من باب النصائح الموجهة إلى من أعطاهم الشعب حق التعبير عن إرادته لتحقيق مطالبه سواء في الحكم أو في المعارضة : فهم أدرى مني بما عليهم فعله وأنا لست غافلا عن أن النصح في هذا المجال ليس بذي جدوى. إنما كلامي يهدف إلى ما أراه بوصفي أحد المواطنين الذين خبروا الشأن العام وتاريخ الصراعات في بلادهم وأرادوا أن يبدوا رأيهم بتجرد دون الطمع في أن يكون لكلامهم أكثر مما يمكن أن يقنع من له إرادة الفهم والاقتناع.
أبو يعرب المرزوقي