ه
ما تأكد منه الشباب التونسي بجنسيه بعد نصف المدة التي تلت الثورة بدأ به الشباب الجزائري بجنسيه من اليوم الأول من ثورته الحالية: ذهبوا مباشرة إلى شروط مطالب الثورة غير المباشرة بدلا من الاكتفاء بمطالبها المباشرة وكأنها يسيرة التحقيق إذا لم يقع التصدي لما يحول دون تحقيقها من تبعية للمستعمر ومن استبداد وفساد لعملائه: وكل هذه الشروط تتعلق بعدم اكتمال التحرير.
في تونس صار الشباب بجنسيه يطالب باسترداد مصادر ثروة تونس التي ما تزال منهوبة من قبل نفس المستعمر. وقد أدركوا أن هذه الثروات ينهبها المستعمر بشكل غير مباشر عن طريق عملائه الذين هو نوابه في إدارة البلاد وأخذ حصتهم من النهب وكل ذلك على حساب افقار البقية وخاصة بقية البلاد التي تعتبر “أنديجان” تفرض عليهم ثقافة المستعمر.
أدرك الشباب بجنسيه -كما هو بين من شعارات رفعت مؤخرا في تونس لكنها بدأت مباشرة مع الحركة الحالية في الجزائر-أن بلادنا لن تتحرر -مطلب الثورة المباشر- من دون استكمال التحرير الذي لم يخلص موردي حياة الجماعة الاقتصادي والثقافي علة التبعية المادية والروحية التي يراد جعلها حالة دائمة.
ومعنى ذلك أن ما فشل فيه الاستعمار المباشر طيلة قرنين يراد تحقيقه باسم دولة الاستقلال المغشوش الذي جعل التبعية المادية (الاقتصاد) والروحية (الثقافة) أداتية لتحقيقها بصورة مخادعة تحت اسم التحديث القشري للاستلاب الثقافي الذي تأكد من خلال فرنسة التعليم والإدارة وتسلط النخب المستلبة.
والنتيجة التي وصلت إليها قناعة الشعوب ممثلة بشبابها هي أن التحرير لم يحقق هدفه وأن حرب التحرر صارت جامعة بين التحرير من المستعمر وأذياله والتحرر مما يحول دون حرية المواطن وكرامته. وهو ما يعني أن ما يجري حاليا هو فشل الثورة المضادة والتخويف بتبعات الثورة: فهي تجذرت وتعمقت.
وهذا التجذر والتعمق يمثله رمز لا يشك أحد في قدرته على ذلك. فشعب الجزائر الذي خاض أكبر حرب تحرير عالمية الأبعاد أعاد إلى الأمة روح العزة وحب الأمجاد في العصر الحديث. ومثلما كان احتلال الجزائر بداية الاستعمار الغربي لقلب دار الإسلام ها نحن نرى تحريرها يصبح بداية الاستئناف للحسم الجامع بين التحرير والتحرر بمنطق جديد: هو حقيقة الثورة الحالية.
وهذا المنطق الجديد هو ما يعنيني أن أسهم في جعل الشباب مدركا لأبعاده وواعيا بأهميته في الثورة الجامعة بين التحرر والتحرير والتي آلت إليه قيادتها: كان الكثير يعتقد أن حرب التحرير كانت ستقضي على الاستعمار فيستعيد الشعب سيادته. لكنها في الحقيقة لم تقض عليه بل آلت إلى بديل من شكله الظاهر بحضوره بذاته على أرضنا إلى شكله الباطن بحضوره في أذهان من ولاهم علينا فأصبح المشكل أعمق: استعمار ذهني وروحي.
تحرير الأرض-موضوع حرب التحرير-تكلف غاليا دون شك. لكن تحرير الروح أعسر منه وقد يكلف أكثر. فالأول تطلب ما يشبه الحرب الاهلية مع قلة من العلماء-اسمهم في الجزائر هو الحركيون-كانوا بنحو ما يستحون من هذه العمالة بسبب عامل ثقافي: المحتل يراه الشعب “كافرا غازيا” والعمالة العلنية عسيرة. لكن العمالة للاستعمار غير المباشر-في غياب وجود المحتل الغازي على الأرض-يجعل صاحبها يفاخر بها تحت مسميين مخادعين:
- التحديث.
- التعاون.
وكلاهما يغطيان على مواصلة النهب الدائم ماديا لثروات البلاد ربما بنسق أسرع مما كان والتحويل الدائم روحيا بنفس النسق من عملاء يديرون البلاد باسمه. وهذه الحرب بدأت كذلك في الجزائر منذ ثمانينات القرن الماضي وهي بهذا المعنى البداية الفعلية للربيع ولكن بصورة كاملة لأنـها ذهبت مباشرة إلى الجمع بين المعركتين:
• معركة التحرر.
• ومعركة التحرير.
واليوم لما نرى الشباب يردد نشيد ثورة التحرير بمرجعية بيان أول نوفمبر نفهم أعماق ما يجري فعلا. وقد كلفت الجزائر الكثير ما جعله بنحو ما تقضي عشرين سنة تحت الخوف من الكلفة وهو يحدد طبيعة الاستئناف الحالية: فهي أولا دليل على أن الوضع لم يعد يحتمل السكوت لأن ما أمل فيه الكثير من المصالحة لم يتحقق منه شيء عدى فرض الستاتكيو الذي فرضه عملاء فرنسا ولم يكن بوتفليقة إلا للتغطية.
وكان في البداية ذا سلطان رمزي مكنه من تحقيق هذا الصلح الظاهر الذي ظنه الكثير ربما مرحلة ضرورة لاندمال الجروح. لكن بمجرد تآكل هذه السلطة الرمزية وخاصة منذ أن اقعده المرض أصبح مجرد غطاء لأعمال المافيا التي حكمت الجزائر باسم الحركيين وفرنسا ما يعني أن العشب يعلم من عدوه الآن.
فالمشكل ليس مع بوتفليقة بل مع من يستعملونه والشعب يعرفهم لأنهم هم من أداروا الجزائر منذ أن سمموا بومدين إلى اليوم. وما كانت العمالة تستحي منه لم يعد موجودا وأصبح رمزها بن غبريط التي تريد تؤدلج المدرسة لفرض الثقافة الفرنسية ومحاربة ثقافة الشعب وليس للنهوض بالجزائر علميا وروحيا.
هدف العملاء حاليا للخروج من مأزقهم بعد أن تعرت فضائحهم هو نقل معركة التحرر ومعركة التحرير إلى معركتين صرنا نعرفها في تونس ربما قبل غيرنا لكنهما هما المعركتان اللتان صارتا فعليتين في سوريا خاصة أعني: - صدام حضاري داخلي بين ثقافتين اسلامية أصيلة واستعمارية دخيلة صارت ثقافة عملائه الذي نصبهم ليكونوا أدوات سياسته الاستعمارية.
- حرب أهلية باردة أو حارة ذات صيغ مختلفة بحسب ما وظفه الاستعمار في سياسة فرق تسد في اقطار الإقليم.
ففي تونس مثلا الحرب الأهلية كانت باردة وهي بنحو ما مناطقية بين الذين كانوا يحكمون وهم من الحضر والساحل وبقية البلاد من المناطق المحرومة من كل حقوقها مع توظيف ورقة الإرهاب الذي هو أداة المهربين والمافيات الأساسية ومعهم المافية السياسية التي كانت تحكم. وفي سوريا طائفية وعرقية وقد تكون عرقية وطائفية في الجزائر لا قدر الله.
ولهذه العلة فإدارة المعركتين-معركة التحرر الذي هو المدخل للتحرير بعكس ما كان يتوهم جيله-ستكون شديد العسر ولعلها أعسر من معركة التحرير لأن العدو لم يعد قائما في وجود ظاهر هو حضور جنوده واحتلاله للأرض بل صار محتلا لأرواح عملائه المسيطرين: مصالحهم معه أكثر مما هي مع الشعب ومستقبله.
وما يسمى دولة وطنية السطحي منها والعميق ليس له من مسمى الدولة أولا ومن صفة الوطنية ثانيا إلا الخداع لأن ما يحكم ومن بيده أجهزة القوة والمال والاعلام في البلاد هم عملاء المستعمر وهم من يناور حاليا لفرض نفس الامر الواقع الفعلي رغم محاولات تزيين الأمر بظاهر القبول بإرادة الشارع.
ولهذه العلة أشرت في مقال سابق إلى الأفخاخ التي يمكن أن تستعمل لمنع الثورة الجزائرية من النجاح. واعتقد ان قيادات الشارع واحزاب المعارضة كلهم على وعي كامل بهذه الأفخاخ ولن يقعوا فيها كما أنهم رأوا التجارب المختلفة التي حصلت في مصر وسوريا وليبيا وتونس خاصة وسيتدبرون دروسها حتما.
لكن ما هو ثابت عندي ولم أعد أشك فيه أدنى شك هو أن ما يجري في الجزائر حاليا سيكون حاسما. وأن كل ثورة في بلاد العرب إذا لم تتلاحم معه فهي ستكون قد خانت الأمانة طمعا في الحكم: فما أفشله زعماء حرب التحرير الذين فصلوا بلاد المغرب لا ينبغي أن يتكرر في حرب التحرر وإلا فهم بورقيبيون.
ومعنى ذلك إذا فضلت حركة النهضة مثلا في تونس أن تبقى خارج المعركة طمعا في مشاركة وهمية في حكم شكلي لا يمثل سيادة الشعب بل يكتفي بمنع وحدة المغرب العربي الامازيغي ليكون قوة قادرة على الندية مع الضفة الشمالية للأبيض المتوسط التي لها ميل حالي لاستعادة مرحلة الاستعمار حتى المباشر.
وأخيرا فقد حانت فرصة توحيد الثورة وعدم تركها كما هي حاليا قطرية. فالثورة المضادة ليست قطرية. وهي ليست حتى اقليمية فحسب بل هي دولية. ولذلك فلا بد من عدم ترك ثورة الجزائر معزولة بل لابد من الجمع بينها وبين ثورة تونس وليبيا على الأقل لأن هزيمة أي منها هزيمة لها جميعا: إنه الحل الوحيد.
لكنك تجد من يشكك في كونها نابعة من حيوية الأمة الذاتية فيزعمون أنها بتحريك من أعدائها. والغريب أن اصحاب هذه الكذبة ممن يزعمون أنها ربيع عبري هم دمى الدولة العبرية بمعنى ن حلفاء إسرائيل وإيران هم الذين يتهمون الأمة بالعقم ويعتبرون حركة التحرر ومثلها حركة التحرير بأثر من أعداء الأمة وليست حركة ذاتية لأمة تريد أن تستأنف دورها.
فيكون كل قادة حرب التحرير بدءا من الأمر عبد القادر إلى المختار إلى كل أمثالهم من قيادات حركة التحرير هم أيضا عملاء والصالحون هم الحركيون وخلفهم من الدمى الذين مكنهم الاستعمار هم المخلصون. ومعنى ذلك أن حمقى الإمارات والسعودية وحمقى جيش مصر والاسد وحفتر وجنرالات الجزائر وكل الكلاب الذين من هذا الجنس هم الوطنيون.
أما الشباب بجنسيه من المطالبين باسترداد الذات والدور واستعادة أمجاد الأمة فهم المغرر بهم وذلك لأنهم فهموا سر اللعبة : فهموا أن سر الضعف والهوان هو تفتيت الجغرافيا لمنع التنمية المادية وتشتيت التاريخ لمنع التنمية الروحية والحرب على الإسلام لإزالة المناعة ومن ثم فهم يستكملون ثورة التحرير بثورة التحرر بعد أن أدركوا الخدعة التي سميت استقلالا لتكون توطيدا للاستعمارين المادي والروحي بأيدي عملاء الاستعمار ودمى ذراعيه في الإقليم : إيران وإسرائيل.