الثورة، لماذا تغير موقف نخب الحداثة منها؟ – الفصل الرابع

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله الثورة لماذا تغير موقف نخب الحداثة منها؟

بقيت مسألتان: 1. نخب السلاح العنيف وهم حكام العرب وأمراء الحرب. كلاهما مخترق وموظف في حرب بقصد أو بغير قصد على مشروع الاستئناف. 2. نخب السلاح اللطيف وهما الكاريكاتوران باسم التحديث وباسم التأصيل. وينطبق عليهما نفس التوصيف خدمة الأعداء والحرب على الاستئناف. سأخصص الفصل الرابع للأولين والخامس للأخيرين لأبين علل تعثر الثورة وفي نفس الوقت جدية المعركة وصلابة الثورة التي انتصرت نهائيا في مستوى القلوب لدى الشعوب وعلينا أن نستكمل انتصارها في مستوى العقول شرطين للانتصار في بعدي كل استراتيجية: التربية والحكم الهادفين لتحقيق شروط السيادة. فصلت بين أصحاب السلاح العنيف وأصحاب السلاح اللطيف فصلا منهجيا لكن النوعين متلازمان ولا يمكن الفصل بين مفعول عملهما لما بينهما من تفاعل يبدوا أحيانا وفي الظاهر متقابلين ولكن حتى في هذه الحالة فلتقابلهما تشارك في الفاعلية المؤدية إلى تحقيق استراتيجية تتجاوزهما. لكن ليس من الأمانة ولا من العدل أن يتهموا كلهم دون تمييز ولذلك أشرت إلى أن المندرجين في هذه الاستراتيجية التي تهدف إلى ضرب المناعة المادية والحصانة الروحية ليسوا كلهم مندرجين فيها بقصد خدمة هذه الاستراتيجية فبعضهم على حسن نية يتصور أن يعمل صالحا أو يتصور التغيير من الداخل. أن المرء أحيانا يوجد في وضعية يصبح الخيار بين العمل وليس جزئيا في تحقيق شيء واللاعمل بسبب التسليم بالكل أو بلاش. وبهذا المعنى فلا يمكن أن نعتبر كل ما حصل إلى حد الآن منذ الاستقلال في كل بلاد العرب لم يحقق شيئا مفيدا. فهذا فيه الكثير من الظلم فالكثير ممن حكموا وعارضوا ليسوا خونة. وبخلاف ما يظن فأنا اعتبر أن ما حدث من نزعات قطرية ومن تكتلات وحتى من حروب بين الانظمة أولا وبين المعارضات ثانيا وبين الأنظمة والمعارضات أخيرا لم يكن عديم الفائدة حتى وإن عطل التكامل الذي كان يمكن ان يختصر الطريق نحو النهوض. لكن للتاريخ سننا لا بد من اعتبارها. فما حدث يشبه عودة الحياة المتدرجة في أمة طال سباتها ولم يبق فيها إلا القليل من المراكز التي حافظت على شبه حياة فكرية وثقافية وعمل منتج والبقية خلاء في خلاء بل ونكوص إلى البداوة في كل مجالات الحياة التي من دونها لمعنى للكلام على الاستئناف. فكان التعدد استعادة التنافس بين الأقطار. أذكر من شبابي وخاصة من طفولتي أن فكر الغرب نفسه كنا نقرأ عنه من بعض مجلات مصر وكانت بلاد العرب وخاصة الخليج والمغرب شبه توابع للهلال ولمصر ولم يكن فيهما حياة فكرية ولا تنموية حقيقية بحيث إن التبعية كانت مضاعفة للغرب وللوسطاء بيننا وبينه مما استيقظ قبلنا من المشرق. ولعل من آثار ذلك مثال شديد الدلالة: فمن يتكلم الفرنسية نسميه في تونس يتكلم بالسوري نسبة إلى سوريا لأن المترجمين الأول للحكام في تونس كانوا من الشام. ولا ننسى دور اخوتنا من لبنان في إحياء العربية الحديثة وفي الشروع في الترجمة والطباعة والنشر والصحافة. كل ذلك لم يعد ضروريا. إنما هو أصبح اختياريا بمعنى أنه أصبح تواصل بين أنداد ولا يعني أدنى تبعية. وهذا من ثمرات التنافس المفيد الذي حقق بعث الحياة الفكرية والتنموية ونشر التعليم الحديث والصحة وكل شروط الحياة الحديثة رغم بطء ظهور الثمرات لأن تغيير العادات والتقاليد يخضع لمنطق التاريخ المديد. وإذا عبرت أحيانا عن بعض الغضب من تأخر التكامل بين العرب فلا يعني ذلك أن أنكر ما أنتجه التعدد من ثمرات ستكون حجر الأساس للتكامل الندي بين العرب لئلا يشعر أحد بأنه دون الثاني فلا يكون التكامل مبنيا على العاطفة والماضي فحسب بل وكذلك على ندية حديثة فيها ديموقراطية التعدد والاحترام. ولعل أكبر فضل أنسبه إلى هذه الحقبة أنها أنهت خرافة الوحدة الاندماجية. والمعلوم أني أكره هذه الكلمة ولا أومن بالاندماج حتى بين مناطق تونس فالتعدد هو شرط التكامل وهو شرط ثرائه ومن ثم فالتكامل ينبغي أن يستند إلى دلالته الحقيقية: تكامل المتنوع لا وحدة التنميط الثقافي والتجربة. ففكرة مصر هي الأساس والبقية أطراف وفكرة المجال الحيوي التي بنيت عليها سخافة ثالوث حسنين هيكل في كتاب الثورة فكرة استعمارية ولا علاقة لها بوحدة أمة متعددة بالجوهر ودينها يعتبر التعدد والتنوع من آيات الله في الكون. وهذه الفكرة لو تحققت لقتلت العربية ولم تبق إلا المصرية. ذلك أن ما كان للقاهرة من سلطان على الفنون -وهي كلها منحطة والعلوم وهي كلها متخلفة-كان يمكن أن يؤدي إلى هذه النتيجة فلا توجد مراكز متعددة بعدة الدول العربية -رغم تبعيتها لحماة الانظمة من الاستعماريين-تتنافس على الاحياء وعلى البناء وخاصة على حفظ العربية ولو نسبيا. ففي هذه الفترة لم يكن أحد يجرأ على الرموز الخمسة لوحدة الأمة الأشمل (الاسلامية) والأضيق (العربية) أعين اللسان والإسلام والتاريخ المشترك والكلام على وحدة المصير والتفكير في التطبيع مع الغزاة والصراع الطائفي والصراع العرقي على الاقل في العلن. ومهما قيل عن الخيانات في حرب فلسطين فإنه لم يوجد نظام عربي واحد مما كان منها موجودا حينها استطاع ألا يشارك بقدر ما يستطيع أو ما يسمح له به حتى لا يفقد ثقة شعبه بمعنى أن للشعوب شيء من السلطة على الحكام بخلاف ما عليه الأمر ألان. وقد شاركت كل الشعوب من الماء إلى الماء في الجهاد. لم يكن أحد يجرأ فيتهم المتطوع للدفاع عن القضية بالإرهاب. ولو كانت فكر النخب حينها مثله الآن لاعتبر أجدادنا الذين قاموا بحروب التحرير وخاصة قياداتهم -مثل المختار والأمير بعد القادر-إرهابيين ليس من النخب وحدهم بل ومن أنظمة تدعي أنها عربية وإسلامية وتزايد على غيرها فيهما. بدأت الفصل الرابع بهذا الاستطراد حتى لا يظن أني أخون الآخرين أن أنفي فضل المراحل السابقة من تاريخنا الحديث. فلست ادعي التفرد بالوعي بشروط الاستئناف كل ما أزعمه هو هذه الشروط لم تصبح مادة لنسق نظري يمكن الشباب من الانطلاق منها في عمل على علم وذي استراتيجية مثمرة. فرغم كل ما عليه الوضع من ترد يمكن القول إن نهاية هذه المرحلة قد أزفت وأن ثمرتها موجبة في الجملة لأنها حققت نتيجتين كبريين: أولاهما هي التخلص من وحدة المركز فصارت المراكز بعدة العواصم العربية والثانية وهي مرحلة في التكامل رغم التعثر تحدد خمسة تجمعات على أساس مضاعف. والأساس المضاعف هو الوحدة الاقليمية أو الجغرافية والوحدة التاريخية الحديثة لأن الوحدة الأشمل جغرافيا وتاريخيا هي بعمر التاريخ الإسلامي. فالوحدة الجغرافية والتاريخية الحديثة هي تقريبا وحدة الاستعمار الفرنسي والإنجليزي لبلاد العرب (وبنحو ما الإيطالي والاسباني). وهذه التكتلات الإقليمية الخمسة هي: 1. الهلال أي العراق والشام (انجلترا وفرنسا) 2. والخليج (انجلترا) 3. والقرنان (قرن افريقيا والجزيرة: إيطاليا وانجلترا) 4. والنيل (مصر والسودان انجلترا) 5. والمغرب (فرنسا وإيطاليا واسبانيا). ورغم أن العامل الاستعماري محدد فإن ذلك خطوة مهمة. صحيح أن هذه التكتلات الاقليمية فاترة المفعول وغلب عليها الحربان الأهليتان اللتان نتجتا عما يمكن أن نسميه بالاصطفاف مع القطبين في النصف الثاني من القرن الماضي ومع الذراعين والقطبين منذ سقوط السوفيات وشروع الأنظمة العربية في الحرب الاهلية في كل قطر طائفيا واثنيا. وهذا هو ما أعنيه بأصحاب السلاح العنيف: فما يسمى اليوم بأمراء الحرب الذين بيدهم الحكم وأمراء الحرب الذين بيدهم المعارضة هما علة الحرب الأهلية في كل قطر. ودون أن أنزه الاستعمار الامريكي وعودة الروس وذراعيهما فإن للظاهرة عللا ذاتية في خيارات سياسية سابقة عن هذا الدور المضاعف. العلل: 1. فكريا كاريكاتور التأصيل وكاريكاتور التحديث ذاتيا 2. التبعية لماضيين غير مفهومين إسلامي وغربي 3. إشكالية التزامن بين الأحياء والتجديد موضوعيا وهي ظاهرة كونية 4. التقاطب العالمي منذ الحرب العالمية الأولى وخاصة بعد الثانية 5. والدور المدمر للاختراق السياسي والثقافي وهذه العلل الخمسة هي التي يشترك فيها أمراء الحرب الحاكمين وأمراء الحرب المعارضين: فإذا صح وصف هؤلاء بالإرهاب فإن هذا الوصف أصح عند وصف أولئك به. ما يجري ليس إرهاب الجماعات الجهادية المعارضة بل خاصة إرهاب الجماعات الحاكمة: إرهاب الدولة بأجهزة الحكم. والإرهابان مسيران عن بعد بمسافتين مختلفتين بالذراعين أولا وهم عن قرب ولكن بأيد عربية حتى وإن تدخلوا بأنفسهم أحيانا كما لقيادة مليشيات عربية ثم بجيوش القوتين وما يتبعهم من مستعمراتهم الغربية وبقاياهم في العالم (مثل استراليا وكندا). ولهذه العلة فحربنا الاهلية كونية. وأستطيع أن أقول إنها الحرب العالمية الاولى لشمولها كل الشعوب بخلاف الحربين الكبريين اللتين كانت بين الأوروبيين والغربيين وكان العالم فيها ساحة حرب رغم الاستثناء المتعلق بتدخل اليابان طمعا في الثانية والخلافة خوفا في الأولى. أما الحرب الحالية فهي كونية لمنع دور الإسلام الكوني. ولأوضح: كان الرهان في الحربين الكبريين داخليا للحضارة الغربية ولم يكن رهانا بين حضارتين. كان بين خيارين من نفس الحضارة الاولى حول تقاسم العالم والثانية حول ما نتج عن إهانة ألمانيا وحرمانها في الأولى من أن يكون لها سهم في قسمة العالم: حربان غربيتان على تقاسم العالم. لكن الحرب الحالية حرب عالمية وكونية رهانا وساحة حتى وإن تبدو الساحة منحصرة في الاقليم الذي هو إقليم هويته التاريخية إسلامية لكن هويته الاثنية الفاعلة في العلاقة مع الغرب عربية أولا وتركية أخيرا وبينهما الكردية والأمازيغية. ومن ثم فهو يريدونها حربا بين هؤلاء مع الطائفية. والرهان هذه المرة ليس ذاتيا للحضارة الغربية ولا هو بينها وبين حضارة الشرق الأقصى رغم أن هذه مستهدفة لأن حيازة دار الإسلام هي لمنع هذه الحضارة الشرقية من أن تكون صاحبة السيادة على العالم بعد أن استردت قوتها وصارت منافسا كبيرا للغرب وبالذات للغرب الاقصى. فالغرب الأقصى (امريكا) والشرق الاقصى (الصين) هما اللاعبان الأساسيان في تحديد نظام العالم الجديد وكلاهما لا يريد بروز قطب ثالث حائز على كل شروط القطبية وفاصل بينهما في المعمورة وكل منهما يسعى للسيطرة على لما فيه ولما يحوزه من المعمورة وليفاعه البايولوجي ودوره التاريخي. وختاما فصراع الكاريكاتورين من أصحاب السلاح العنيف هم الغافلون عن هذا الرهان الكوني واصحاب السلاح اللطيف أكثر غفلة منهم عنه. فمن كان يفكر في شروط الاستئناف حقا ينبغي أن ينظر إلى الرهان الكوني الذي هو بصدد الإنتاج لتحديد نظام العالم الجديد لفهم دورنا السلبي الحالي. فنحن-المسلمين والعرب-الموضوع المنفعل في هذه المعركة الكونية والتي أولى الحروب العالمية بحق رهانا وليس مجرد ساحة للحرب. الحربان الأوليان كانتا عالميتين من حيث الساحة وليس من حيث الرهان. الحرب الحالية هي من حيث الرهان: مستقبل الإنسانية وسلطان دين العجل عليه. ما لا تراه الابصار تراه البصائر. الصراع الحالي ليست روسيا وإيران وإسرائيل فيه إلا أدوات العملاقين الوحيدين الحاليين قطب الشرق الأقصى (الصين) وقطب الغرب الاقصى (أمريكا) ولن يسيطر على العالم أي منهما من دون الحسم في دار الإسلام لصالحه. فبقية العالم خضعت لدين العجل. والخطأ الوجودي الذي قد يتهدد الامة ليس ما تعاني منه حاليا بل ما يراد لها وما لو قبلته لعوملت كما تعامل اليابان وأوروبا اي لأصبحت نهائيا خاضعة للنموذج الأمريكي وتحت مظلته وربما يسمح لها بأن تزدهر ماديا مثل اليابان وألمانيا بشرط أن تتخلى عما يعارض دين العجل: القرآن الكريم.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي