الثورة، لماذا تغير موقف نخب الحداثة منها؟ – الفصل الثالث

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله الثورة لماذا تغير موقف نخب الحداثة منها؟

حصيلة التحليل بعد هذا الاستطراد الطويل الذي يضم اصحاب الفتنة الكبرى إلى أصحاب الفتنة الصغرى حتى يكتمل المشهد تمكن من الشروع في فهم العلل العميقة لانقلاب النخب التي تدعي الحداثة من ادعاء أنها صاحبة الثورة إلى الموقف الذي جعلها قائدة الثورة المضادة في تونس ومصر خاصة بتمويل خليجي. وتبين أن الثورة المضادة مؤلفة من الانظمة العربية بصنفيها القبلي والعسكري -للأول التمويل وللثاني التنكيل-بالشعب الذي ثار من أجل الحرية والكرامة واختيار من يؤمنه على إدارة شؤونه العامة ممن ليسوا منتسبين إلى الكاريكاتورين كاريكاتور التأصيل وكاريكاتور التحديث في الحكم وخارجه. ورغم أن الكاريكاتورين كلاهما يجعل من فهم رديء لماضي ما يدعي تمثيله (التأصيل والتحديث) مستقبلا ويقاتل من اجله بالأنظمة ومليشيات السيف والقلم فإن صمودهما أمام ثورة الشعوب ليس مما يستهان به ليس بما لهما من قوة ذاتية بل بما يسندهما به حماتهما وذراعاهم في الاقليم: إيران وإسرائيل. وبذلك نجد أمامنا رمز الثيوقراطيا (إيران) ورمز الانثروبوقراطيا (إسرائيل) ذراع من يقرب للثيوقراطيا بعد فشل الانثروبوقراطيا لدى سلفه (بوتين عاد إلى الثيوقراطيا الارثودوكسية) وذراع من يقرب من الانثروبوقراطيا بعد فشل الثيوقراطيا عند الآباء المؤسسين لاستعمار أمريكا (الولايات المتحدة). فبعد فشل الانثروبوقراطيا المطلقة في محاولة تطبيق الماركسية عادت روسيا لتحكم بالثيوقراطيا ذات الطابع المافياوي ممثلا ببوتين ثعلب الكا جي بي. وبعد فشل الثيوقراطيا المطلقة في محاولة تطبيق أفكار الآباء المؤسسين لغزو أمريكا باسم الأرض الموعودة الجديدة بدين العجل الذهبي الصريح في أمريكا. وإذن فليس بالصدفة أن كانت روسيا وراء إيران وأن كانت أمريكا وراء اسرائيل: فكلاهما يمثل ما تعين صراحة في اقليمنا بالبنية العميقة التي حللناها في المحاولة السابقة وهي بنية العجل الذهبي سواء تبرقع بدعوى الحكم باسم الله أو بدعوى الحكم باسم الإنسان: الله والإنسان أداة خداع مافياوي. وهذا الخداع المافياوي هو ما لبسه الكاريكاتوران المحرفان لقيم الإسلام الكونية قبل الانحطاط إلى ايديولوجيا التغلب ولقيم الحداثة الكونية قبل الانحطاط إلى الإيديولوجيا الاستعمارية. وسند الروس والأمريكان هدفه الإبقاء عما يحول دون دور الأمة التاريخي: الثورة استقواء بهما وبذراعيهما. وعندما ينظر أي ملاحظ للصراع بين الكاريكاتورين فإنه قد يظن أنه أمام صفين صادقين يعبران بحماسة عن إيمان بقيم تمثل الاصالة عند كاريكاتور التأصيل وقيم تمثل الحداثة عند كاريكاتور التحديث فيتوهم فيهما الصدق ولكن بمجرد أن يقارن الأقوال بالأفعال يجد جل الخونة منهما لما يدعيانه مرجعيته. ففي الانظمة العسكرية قد يفهم المرء النخب التي تدعي العلمانية وفي النخب القبلية قد يفهم المرء النخب التي تدعي الإسلام. لكن ما يلاحظه أي مطلع هو أن نخب مصر وتونس العلمانية والقومية والليبرالية محالفة لأرذل ما يوجد في نظم القبلية وبالنسبة غلى النخب الأصولية للأنظمة العسكرية. ويبلغ الأمر غاية اللامعقول عندما يرى النخب القومية محالفة وخادمة للغزو الإيراني لأرض العرب ويبررون ذلك بمجرد جلد الظهور ودق الصدور والدعاء بالموت لأمريكا والعنتريات ضد القدس فتفهم أن المحرك الحقيقي هو الطائفية والرنان من دنانير الرهبان حتى فكان غزو أرضهم وعواصمهم بمليشيات منهم. ولعل الداء بلغ حدا أخطر لأن بعض الذين كنا نتصورهم ممثلين للثورة أو على الاقل ظنهم الشعب كذلك لما سلمهم السلطة بصورة حرة وديموقراطية بانزلاق متزايد بدأ الكثير منهم يتبرأ من القضية الأم وصار يستسلم للقطرية والتنكر لما يتجاوزها حتى يقبل به طرفا في مشروع يجعل كل بلاد العرب ضفة غربية. لكأن المشاركة الطرطورية في إدارة المحميات نيابة عن سلطان خارجي بين المعالم يعد غنما وهو في الحقيقة تيئيس للشباب الذي ثار والذي بدأ يفهم أن التحرر والكرامة لا يمكن أن يتحققا ما لم يكن معه التحرير والتخلص من التبعية الاقتصادية والثقافية والسياسية التي هي علة كل ما يجري. فبهذا المعنى تصبح الثورة فاقدة لمعناها لأنها ستتحول إلى تأبيد تفتيت الأحياز الجغرافي والتاريخي فتحول دون دور ثورتهما وتواصل تفكيك عرى وحدة الامة بصورة ستجعل كل المحميات العربية تزداد تبعية حتى تعود روما التي بدأت تتكون في الضفة الشمالية من المتوسط فيذهب سدى سعي قرنين من النهوض. وسأذهب إلى اقصى حد في متابعة ما يدور في عقول هذه النخب والتي صارت صاحبة اليد الطولى في بلاد العرب: هل يعتقدون أن هذه السياسة التي يفرضونها يمكن أن تحقق شيئا معتبرا يتجاوز ما تحقق خلال القرن الاخير من التبعية؟ كيف سيحققون مقومات الكرامة والحرية فيبنوا دولا ذات سيادة؟ هل يوحد عاقل يمكن أن يصدق أن دولا مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وحتى اسبانيا وكل واحدة منها بمفردها لها دخل قومي خام يفوق العرب مجتمعين احتاجت لتكوين مجموعة متكاملة لكي تقدر على منافسة الصين وامريكا والهند واليابان وتكون أي من المحميات العربية ذات سيادة تحقق الحماية والرعاية؟ هم في الحقيقة مجرد “ضفاف غربية” من جنس الضفة الغربية الفلسطينية وظيفتها الأساسية حماية مصالح القوى الغربية وذراعيها في الاقليم وهم مستعدون لأن يزيدوا تفتيت هذه المحميات بتشغيل النزعات العرقية والطائفية وتحريك الفتنتين الكبرى والصغرى وذلك في الحكم وفي المعارضات كلها. ولذلك فلا يوجد إلا نوعان من المليشيات والإرهاب الموجه إلى الذات: مليشيات أمراء الحرب العنيفة (بالسلاح) في المعارضات وفي السلط الحاكمة (كلها تحكم بمليشيات بلطجية) ومليشيات أمراء الحرب اللطيفة (بالأقلام) وهذه هي حال الـ «جنجران” أو تحلل الخمج العضوي لكيان الأمة المفتت من أبنائها. ولما كنت واثقا من أنهم مهما بلغ بقاداتهم من الخيانة لا يمكن أن يكونوا أغبياء إلى حد عدم فهم هذه الحقيقة التي تحكم عالم اليوم-لا سيادة للضعفاء والاقزام-فإن ما يجري لا يمكن أن يكون بسبب الجهل أو عدم الوعي بل هو بسبب التبعية التي تنتج عن مقايضة الحرية بوهم السلطة كالضفة الغربية. وقد أذهب إلى أن وضع الضفة الغربية أفضل من وضع كل المحميات العربية. ذلك أن الشعب الفلسطيني فيها وإن كان عديم السيادة فهو على الاقل مرعي من الامم المتحدة وفيه تعليم وصحة وحريات لا توجد في أي بلد عربي بما فيها التي تظن غنية خاصة والفقر بدا يشمل الجميع بعد نزول سعر البترول. ومعنى ذلك فحتى ما يدعون أنه حقوق أولية من اجلها يخافون من الإسلاميين -أو ممن يمكن أن يخلص للقضية التي هي شروط السيادة حماية ورعاية ومن ثم شروط استئناف دور الامة-فإنهم ينبغي أن يعترفوا باستحالة تحقيقها فيما لأجله يدعون ثورتهم على خيار الشعب الذي يتهمونه بالجهل. عندما يدعي حاكم أمي مثل السيسي أو حفتر أو أي حاكم عربي أنه أدرى بمصلحة الشعب من الشعب نفسه بمنطق الوصي الذي يختار بدلا منه من يحكمه بالسلاح ويجد نخبا تصفق له كما نراه في مصر وسوريا والعراق إلخ.. فيحكم الأمن والجيش والمخابرات خدمة لمن لسادته الذين نصبوه: فتلك هو العبودية. ما الذي يحصل عليه هؤلاء النخب مقابل هذه الخدمات للأنظمة الفاسدة مما يسمونه الحداثة؟ هل الحداثة حتى في الغرب نفسه بعد أن انحطت قيمها فصارت إيديولوجيا استعمارية لم تصل إلى هذا القدر من التردي فأصحبت مجرد الأكل والشرب والإخلاد إلى الأرض: هل ننتظر فرصة الهجرة ولو بالارتماء في البحر؟ عندما أدرس ما سمي بجبهة الانقاذ في تونس وفي مصر ماذا أجد؟ كل الذين رفضهم الشعب لما توفرت له فرصة الاختيار الحر لمن يثق فيه لإدارة شؤونه العامة. وإذن فما يريدون إنقاذه ليس الأوطان بل استفرادهم بها الذي فقدوه والذي تقتضي استعادته استعادة شرطيه: الاستبداد داخليا والتبعية خارجيا هم إذن ينقذون سلطانهم السياسي بالمعنى الذي يشترك فيه النظام الثيوقراطي والنظام الانثروبوقراطي أعني سلطان الوساطة سواء كانت سماوية منافقة أو عجلية وسلطان الوصاية السياسية سواء كان بعنف القبيلة أو بعنف العسكر التابعين لعنف الذراعين التابعين لعنف المساندين من الخارج. هؤلاء هم نخب الثورة المضادة وإليهم أضم كل أمراء الحرب الذين كان ضررهم على الثورة وعلى الإسلام واستئناف دوره الكوني أخطر ألف مرة من كل أعداء الثورة البينين سواء من الأنظمة أو من نخبها بصنفيهم أعني الكاريكاتورين للتأصيل وللتحديث. ذلك هو الداء فماذا يمكن أن يكون الدواء؟

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي