لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالثورة لماذا تغير موقف نخب الحداثة منها؟
كيف نفهم المفارقة التي تجعل العلماني والليبرالي والقومي واللامبالي (المثقف المتعالي على الشأن العام) يبشرون بالقيم الحديثة ولا يتحالفون ذاتيا للبعض وموضوعيا للبعض الآخر إلا مع أعداء هذه القيم أعني نوعي الأنظمة العربية القبلية والعسكرية؟ هل يكفي الخوف من الإسلاميين تفسيرا؟ وقبل الكلام فيما يمكن أن يخيفهم من الإسلاميين فلنسأل ما بديلهم في تغيير الوضع والخروج من الاستبداد والفساد والتبعية وخاصة شروطها التي تجعلها بنوية وليس مجرد حالة ظرفية يمكن أن تزول من دون استراتيجية طويلة الأمد ليس لهم القدرة على الصمود فيها لإحداث التغيير الذي هو ثورة كبرى؟ لا بد أن القارئ قد لاحظ أني لم أذكر الشيعي والجامي ومرتزقة السلفية لأن هؤلاء هم بالجوهر ضد القيم الحديثة ولم يدعوا الدفاع عنها أو تمثيلها بل هو يزعمون أن كل ما هو حديث من القيم حتى لو كانت مطابقة لما يدعو إليه القرآن أو لا تناقضيه ولا تعاديه على الاقل. اكتفيت بمن يدعي التحديث. وإذا استعملت اصطلاحي فما يعنيني في هذه المحاولة إلا من يدعون القول بالانثروبوقراطيا ولهذا استثنيت القائلين بالثيوقراطيا. لكن لا بأس من القول إن من عجائب الدهر وقد حاولت شرح العلة في المحاولة السابقة الحلف ضد الثورة وضد الاسلام السياسي وحصرا الإخوان بين أصحاب الرؤيتين. فكما بينت في المحاولة السابقة فإن النظامين العربيين الحاكمين القبلي والعسكري ونخبهما بالرؤيتين الثيوقراطية والانثروبوقراطية كل هؤلاء يعادون الإسلام السياسي ويدعون الدفاع إما عن قيم الحداثة أو عن قيم الاصالة أو عنهما معا بالتداول وهم الحاكمون منذ الاستقلال والأمة في تراجع دائم. وإذا ما اعتمدت تونس ومصر عينة للكلام في الأمر فالملاحظ أن النخب التي ذكرت ادعت أنها هي التي قامت بالثورة ومعهم الاتحادات العمالية وأغلب الزعماء في النخبة السياسية والثقافية ثم بسرعة حصل في مواقفهم ما حصل في مواقف سادتهم الذين كانوا يتصورون الثورة ثمرة لمن أعدوهم لهذه الغاية. كانوا يتصورون أن ما يسمونهم بجمعيات المجتمع المدني هي التي قامت بالثورة وكانوا يعتقدون أنهم قد نجحوا في إيجاد البديل ممن خدموا بهم وانتهت صلوحيتهم لأن الشعوب لم تعد تطيقهم أو بصورة أدق لأن أكاذيبهم التي تضفي عليهم بعض الشرعية انفضحت وكان لا بد من تبديل “الطرحة”(=عجلات السيارة). والقادح لتغيير الموقف عند سادتهم ثم عندهم لم يحدث قبل الانتخابات الأولى التي أوصلت الإسلاميين للحكم في تونس ثم في مصر. وكانت غاية هذا التغيير معلومة: حدثت في الجزائر وحدثت في فلسطين ثم حدثت في مصر ولو وقعت انتخابات في سوريا لحدثت وقد حدث قريبا منها في ليبيا. فهل هذا صدفة؟ جواب هذا السؤال جاء على لسان ممثلة الاتحاد الأوروبي التي تظاهرت بالتدخل من أجل الصلح بين الرئيس المنتخب والرئيس المنقلب في مصر. ماذا قالت: إذا نجحت الثورة في مصر وتعاونت مع تركيا فالخطر كل الخطر هو المنتظر أو ما يقرب من هذا الكلام لأني لا اذكر نص قولها حرفيا. ولكن حتى لو لم تجب ممثلة الاتحاد الأوروبي التي لا تمثل دولا ذات إرادة حرة بسبب تبعية أوروبا لأمريكا وهذه بدورها لا يمكن ألا ترى هذا الرأي بسبب رعايتها لإسرائيل حارسة مصالحها في الاقليم وحامية عملائها فيه ومن عملائها بخلاف الظاهر إيران ومليشياتها كما بينت في غير موضع. لست غافلا عن عسر تصديق وصفي لإيران ومليشياتها بالعميلة لأمريكا وإسرائيل لأن غبار الصراع اللفظي بينهم هي التي تعمي البصائر. وفي الحقيقة ما يعمي البصائر عن هذه الظاهرة البنيوية في تاريخ التشيع هو الفكر المباشر الذي لا يحفر فيما وراء الظاهر عند أغلب النخب التي هي عامة ولا تدري. فلما أقول لبعضهم: مر على الخمينية ما يقرب من أربعة عقود فماذا فعلت ضد إسرائيل غير العنتريات وتوظيف المليشيات أوراق ضغط للسماح بتحقيق شروط بقاء النظام لذاته وعدم حصره في وظيفته التي تقتضيها استراتيجية أمريكا: دور الجرافة الداخلية لوحدة الأمة من خلال معارك الطائفية في مركز الإسلام. فذلك هو الدور الذي لعبه التشيع منذ الفتنة الكبرى إلى اليوم ومن الصليبية إلى الاستردادية إلى المغولية الشرقية إلى الاستعمار الأوروبي إلى المغولية الغربية (أمريكا): ففي كل هذه النكبات التي حل بالمسلمين كانت الشيعة حليفة أعداء الامة بالإرهاب (الحشاشين) وبالفاطميين وباختراق السنة. وقد بلغ الاختراق حدا جعل جل النخب السنية تصبح علقمية-من ابن العلقم-ظاهرهم سني وفكرهم احتلته الأكاذيب الشيعية التي ترد إلى خمس تهم استبطنها الكثير من السنة وسعوا لعكسها وكأنها من صفاتهم وهي محظ أسقاط لصفات الشيعي: الناصبية والوهابية والتكفيرية والإرهابية والعمالة لأمريكا. فمن بمقتضى عقيدته يكفر كل من لا يقول بالوساطة والوصاية لآل البيت ولا يستثنون حتى الصحابة ومن يستحل دماء كل من ليس شيعيا ومن من البدء تأسس على إرهاب الحشاشيين ومن من البداية كان دائما حليف أي محارب للمسلمين ومن هو مجرد أداة تجريف أمريكية يتهمك بكل ذلك أسقاطا عليك. فالبعض ممن يدعي الثقافة منهم يتهمني بالناصبية والوهابية والتكفيرية والإرهابية والعمالة لأمريكا لأني لا أقول الموت لأمريكا وأموت فيها مثلهم ولأني بحثت في فكر ابن تيمية الذي صار وهابيا أي إن الوراثة صارت من الحاضر إلى الماضي ولأني لا أكفر حتى غير المسلم ولأني أرفع الكذب على علي. وقد بلغ الكذب على علي -وهو براء مما يلصقونه به-اضطررت أحيانا لبيان دوره الثانوي في تاريخ الإسلام: فلم يكن من كتبة القرآن ولم يكن من قادة جيوش الفتح ومن ثم فهو كان مسلما عاديا ولا حجة لمن يفضله للحكم إلا القرابة والقرابة ليست حجة في الإسلام بل هي حجة جاهلية ولا معنى لها عندي. فلو كان له العلم الذي ينسبونه إليه لاختاره النبي لكتابة القرآن ولكان من الخبراء الذين وحدوا نسخه لما بدأ الخلاف يسري ولو كان بالبطولة التي يزعمونها له لكان أكبر قائد في جيوش الفتح ولا نعلم له فتحا قاده ولو كان ذا قدرة سياسية لما فشل في قيادة فترة حكمه القصيرة وشديدة الاضطراب. ورغم ذلك كله فقد ملت إلى حل ابن خلدون لطي صفحة الخلاف بين الصحابة واضفاء الاحترام والتبجيل على جيل التأسيس كله دون تمييز لأن ما أسسوه عظيم جدا ولولاهم لما تحققت دولة الإسلام وحضارته التي هي من أكبر حضارات الإنسانية: انطلاقا من نظرية الاجتهاد وضع مفهوم عدم التأثيم للجميع. وقد كتبت أول رسالة مفتوحة لعميل إيران وقائد مليشياتها بمناسبة هجومه على القاضي ابن العربي وابن خلدون في حكمهما على موقف الحسين في الحرب الأهلية. فابن خلدون نزه الحسين دينيا وخطأه سياسيا وذلك لتعديل كلمة ابن العربي الذي قال إنه قتل بشرع جده أي إنه خرج على الشرعية. والشرعية عند السنة درجتان: الكاملة وهي التي تجمع بين الشرعية -الانتخاب الحر او البيعة الحرة-والشوكة. لكن إذا غابت الشرعية فهم لا يفرطون في الشوكة لتجنب الفوضى. وهو ما يبررونه بالضرورة التي تبيح المحظور. لذلك فيزيد عند ابن العربي كان شرعيا بهذه الدرجة الثانية: شرعية التغلب. ويسميها ابن خلدون العصبية التي إذا دامت بدون شرعية فهي تفضي إلى الهرج. ولذلك نسب من حكم ابن العربي فاعتبر الحسين محقا دينيا لأن يزيد في رايه كان فاسقا لكن الحسين مخطئ سياسيا لأنه لم يعتبر عامل الشوكة والقدرة على دخول المعركة فأصبح عمله ضارا سياسيا. وفي الحقيقة فإن تحليل ابن خلدون على ما فيه من صواب ليس كافيا. ذلك أن السنة لم تكن تؤسس شرعية التغلب على الشوكة فحسب بل على أمرين آخرين: حالة الطواري وحماية البيضة. فالفتنة الكبرى أدت إلى اربعة حروب أهلية قبل أن تستقر الدولة في العقد الأخير من قرن الإسلام الأول (عبد الملك بن مروان). وأكاد أجزم أن عبد الملك أوصى ابنه ان يعيد تقديم الشرعية بمعناها القرآني على الشوكة التي هي الحد الأدنى للحكم في الإسلام. والدليل هو أن ابنه أوصى بالحكم ودعا إلى انتخاب الخليفة الراشد الخامس. ذلك أن مثل هذه الثورة ما كانت لتحصل لولا منزلة عبد الملك وابنه وكلاهما من أعظم الخلفاء. ولولا عبد الملك بن مروان لما تجددت دولة الإسلام واستأنفت دورها التاريخي الكوني واصبحت العربية لغة العلم العالمية واستقلت الدولة حقا عن التبعية الاقتصادية (العملة) والثقافية (التعريب) ولما أمكن لها للمسلمين الخروج من الحروب الأهلية واخراج بيزنطة من مما يسمى اليوم الوطن العربي. ثم إن الرجل كان من كبار علماء الدين وأكثرهم دراية بسياسة الدول لأنه باشر المسؤوليات السياسية من أدناها إلى اعلاها وربي في المدينة بين كبار الصحابة والعلماء ولم يكن مجرد وارث للحكم بل كان أيضا أهلا ومنجزاته التي وصفت تشهد: أخمد الثورات وعاد إلى الفتح في ضفة المتوسط الجنوبية. طال الاستطراد لكنه كان ضروريا قبل الشروع في محاولة تفسير ما يخيف النخب التي بدأت فأحصيتهم وبينت تغير موقفهم من الثورة وتزامنه مع أمرين: موقف سادتهم من فشل ما كانون يتصورونه تبديلا لجيل العملاء السابق بعملاء جدد ووصول الإسلاميين إلى الحكم سلميا وبالطريقة الديموقراطية الحديثة.