الثورة الخلدونية، ما الذي يحول دون ادراك كنهها؟ – الفصل السادس

ه

الثورة الخلدونية ما الذي يحول دون ادراك كنهها؟ – الفصل السادس –

يبقى السؤال الآن: ما الذي يجعل النخب العربية بصنفيها التي تدعي التأصيل والتي تدعي التحديث تنكص إلى ما تقدم على هذه الثورة رغم أنها حدثت مرتين عندنا -في القرن الرابع عشر للميلاد-الثامن للهجرة-وفي الغرب الحديث -في نهاية القرن الثامن عشر-في الرؤية الكنطية؟
فكلتا النخبتين عادت إلى ما يترتب على الرؤية القائلة بالمطابقة دغمائية وضيق أفق.
وطبعا الثورة لم تنتظر كنط إلا من حيث الصوغ.
لكنها كانت ضمنية منذ ديكارت: فلا يوجد فيلسوف كبير في الحداثة الأوروبية من ديكارت إلى كنط لم يكن قائلا ضمنا بأن العلم ليس محيطا. وكانوا يقولون ذلك بصورة مهذبة وهي أن في الدين ما لا يدركه العقل ولذلك نرفع الحكم فلا نتكلم في “الإلهيات” بما يردها إلى العقليات وكأن للإنسان علما محيطا: وتلك هي بداية التحرر من القول بالمطابقة.
فالنخبة التي تدعي التأصيل توهمت أن موضة القبول بالفلسفة التي تسمى إسلامية والتي كانت مرفوضة يعطيها ما تفاخر به عند الكلام على تأثير ثقافتنا في غرب العصور الوسطى إلى حدود بداية الحداثة فصارت تدافع عما كانت ترفضه كلاما وفلسفة وتصوفا. وهو دليل سوء فهم بين لهذه الثورة.
والنخبة التي تدعي التحديث تنقسم إلى نوعين: الحداثي المترمكس والحداثي المتلبرل.
والأول يعتبر الحداثة بدأت مع الماركسية لظنه أنها تجاوزت من تقدم عليها بحجة قلب فكر هيجل الذي كان يمشي إلى رأسه فجعلوه يمشي على رجليه. والثاني يعود إلى دور ابن رشد المزعوم أصلا لـحداثة العلمنة الغربية.
وإذا تجوزت فاستعملت مصطلح ارنست بلوخ في كلامه على اليمين واليسار الأرسطي قياسا على اليمين واليسار الماركسي أمكن القول إن نوعي النخبة التي تدعي التحديث يمثلها يسار الارسطية ويسار الهيجلية أو عابد الجابري (الرشدية الجديدة) والطيب تيزيني.
وبنحو ما فـحسن حنفي يجمع بينهما مترددا بين الرشدية والفيورباخية.
أما باقي محاولات الوصل المباشر بين فكرنا وفكر ما بعد الحداثة بدعوى التداوليات والسرديات فهي من الخرافات التي لم تستقر بعد على تأسيس فلسفي قابل للوصل بمدرسة بينة سواء بحثنا عنها في تاريخ فكرنا أو في تاريخ الفكر الغربي القديم أو الوسيط أو الحديث أو ما بعده.
ورغم هذا التنوع فإن هذه المدارس كلها تقبل الرد إلى أمر مشترك هو القول بالمطابقة سواء المطابقة برد الوجود إلى الإدراك في ما اصطلح عليه بلوخ بيسار الأرسطية (بمنطق ثنائي القيمة) وبيسار الهيجلية (بمنطق ثلاثي القيمة) وكلا المنطقين ينكص إلى المطابقة المتقدمة على نقد كنط والتالية لنقده.
والمقابلة طبعا صارت ذات عنوانين بينين:
فما كان يسمى قبل نشأة الفلسفة القديمة التي تواصلت في الوسيطة إلى مدرستنا النقدية في فكرنا وإلى مدرسة كنط النقدية في فكر الغرب مقابلة بين علمي ولا علمي أو خرافي صار يعتبر مقابلة بين علمي وإيديولوجي أو برهاني وغير برهاني بمصطلح المرحوم الجابري.
وصار عند تلاميذ هذه المدارس من الموسوسين الذين يريدون الظهور بمظهر علماء النقد الديني والفلاسفة بانتحال الالقاب (مثل بعض خريجي العربية ممن يدعون تمثيل الفكر الديني النقدي مثل أركون وأبي زيد والشرفي وبينهم تفاضل رغم أنهم في الحضيض الفكري) فالمقابلة صارت بين الواقع والنص نظرا لعلمهم بـ”الواقع” مباشرة دون وسائط نصية حتما لأن المعرفة العلمية في أي مجال نصوص نظرية.
وقد سبق فقدمت محاولة في ما ترتب على موقف ابن رشد من أدلة وجود الله الكلامية وموقف هيجل من أدلة وجود الله الكنطية لكون العودة إلى القول بالمطابقة عند الثاني جعله يشترك مع الاول في جعل الكلام في الإلهيات يحصل عندهما على ما تبين ثورة ابن خلدون عندنا وثورة كنط في الغرب استحالته.
ما يعنيني هو التطابق بين النكوصين: فالعائد إلى الفلسفة العربية ممثلة بابن رشد باعتبارها يسارا أرسطيا بلغة بلوخ والقائل بالماركسية باعتبارها يسارا هيجليا كلاهما عاد إلى نظرية المعرفة المطابقة أو إن شئنا القول بسذاجة رد الوجود إلى الإدراك وإطلاق العلم واعتبار ما عداه ايديولوجيا.
وينتج عن هذا النكوص الإبستمولوجي الذي يطلق العلم ويعتبر ما عداه إيديولوجيا في رؤية اليسار الهيجلي (الماركسيين بلغة بلوخ) وظاهرا نقليا ما فيه من حقيقة هي باطنة القابل للرد إلى العقلي بالتأويل في رؤية اليسار الأرسطي(الرشديين بلغة بلوخ) نكوص أكسيولوجي وهو الخلقي نتيجة الدغمائية المعرفية.
والمعلوم أن بلوخ قد استعمل هذه المقارنة في كلامه على ابن سينا والغزالي في كتابه حول اليسار الأرسطي ثم خاصة في محاضرته التي ألقاها في ألفية ابن سينا وتحدث فيها على ظلامية الغزالي لأنه يمثل يمين الأرسطية ومنها جاءت كل سطحيات اليسار العربي الذي يعتبر الغزالي سر انحطاط حضارتنا.
ولم يدر بخلدهم أنه لا يوجد فيلسوف عربي واحد تجاوز أرسطو لا في المنجزات العلمية ولا في المنجزات ما بعد العلمية. ذلك أن كل النظريات التي ليست من هذين النوعين ليست إلا رؤى وجودية يمكن نسبتها إلى مجال آخر وهو مجال لم نر له أثر حقيقي على تحولات قيمية وحضارية في تاريخ فكرنا بدليل حصول التحول النوعي الحداثي في رؤى الوجود الإنسانية وقع خارج حضارتنا بسبب منع هذه الرؤى من رؤية رؤاها بمحاولة ردها الديني إلى ما تصوروه علما مطابقا للوجود مطابقة تنتهي إلى حصره فيه.
والمعلوم أن رؤى الوجود إذا لم تبق متعددة باعتبارها تأويلات لما يرتسم في الذهن الإنساني من نظام يأتي بعديا لصوغ ما حصل من تجارب إنسانية في النظر والعمل والفنون يصبح بلغة ابن خلدون إطارا يصوغ الماضي ويستمد منه استراتيجية لتصور المستقبل فيكون ما بعدا لما تقدم عليه وما قبلا لما يتلوه فإنها تتحول إلى جمود ودغمائية تفرض على المستقبل عادات الماضي وكأنها حقائق نهائية.
وبذلك أصل إلى الهدف من إضافة هذا الفصل السادس للمحاولة: كيف نفهم الدغمائية المعرفية الناتجة عن هذا النكوص الأبستمولوجي للقول بالمطابقة والتعصب الخلقي الناتج عن هذا النكوص الأكسيولوجي. فضيق الافقي الذي يرد الوجود إلى الإدراك في النظر يؤدي إلى رد التاريخ إلى الإرادة في العمل.
والجامع بين هذين النكوصين هو المقولة السخيفة التي يجمع عليها المنتسبون إلى المدرستين: يكفي تأويلا للواقع وعلينا تغييره. وهو ما يعني أن علمنا “الواقع” علم نهائي ومطلق وعلينا أن نغير “الواقع” ليطابق علمنا. وكنت أقبل مثل هذا الرأي لو تعلق التغيير بتصوره ليطابق النظرية. وهذا هو معنى المادية الجدلية عند الماركسي ومعنى تأويل الأديان لتطابق علم الراسخين عند الفلاسفة والمتكلمين القائلين بالمطابقة وخاصة في صورتهم الحديثة عند المفكرين العرب.
مثال ذلك أن تغيير نظام حركات الأفلاك حول الشمس بدل الأرض أو الانتقال من بطليموس إلى كوبرانيكوس هو تغيير تصور نظام الحركات وليس تغيير الحركات نفسها. في الماركسية لم يكن القصد تغيير رؤية العلاقة بين الاقتصادي وما عداه بل تغيير المجتمع نفسه حتى يطابق الرؤية الماركسية.
وذلك للظن بأن الرؤية الماركسية “مطابقة” للـ”الواقع”. وبهذه الرؤية يقرأ أبو زيد تاريخ فكرنا وما يسميه نصوصا دينية يحاكمها بما يسميه واقعا وهو في الحقيقة بالرؤية الماركسية التي صارت صورة مطابقة للأصل الذي هو الواقع. فتفهم حينها كيف يقرأ ناصر حامد أبو زيد القرآن في ضوء الواقع-ويغفل عن كون ما يسميه واقع هو صورة الماركسية عن “الواقع”.
وكذلك كيف يقابل الجابري بين البرهاني الرشدي والبياني والعرفاني غير البرهانيين اللذين يعتبرهما دون البرهاني فائدة معرفية. وهو يقصد بالبرهاني ما يقصده أبوزيد بعلم “الواقع” الموضوعي علما مطلقا كما يفهم ذلك ابن رشد وكل القائلين بنظرية المعرفة المطابقة.
وطبعا فلا أبو زيد يدرك دلالة كلمة “واقع” ولا الجابري يدرك معنى “برهان. وإلا لما وقع في مثل هذا الفهم الرديء. فالبرهان في لغة أرسطو يعني ما يستمد من مقومات جوهر الموضوع (أو الجواهر الثواني التي يتألف منها حده أعني الجنس والفرق النوعي) وأعراضه الذاتية هي مقدمات الاستدلال البرهاني المطابق للوجود بالمعنى الأرسطي أي حقيقة ما يدركه العقل بالإدراك الحدسي أو الحقيقة في ذاتها جوهر موضوعه.
ومعلوم أن العلم الحديث لم يعد يقول بشيء من هذا الجنس لأن كل التعريفات التي ينطلق منها العلم تعتبر دائما توصيفا للموضوع مؤقتا تبنى عليه فرضيات التفسير ولا تقبل إلا في حدود ما يفسر حصيلة التجارب التي يجمع عليها علماء المجال في لحظة من لحظات تاريخ الفن وهي كعلم في تغير دائم.
فيكون ما يسمى واقعا أمرا مجهولا دائما والمعلوم هو صورة مؤقتة من شيء مجهول حصلت على اجماع أهل الاختصاص بتناسب مع ما اطلعوا عليه من تجلياته في تجاربهم المتغيرة بتغير النسق العلمي التفسيري ما يعني أن منظومة النظريات العلمية هي التي تحدد صورة “الواقع” أي ما يظن موجودا في الأعيان وخارج الأذهان وعباراتها النصية أو التصورية وليس العكس.
ولو كان هؤلاء “الواقعيون” والبرهانيون مطلعين فعلا على الأبستمولوجيا الحديثة -دوهام رغم كونه من بداية القرن الماضي وكواين-لأدركوا أن “الواقع” والبرهان بمعنى المطابقة لحقيقة المقومات الجوهرية والذاتية للواقع -صور تبدعها النظرية وليست حقائق موضوعية ما يجعل العلم يقرب من “السردية الذهنية”.
ولو قلنا بالسرديات فاتبعنا الزعم المقابل للإبقاء على المطابقة لقلنا بنيتشوية مطلقة يكون فيها العلم من جنس الابداع الفني الذي يبدع الموضوع ابداعه لعلمه أو لصورته فلا يكون الموضوع إلى الصورة التي يبدعها الفن نفسه. وهذا ايضا قول بالمطابقة ردا للوجود إلى الإدراك ونفيا للتعالي.
وأهمية النقد سواء في مدرستنا أو في مدرسة كنط هو أثبات التعالي أو ما يتجاوز الإدراك مهما سما هذا الإدراك وتوهم صاحبه أنه أحاط بالموضوع. فلا توجد إحاطة مطلقة بأي موضوع مهما كان بسيطا. وحتى بالمنظور الفينومينولوجي فمن خصائص الإدراك أنه دائما فعل عناية ذهنية متوجهة (القصدية) إلى أمر يتجاوزه ويتعالى عليه حتى لو كان ذاته حتى لو لم يضعه موجودا في الأعيان.
فحتى إدراك المرء لذاته فإنه ليس مطابقا بل إن إدراك الذات لذاتها غير ذاتها وهو دائما شبه موقف للذات من ذاتها وكلنا يعلم أننا مهما حاولنا أن نطابق ذواتنا فإننا نشعر دائما أننا إما قبلها نتفرج عليها وكأنها توقع أو بعدها وكأنها ذكرى.
أما التطابق بين الوعي بالذات والذات فمستحيل.
وبذلك يتبين أن هذا النكوص الإبستمولوجي (رؤية محرفة للنظر) يؤدي إلى نكوص أكسيولوجي (رؤية محرفة للعمل) هو جوهر كاريكاتور الحداثة عند النخب العربية التي تدعي التحديث وهو أصل الفاشية والإرهاب سواء كان ماركسيا أو قوميا ويقابله جوهر كاريكاتور عند النخب العربية التي تدعي التأصيل بنفس النكوصين المرضيين.
فكلتا النخبتين لهما رؤية ابستمولوجية قروسطية يمثلها النكوص إلى القول بنظرية المعرفة المطابقة التي تردي الوجود إلى الإدراك بتوسط ابن رشد الناكص لأرسطو وماركس الناقص لهيجل والأربعة يقولون بالمطابقة ويعتمدون مقابلة دغمائية بين العلم المطلق واللاعلم المطلق لردهم الوجود إلى الإدراك.
ولذلك فهم الأربعة وكل المتتلمذين عليهم لا يمكن الا يكون لهم نفس النكوص الأكسيولوجي في العمل بحيث إن تصورهم الدغمائي للعلم يؤدي إلى تصورهم الإرهابي للعمل. فتكون الفاشية العلمانية والقومية ثمرة هذين النكوصين عند كاريكاتور التحديث وكاريكاتور التأصيل حزبي الحرب الأهلية العربية.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي