****
الثورة الخلدونية ما الذي يحول دون ادراك كنهها؟ – الفصل السابع –
ولولا هذا التحليل هذه العلاقة بين النكوص الابستمولوجي وما ترتب عليه من نكوص أكسيولوجي لما أمكن لي فهم ظاهرتين عجيبتين صحرت الأرواح في الحضارة العربية الإسلامية الحالية: فالذين يدعون تمثيل الروحانيات تقتصر عندهم على قشورها والذين يدعون تمثيل العقليات تقتصر عندهم على حسياتها عندهم.
ما الذي يجعل الدين يتحول إلى قشور تعبدية عند ادعياء التأصيل سواء كانوا فقهاء أو متصوفة والذي يحول الفلسفة إلى قشورية مادية -وهي تعبدية عندهم-سواء كانوا فلاسفة أو متشاعرين؟ لماذا هذا التهالك على ما لا يتجاوز سطح الوجود الروحي والمادي دون عمق روحي أو عقلي؟
وهنا يلتقي بحثي في النكوصين الابستمولوجي والاكسيولوجي ببحث آخر يتعلق بمستويات إدراك أبعاد الوجود من خلال مقومي كيان الفرد من حيث هو شبه جهاز وصل بين الطبيعة عامة والحياة العضوية خاصة يأخذ من الأولى ويعطي للثانية ببعدي قيامه العضوي رمزا لهما بأخذ شرط قيامه واعطاء شرط بقاء النوع.
وقد رمزت لهذا الجهاز بالفرد الإنسان ممثلا في كيانه العضوي والروحي ومن حيث كون كونه حدا أوسط بين الطبيعة والحياة باستعارتي المائدة والسرير. فالمائدة ترمز إلى الغذاء المستمد من الطبيعة والسرير يرمز إلى الجنس المعطي للحياة. وبهذا يمكن أن أصنف كل مراحل المناخ الذي يتم فيه الإدراك الإنساني للوجود بمستويات ما دونهما وما فوقهما.
والفكرة يوحي بها القرآن من خلال الكلام على مفهومين هما:
- مفهوم الأكل أكل الأنعام
- ومفهوم الإخلاد إلى الأرض.
وكلاهما يجعلان الإنسان فاقدا لما يتميز به عن الحيوان. فالمفهوم الأول بين تعلقه بالأخذ من الطبيعة والثاني مثله لكن الأول قياس على أكل الحيوان عامة والثاني على لهيث الكلاب.
وسأحاول وصف مستويات الإدراك الوجودي باستعمال هذين الوجهين المادي (الأكل أكل الانعام) والمعنوي (استعارة لهيث الكلاب) حول الأكل رمزا إليه بالمادة والجنس رمزا إليه بالسرير في بعديهما المادي والمعنوي بحيث يمكن التمييز بين خمسة مستويات من الإدراك الوجودي بمقتضاهما.
المستويات: - ما دون المائدة والسرير
- المائدة والسرير
- ما دون فن المائدة وفن السرير
- فن المائدة والسرير
- ما فوق فن المائدة والسرير.
والوسط هو “ما دون فن المائدة والسرير” وهو قلب المعادلة التي تحدد مستويات الإدراك الوجودي التي تمثل درجات تجاوز الحيوانية والسمو إلى الإنسانية أو البقاء دونها.
وهذه الرؤية التي تنبني على دور “نحلة العيش” في تحديد الرؤى الوجودية للجماعات وصفات سلوكها وحتى خصائصها النفسية الفردية والجماعية رؤية خلدونية (بصوغ جديد أنسبه إلى نفسي انطلاقا من رفض المنطق الجدلي التثليثي وبه يتم تجاوز فرويد وماركس وداروين لأنها قابلة للتطبيق على الحي من حيث هو حي) مختلفة تماما عن الرؤية الماركسية التي يتوهم الكثير أن ابن خلدون ينتسب إلى ما يعد إليها بل هو يحرر منها كما بينا في غير موضع.
فلنشرح دلالتها: - مستوى ما دون المائدة والسرير هو السعي للحصول عليهما
- مستوى المائدة والسرير عند الحصول عليهما
- ما دون فن المائدة والسرير هو السعي للحصول عليهما
- فن المائدة والسرير عند الحصول عليهما
- والأخيرة ما بعد فن المائدة والسرير وفيها تبدأ الدائرة المفرغة أو التقاء البداية والغاية بسبب انحطاط الترف.
لماذا اعتبرت المستوى التي يمثل الوسط “ما دون فن المائدة والسرير” بين المستويين الاثنين المتقدمين عليه والمستويين الاثنين المتأخرين عنه مركزيا؟ لأنه هو المستوى الذي يتضح فيه لصاحبه التأرجح والنوسان بين الاشرئباب إلى ما يتجاوز اكل الأنعام والإخلاد إلى الأرض والانشداد إليهما.
ورغم أن هذا التصنيف والتسميات هي من وضعي فإنها تعتبر أساس التفسير الخلدوني والافلاطوني لدورة العلاقة بين السياسي كسلطة وازع أجنبي (حكم الغير للذات) ودور الاقتصادي والاجتماعي في مسار الجماعة والخلقي كسلطة وازع ذاتي (حكم الذات لذاتها) ودور الخلقي والاجتماعي في مسار الفرد والجماعة.
وإذا كان أفلاطون يدرس المسارين في الجمهورية من منطلق نظريته في بينة النفس المثلثة (العقل والغضب والشوق) فإن ابن خلدون يدرسهما في المقدمة من منطلق أبعد غورا حتى وإن كان لا يستثني البعد النفسي الذي يجعله تابعا له وهو البعد الذي يسميه “نحلة العيش” المادي والمعنوي.
سأترك افلاطون جانبا وسأكتفي بمواصلة الكلام على ثورة ابن خلدون: “فنحلة” العيش عند ابن خلدون مفهوم جوهري في نظريته لأنه يشمل نوعي العمران البدوي والحضري ويؤسس لتناظر عجيب بين اقصى البداوة (العرب بمعنى رعاة الأبل منهم ومن غيرهم) وأقصى الحضارة (الترف في كل جماعة): البداية والغاية.
ورغم أني عربي صميم فإني سأقول ما يحجم الكثير عن قوله: مشكلة العرب الحالية أنهم عاشوا سابقا ويعيشون الجمع بين كل عيوب البداية وكل عيوب الغاية أعني ما يترتب على شظف العيش والترف دون أن يكون بين الامرين الجهد الإبداعي الذي ينقلهم من الأول إلى الثاني وذلك في كل تاريخهم.
ففي الماضي كانوا في هذا الوضع لأن العلية منهم كانوا عاطلين وغيرهم يخدمهم. البقية كانوا توابع لم يخرجوا مما كانوا عليه في الجاهلية. وهم اليوم في نفس الوضع: من كان لهم في ارضهم ثروة طبيعية يبيعونها ولا يعملون ومن ثم فليس لهم دور إنتاجي لا مادي ولا ثقافي يعالج مشكلتي الإنسان.
ومشكلتا قيام الإنسان الحر والكريم هما حل العلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعية (الاستعمار في الأرض) بعلم قوانينها للاستفادة من خيراتها وحل العلاقة الافقية بين الإنسان والإنسان (الاستخلاف في الأرض) بعلم سنن التاريخ للاستفادة من انظمة الوجود المشترك الذي ييسر التبادل والتواصل بين البشر بصورة تجعلهم أحرارا يرعون أنفسهم ويحمونها.
ويمكن القول إن ابن خلدون قد وصف ذلك وصفا نشعر فيه بالكثير من الألم عندما خصص فصولا لعلاقة العرب (بالمعنى الذي بينت) بالآثار الحضارية (ممثلا ببني هلال) وعلاقتهم بالحضارة نفسها عند كلامه على آثار ترف الأقوياء ومجاعة الضعفاء وما يترتب عليهما من انحطاط خلقي حتى يختلط الحابل بالنابل و”تفسد كل معاني الإنسانية” (مصطلح خلدوني).
ولا تحتاج إلى الكثير من قراءة التاريخ فيكفي أن ترى المدن العربية الكبرى والمقارنة بين أغنيائها وفقرائها أو بين سكانها في الأحياء المرفهة وفي ما حولها من مدن قصديرية فترى كيف تلتقي أقصى البداوة بأقصى الحضارة التي هي حضارة الانحطاط والترف والاستهلاك وليست حضارة بناء الحضارة.
لكن الجديد-وهو مرض الوضع العربي الحالي المتمثل في نخب الكاريكاتورين التأصيلي والتحديثي-هو أنظمة التعليم العقيم الذي عم في المجتمعات العربية والتي جعلته لا يتجاوز ما يناسب هذه المستويات التي تتعلق بـ”نحل العيش” الذي لا يعد للقدرة على حل العلاقتين العمودية والافقية: تكوين متطفلين لا يقدرون على شيء.
فتبدي الأعيان وتحضر الأذهان يجعل الأصالة والحداثة قوليتين وليستا فعليتين. لذلك فكاريكاتور التأصيل جيش من الايديولوجيين الدينيين الذين لا يصلحون للدنيا وليس لهم من الدين إلى الكلام عليه. وكاريكاتور التحديث جيش من الإيديولوجيين لا يصلحون للأخرى وليس لهم من الدنيا إلى الكلام عليها.
وكلام كلا الكاريكاتورين على غايته تنحصر في ذم غاية الثاني: كاريكاتور الحداثة الكلامية صار حربا على الآخرة وذمها وكاريكاتور الأصالة الكلامية صار حربا على الدنيا وذمها لكنهما كلاهما عبيد الدنيوي الذي يعيشانه بنكهة الآخرة أي إن الدنيا صارت غاية مثلى لأنها حاضرة حضور المنشود المعدوم.
ولذلك فهم يجدونها في عبادة من يمثلها: كلا الكاريكاتورين عبيد لمن بيدهم السلطة السياسية والاقتصادية. هم عبيد للدنيا التي يتنازلون على كل ما عداها ولو للحصول على فتاتها. وذلك هو عين ما يعنيه القرآن بالأكل أكل الأنعام والإخلاد إلى الأرض. ولتحضر أي لقاء للمثقفين في أي بلد عربي ولن ترى إلا كمن جاء من بعد مجاعة إلى مطعم وحانة.
وليس بالصدفة أن كانت الأوساط الثقافية والفنية-قد يظن أنها تحاكي نظائرها في الغرب بمعنى النموذج المتحلل خلقيا والمتجاوز للقيم التي لا توجد كما يقول أرسطو إلا في الوسط لان الطبقة الأدنى لم تصل إليها والطبقة الاعلى تجاوزتها-كلها من الطبقة الوسطى التي تدعي تجاوزها قبل أن تصل إليها.
ذلك أن التناظر الذي اكتشفه ابن خلدون بين أقصى البداوة وأقصى الحضارة من حيث رمزية التهديم الحضاري ينطبق الآن على المستوى الثاني والمستوى الرابع فيكون التناظر بين الاول والخامس له نظير هو التناظر بين الثاني والرابع وبنفس الأثر: مستوى المائدة والسرير ومستوى فنيهما.
ولهذين المستويين اسم علم في بلاد العرب على الاقل عندنا في تونس وهم من نسميهم الأغنياء الجدد: فهم وصلوا إلى المائدة والسرير أي تجاوز ما ربوا عليه من فقر سابق ماديا لكنهم لم يتجاوزوه روحيا ونفسيا فأصبح ذلك يبرز في سلوكهم التبذيري وفي الحرص على رموز الثراء المادي مع الفقر الروحي.
فعندهم فن المائدة وفن السرير يمثلان عدم الذوق المطلق وهذا تراه خاصة في موائد العرب وأعراسهم وفي علاقاتهم الجنسية التي هي أقرب إلى الحيوانية منها إلى جماليات الحياة العاطفية والجنسية.
وكلا الفنين من “أقعر” ما عرفت البشرية لأن أهم شيء فيهما هو التبذير والتفاخر وليس الذوق الفني.
ولأختم بعبارة قد تعاب علي للظن أني اقصد بها بعض العرب دون بعضهم الآخر: واعني الافراط في العمران المحاكي لأمريكا سواء العمران الناطح للسحب عند عرب الخليج أو العمران المتعلق بمساكن الاسر المرفهة. فلو أنفق العرب ما وضعوه في الحجارة باسم العمارة لكانت لهم فعلا حضارة.